لم يكن ينقص لبنان في بلبلته إزاء الإنسحاب الاسرائيلي المرتقب من أراضيه المحتلة سوى "موقف شخصي" من "وزير الدفاع". فهذا الموقف الذي افتقد الحكمة والدراية أساء الى لبنان قبل ان يسيء الى الوزير نفسه. ولعله يمثل نموذجاً للمغالاة في استرضاء سورية الى حد لا تحتمله سورية نفسها في هذا الظرف الحرج، فحتى لو كان لبنان في صدد التفكير في طلب انتشار سوري على الحدود مع اسرائيل فإن المبادرة الى اعلان ذلك الآن قد تفسد المسعى كله. أما إذا كان تسريب هذا "الخيار" اللبناني مقصوداً، أو "هامش المناورة" كما سماه، فقد كان أجدى ان يصار الى التسريب عبر قناة أخرى يمكن ان تعطي المناورة شيئاً من الجدية والصدقية. اذ ان الجميع يعلم ان دخول الجيش السوري وانتشاره في لبنان تم في حينه بعد تشاور دولي واقليمي أسفر عن تحديد "خط أحمر" عند نهر الأولي لا يسمح له بتجاوزه. من هنا ان تجاوز هذا الخط الى خط جديد في الجنوب لا بد ان يستدعي تشاوراً جديداً. أي، بكلمة، يحتاج الأمر الى موافقة اسرائيلية. وليس في الوارد الآن ان توافق اسرائيل لأن الظروف تغيرت. وإذا وافقت فإنها ستفعل فقط بهدف توريط سورية. في أي حال، أثار "الموقف الشخصي" لوزير الدفاع اللبناني ردود فعل اسرائيلية ذات دلالة. وبعدما قال ايهود باراك ان الانتشار المحتمل للجيش السوري في جنوبلبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي "غير قابل للتطبيق"، لاحظ ان كلام الوزير اللبناني "يكشف بعض الاحراج لدى الجانب الآخر". أما الوزير بنيامين اليعازر فردد ما قاله آخرون وهو ان "لا أهمية لتصريحات الوزير اللبناني" ليضيف ان اللبنانيين "لا يعرفون كيف يتعاملون مع انسحابنا". وزاد يوسي بيلين ان تلك التصريحات "تكشف خصوصاً قلق السلطات اللبنانية من تحمل مسؤولياتها على الأرض" بعد الانسحاب. واعتبر شلومو بن عامي ان تلك التصريحات "تعكس حال الارتباك السائدة في بيروت". هذا التوصيف الاسرائيلي لحال السلطة اللبنانية، هل هو صحيح؟ مع أخذنا في الاعتبار انه كلام يأتي من عدو، لا يمكن ان ننسى انه عدو قرر ان ينسحب من أرض لنا يحتلها، وطالما طالبنا المجتمع الدولي بأن يضغط عليه لينسحب مطبقاً القرار الدولي الرقم 425. من المؤكد انه قرر الانسحاب لأن له مصلحة في ذلك، لكن الأكيد انه ينفذ ما أراده لبنان، وإذا صحت أنباء تنسيقه مع الاممالمتحدة فهذا يعني انه سينسحب وفقاً للقرار 425. من المؤكد أيضاً انه ينصب "فخاً" يبرر فيه لنفسه كل عدوان مقبل، لكن من شأن لبنان ان يحسم أمره في كيفية التعامل مع الانسحاب ومع ما بعد الانسحاب. من المؤسف ان تكون حالات "الارتباك" و"القلق" و"الإحراج"، التي تحدث عنها الإسرائيليون، صحيحة. بل من غير المعقول ولا من المقبول ان تكون هذه حال السلطة اللبنانية في تعاطيها مع استحقاق الانسحاب الاسرائيلي. ولا يعرف اللبنانيون عموماً سبباً لذلك، فهم يعتقدون ان الجيش اللبناني قادر على بسط سيطرته على المناطق المحررة، وحتى اكثر المؤيدين لتلازم المسارين اللبناني والسوري حماسة لا يمكن ان يبرروا التعاطي بمثل هذين السلبية والحرج مع الانسحاب الاسرائيلي. بالطبع، يعني هذا الانسحاب ان سورية ستخسر ورقة مساومة تفاوضية، ولكن ما العمل، هل يرفض الانسحاب ويعرقل لتبقى لسورية "ورقتها"؟ كثيرون يعتبرون ان الانسحاب يأخذ شكل "الهزيمة" لاسرائيل. ولكن التعامل معه بهذه الطريقة يضيع "النصر" الذي يجسده ذلك الانسحاب. لذلك، لا بد من الوضوح. والأهم، لا بد من موقف لبناني جريء يتمسك خصوصاً بمصلحة البلد، وإلا فإن للتخبط والارتباك تبعات لن يستطيع لبنان تحملها. ولا شك ان الانسحاب فرصة لكي يعتبر لبنان ان "حربه" مع اسرائيل قد انتهت، سواء عقد معها اتفاق سلام أم لم يعقد. عدا ذلك، يكون المسؤولون اللبنانيون اختاروا بأنفسهم هذه المرة ان يكون لبنان - أو ان يبقى - ساحة صراع مفتوح بين سورية واسرائيل.