حددت جولة بيل كلينتون الاخيرة بشكل مثير المعالم السياسية لجنوب آسيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وجرى التودد الى الهند، اكبر ديموقراطية في العالم، وكسبها عبر زيارة استمرت خمسة ايام وعرض استثمارات خارجية تبلغ اربعة بلايين دولار. ولقي الرئيس الاميركي ترحيباً حاراً في البرلمان الهندي واُستقبل بحفاوة في ارجاء البلاد. وتدافعت الحشود لمشاهدته واستقبل بصيحات الاستحسان في كل مكان. في المقابل، وفي تناقض صارخ، عوملت باكستان ببرود متعمد وزيارة دامت خمس ساعات في نهاية جولة كلينتون. وكانت شوارع باكستان، احدث ديكتاتورية عسكرية في العالم، خالية من المارة عندما وصل الرئيس كلينتون الى اسلام آباد. فقد اُعلن حظر تجول غير رسمي بحجة ضرورات امنية. وعكس صمت الشوارع المقفرة بشكل معبّر حال بلاد شهدت تعليق البرلمان وحظر الانشطة السياسية وفصل القضاة. كان الدافع الاول وراء زيارة الرئيس الاميركي المخاوف من احتمال نشوب نزاع آخر بين باكستانوالهند، خصوصاً بعدما امتلك كلا البلدين اسلحة نووية، ورغبته في معرفة مدى استعداد الجانب الباكستاني لاجراء تغيير في توجهاته السياسية. ثانياً، ابقاء خطوط الاتصال مع الحكام غير المنتخبين مفتوحة تحسباً لاحتمال تفجر نزاع جديد. ثالثاً، اعطاء اشارة مفادها ان واشنطن لم تتخل عن الشعب على رغم عزمها على ان تنأى بنفسها عن الحكام. وحتى قبل ان يصل الرئيس الاميركي الى اسلام آباد، اكد ساندي بيرغر مستشاره لشؤون الامن القومي ان سياسة التحدي الاستراتيجي التي تتبناها باكستان في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لا تلقى تفهماً لدى المجتمع الدولي. واشار في تصريحه الى "حقائق لا يمكن انكارها"، لافتاً بوضوح الى ان باكستان "بلد يعاني مشاكل". واكد كلينتون هذه الرسالة عندما خاطب الشعب الباكستاني عبر التلفزيون وفي المحادثات التي اجراها مع نظام الجنرال برويز مشرف. وعبّر بوضوح عن "قلقه بشأن الوجهة التي تسير عليها باكستان". وبدا المأزق الذي انتهت اليه المفاوضات واضحاً، اذ لم يتوصل الطرفان الى اتفاق على رغم ادعاء حاكم البلاد بان "الزيارة تبشر بمستقبل افضل لمنطقتنا وبتعزيز العلاقات الثنائية". ربما اتفقت آراء الزعيمين بشأن لعبة الغولف، لكن لم يكن هناك ما يتفقان بشأنه عدا ذلك. فقد رفض الجنرال مشرف اعطاء جدول زمني للعودة الى الديموقراطية التي تبقى وحدة البلاد مهددة من دونها. وعلى رغم إقراره بانه لا يتوقع ان يبقى في السلطة لفترة طويلة، فان ستة اشهر مضت منذ ان تسلم السلطة اثر انقلاب ابيض ولا يلوح في الافق ما يشير الى إعادة العملية الديموقراطية. ولم تؤد السياسات الانتقامية التي اتبعها ما يسمى ب "مكتب المساءلة القومي" الاّ الى تعميق الانقسامات السياسية وشل اوساط الاعمال. كما لم يقدم الجنرال مشرف أي تنازل على صعيد قضية كشمير حيث تصاعدت اعمال العنف وقتل 35 من السيخ خلال زيارة الرئيس الاميركي الى الهند. وقال كلينتون "ليس هناك حل عسكري للنزاع في كشمير"، معتبراً انه "من الخطأ مساندة الهجمات على المدنيين وراء خط المراقبة". وعلى رغم انه يمكن تأويل الكثير مما قاله كلينتون باعتباره يخص باكستان، فانه ينطبق ايضاً على الهند. فكلا البلدين يشكو من الاجحاف بحقه وينغمس في العنف ويتحمل المسؤولية عن اعمال تسبب وقوع اصابات في صفوف المدنيين عبر الخط الذي يقسم كشمير. وكلاهما بحاجة الى ان ينبذ سفك الدماء وما يشيع الفزع، وان يجد وسيلة لانهاء العنف بشكل متبادل من دون ان ينتقص ذلك من آرائه عموماً بشأن النزاع. سارع الجنرال مشرف الى الرد بانه "مستعد لحوار في أي مكان وزمان وعلى أي مستوى". وعلى رغم انه لا يستبعد حدوث اتصال ما بين الطرفين، فانه سيكون من السذاجة افتراض ان الهند ستكون مستعدة لاجراء محادثات. فباكستان بلد يعيش في ظل ديكتاتورية عسكرية واقتصادها ضعيف. وهي تعاني عزلة دولية كاملة. ولن تكون الهند مستعدة لأن تسمح لباكستان بالخروج من ورطتها ما لم تلمس تغيراً جوهرياً في الوضع على الارض مع ذوبان الثلوج. وهذا، كما تدل المؤشرات، شىء مستبعد. وادى رفض اميركا التوسط في النزاع الكشميري الى احساس عميق باليأس في باكستان. لكن هذه التوقعات لم تكن اصلاً في محلها. فاميركا اكدت بثبات على مدى سنوات انها لن تتوسط الاّ اذا وافق كلا الطرفين، وبقيت الهند غير مستعدة للسماح بهذه الوساطة. ومع استمرار موقف الهند وعنادها، تتعرض باكستان لضغوط للتوصل الى حل ثنائي للتوتر المتصاعد في المنطقة. فعدم القيام بذلك سيشجع الهند على اجتياز الحدود في المنطقة المتنازع عليها. واخذاً في الاعتبار ان الاميركيين ليسوا مستعدين لمساعدة باكستان على الخروج من المأزق ما لم تكون مستعدة لانقاذ نفسها، لا يوجد لدى باكستان خيار بهذا الشأن. كان يمكن لباكستان ان تتجنب هذا الوضع وتكسب احتراماً دولياً لو انها ابدت استعداداً لاتخاذ خطوات في مجال الحد من انتشار الاسلحة النووية. لكن اسلام آباد اظهرت تشدداً هنا ايضاً. وكانت حكومة "الرابطة الاسلامية" وعدت في الاممالمتحدة بالتوقيع على معاهدة حظر التجارب النووية بحلول ايلول سبتمبر 1999. وحصلت مقابل ذلك على إعادة جدولة سخية للديون تبلغ بلايين الدولارات. لكن الوعد لم ينفّذ. وبدا ان النظام يسعى باقتراحه "استئناف الحوار مع الولاياتالمتحدة بشأن القضايا النووية" الى الاستمرار في استغلال المسألة. واخذاً في الاعتبار الوضع المالي المحفوف بالمخاطر، الارجح انه كان يعتقد ان بامكانه الحصول على إعادة جدولة اخرى اذا اعطى موعداً نهائياً جديداً لتوقيع المعاهدة. لنا ان نتذكر هنا حكاية الخروف الذي تظاهر بالاستغاثة من الذئب وكرر ذلك مرات فلم يصدقه احد ويهب لنجدته عندما هاجمه الذئب فعلاً. فأميركا كانت تتطلع الى تحقيق اختراق مع باكستان خلال زيارة كلينتون. وكانت تحتاج الى اشارات بان باكستان مستعدة للقيام بدور دولي مسؤول اكثر. لكن العناد الذي اظهره النظام بهذا الشأن ادى الى ضياع الفرصة. وعلى رغم ان الحكام العسكريين وعدوا ببذل "جهود" لتقديم اسامة بن لادن، الرجل الذي تلاحقه اميركا، الى العدالة فانهم لم يعطوا أي التزام. وبدلاً من ذلك، سُرّبت اخبار مفادها ان بن لادن يحتضر بسبب عطل في الكلى والكبد. ووعد الجنرال مشرف بان تشارك باكستان "في كل الجهود الدولية لمكافحة الارهاب". ولم يشر اطلاقاً الى الجهود الثنائية على هذا الصعيد. وتحدث النظام عن خططه لتجريد المجتمع من السلاح، الاّ انه لزم الصمت في ما يتعلق بنزع سلاح "المدارس" التي تقدم التدريب العسكري لجماعتي "لاشقر الطيبة" و "حركة المجاهدين". وبدا التناقض صارخاً اكثر من أي وقت مضى. فالمفارقة تكمن في ان الصين وايران والهند، جيران باكستان الثلاثة الذين كانت لديهم صعوبات مع اميركا، يتحركون لردم الهوات التي تفصلهم عنها. اما بالنسبة الى باكستان، التي كانت اقوى حلفائها، فان هذه الهوة تتسع. وكان كثيرون في اوساط صنع القرار في باكستان اقنعوا انفسهم، انطلاقاً من سياسة التحدي الاستراتيجي، بأن المجتمع الدولي لا يمكن ان يتخلى عن باكستان في حال تعرضها الى تهديد من الهند خوفاً من احتمال تفجر نزاع نووي. لكن هذا الايهام لم يعد ينطلي على احد. إذ اكد المجتمع الدولي انه لن ينقذ باكستان من مأزقها ما لم تبدأ بترتيب بيتها. فهل باكستان مستعدة للقيام بذلك؟ لا يمكن لأحد ان يجيب على هذا السؤال سوى الجنرال مشرف. لقد رحل الرئيس الاميركي، والبلاد ما تزال في صدمة احدثتها صراحة ما قاله ضيفها. واذا كان الجنرال الباكستاني ديبلوماسياً فإن ضيفه لم يترك مجالاً لأي غموض. لقد تنازل النظام العسكري وسمح للرئيس الاميركي بان يتوقف في اسلام آباد بأمل ان ينال شرعية. وبُنيت هذه الامال من قبل مستشارين يفتقرون الى الكفاءة ويعجزون عن رؤية حقائق عالم متغير تحل فيه الاسواق مكان الصواريخ كمقياس للنفوذ الذي يتمتع به أي بلد. فباكستان المفلسة تراجعت في سلم الاهمية حتى في الوقت الذي تلوح فيه بقنابلها النووية وصواريخها ومخاطر الارهاب. وتمثل عناصر التحدي الاستراتيجي هذه بالذات اعظم خطر على امن باكستان في الوقت الحاضر. وها هي بنغلادش، التي كانت حتى بضع سنوات خلت توصف بالبلد "المقعد"، يُحتفى بها كبلد ليبرالي يتمتع بالحرية والاسواق الحرة. حتى في الوقت الذي كان فيه الجنرال مشرف يبذل قصارى جهده لاعطاء انطباع ايجابي عن زيارة الرئيس الاميركي في مؤتمره الصحافي، لم يتوان ضباطه عن التعبير، وعلناً، عن سخطهم لانهم عوملوا بازدراء. فهؤلاء الضباط الذين اعتادوا على تملق المداهنين لهم، صدموا بقوة عندما سمعوا بشكل مباشر تقويماً "جدياً وصريحاً" لوضعهم. ربما كان وضع باكستان سيكون مختلفاً لو ان الزمرة العسكرية اصغت للاحزاب السياسية التي طالبت بجدول زمني لعودة الديموقراطية واطلاق السجناء السياسيين وبالتوصل الى اجماع وطني بشأن قضايا الامن المهمة. لكن الرجال الذين يرتدون الزي العسكري يعاملون المدنيين باحتقار، من دون ان يدركوا ان الرجال الذين يمتطون صهوة الجياد هم الذين يفتقرون الى الاحترام في عالمنا اليوم. لم يفت الوقت بعد. لقد وصف الجنرال مشرف نفسه اخيراً بأنه "عسكري جدير بالثقة وإيثاري". وحان الوقت لأن يُظهر هو ونظامه هذا الايثار ويثق بشعب باكستان ويمنحهم الفرصة ليقودوا باكستان في اتجاه السلم الاقليمي والتوافق الداخلي. وبوصفه عسكرياً حظي بتكريم كضابط كوماندوس جرىء، لا بد انه يدرك ان الامر يتعلق بما هو اكثر من مجرد لعبة غولف. * زعيمة حزب الشعب الباكستاني، رئيسة الوزراء السابقة.