وصف نقاد وشاعرات أن القضية رسالة كل فن إبداعي، إلا أن الشعر له من المقومات البنائية الفنية والجمالية ما يجعله وسيلة لتسجيل وسما خالدا على أديم الزمن لقضية خلّدها شاعر، أو آخر خلّدته القضية، في حالة تنازع «وجودي» مثلّثه: الشاعر.. القضية.. القصيدة. بالشعر تحيا القضايا أكدت الشاعرة والكاتبة زينب غاصب، على أن القضية تحيا بالشعر، لما يمتلكه فن الشعر، وما يستطيعه الشاعر أو الشاعرة الحقيقية النهوض به تجاه ما يتبناه من قضايا على مستوى الذات، وعلى المستوى الجمعيّ والأمميّ، مشيرة إلى أن العديد من القضايا على مستوى الشعراء أنفسهم كالمتنبي قديماً، وعلى مستوى القضية كمحمود درويش في العصر الحديث وغيرهم، تركوا لنا قضايا حيّة خلدوها في قصائدهم، وأبقتهم حتى بعد رحيلهم أحياء بيننا، مردفة قولها: علينا التنبه إلى أنه ليس كل قضية بإمكان الشعر تبنيها بشكل مطلق، إذ هناك من قضايا الشأن العام ما نجد معه أن الفنون الإبداعية الأخرى الأكثر نهوضا بها كالرواية أو المقالة أو الندوة خاصة في ظل ما يتصل بحالة التلقي التي تعيشها القصيدة العربية اليوم. النص الشاعر والمفكّر أما الناقد الدكتور محمد الربيّع فاستهل حديثه قائلاً: علينا أن نفرق بين الشاعر والمفكر، فقد يكون الشاعر - أحياناً - مفكراً، وقد لا تكون الناحية الفكرية أساساً لمنطلق نص الشاعر أو الشاعرة، لكون النظرة من خلال الشعر ذات بعد جمالي، وبالتالي تختلف القضايا من شاعر إلى آخر حسب انتماءاتهم إلى المدارس الشعرية المختلفة، فقد نجد - مثلاً- شاعراً ينتمي إلى المدرسة الواقعية التي تعنى بالشأن العام والهمم الوطنية أو الأخرى الإنسانية بشكل عام، فيما نجد آخر ينظر إلى الشعر على أنه منتج جمالي يتوخى الجماليات دون أن يدخل في القضايا الفكرية. بين القديم والجديد وعبر استعراض خارطة أدبنا العربي، قال الربيّع: إذ ما استعرضنا أدبنا العربي قديماً وحديثاً، لاستقراء هذه القضية، فإننا نستطيع من خلال تحليلنا لمواقفهم الشعرية، ولمعطيات نتاجهم الشعري من حيث المعاني المختلفة، سنجد من هم من يحتلون مواقع بارزة من القضايا التي تفاعلوا معها منذ القضايا التي نجدها عند شعراء العصر الجاهلي وصولاً إلى العصر الحديث، وصولاً إلى ما تبناه الشعراء من قضايا مختلفة كما هو الحال فيما يجده القارئ اليوم - مثلا - لدى شعراء مدرسة النزعة الإنسانية، إذ إن كل هذه الأمور يتم استنطاقها والتعرّف على معطيات الشعراء وقضاياهم. الناقد وأصل القضية وأضاف الربيّع: ليس الأصل في الشعر أن يكون حمّالاً للقضايا التي يجب أن يظل مدافعاً عنها، وغائصاً في جذورها وتتبع أعماق امتداداتها، وإنما الشعر وسيلة إبداعية تعبيرية، يقدمها الشاعر بشكل جمالي كمنطلق أساس لكينونة الشعر، وهذا ما ينعكس - أيضاً - على رؤية الناقد عند قراءاته للمنتج الشعريّ، إذ سيجد بين الشعراء والشاعرات من جمع في شعره بين القضية وبين الجماليات الفنية للشعر، وما أحدثه إلى جانب هذين البعدين من حضور التأثير، الذي يجعل من دور الشاعر أكبر من دور المفكر بالنظر إلى الفارق في طرائق المعالجة بين البنائين (الفكريّ/الشعريّ) في تقديم قضية ما. الشاعر وتحولات الرؤية كما وصف الربيّع القضايا بطبيعة أحوالها المتجددة، قائلاً: قد يكون للشاعر هما يشكّل لديه هاجساً شعرياً، ومن ثم يكوّن لديه قضية يكتب فيها، إلا أن المستجدات التي تطرأ في حياته أو في حياة أمته (الأنا /المجتمع/ الأمة) تجعله يسير في ركاب هذه المستويات متحولاً من هم إلى آخر، ومن قضية إلى تاليتها، مشيرا الربيّع، إلى أن حالة من اليأس أو الإحباط تجاه القدرة على إيجاد الأثر المنشود، يجعل من الشاعر يتحول من قضية كان قد أخلص لها إلى أخرى، إلى جانب ما قد يطرأ على اتجاهات الشعراء من تحول من مدرسة أدبية إلى أخرى. القصيدة وموت الوسيلة أما الشاعرة والإعلامية مها السراج، فأكدت على أن الشاعر لديه القدرة أن يخلد اسمه من خلال القضية التي يكتب عنها، قائلة: يدعم هذه القدرة أهمية القضية ومدى اهتمام التلقي بها، ما يجعل من الشاعر أو الشاعرة أحياء بعد موتهم حتى وإن تبدلت قضياهم، مستشهدة بمحمود درويش الذي خلده ما حمله شعره من القضية الفلسطينية مردفة قولها: هنا سيظل الشاعر حياً، ويبقى صوته حاضراً عبر الأجيال، مع ما نجده من تباين بين مستوىين هما: مستوى الشعرية، ونوعية القضية، ما يجعل من المقومات الجمالية، وعمق الرؤية الفلسفية والفكرية، وقامة المبنى، وجوهر المعنى من جانب، ومدى المساحة الخصبة التي تجدها القصيدة من تلق لها من جانب آخر، ما يجعلنا اليوم نتأمل حال قصيدة القضية في زمن الصورة وثورة الوسائل أمام تراجع كبير مقارنة بما كان يحظى به هذا النوع من الشعر خلال الخمسين يات والستينيات «قيمة وتأثيرا» ما جعل من القصيدة عبر مد التطورات التي نعيشها اليوم شبيه بحضور الغياب في ظل ما هو رائج من تسطيح للذوق الجمالي للكلمة الأدبية في العالم العربي. الشعر وحتمية القضية من جانب آخر وصف الناقد الدكتور حسين المناصرة ارتباط الشاعر بقضية ما، بأنه من القضايا المسلم بها لدى أي شاعر أو شاعرة، سواء كانت ذاتية وجدانية، أو اجتماعية أو وطنية، أو قضية جمالية، مردفا قوله: نفترض وجود القضية لأن الشعر رسالة، ولو لم يكن للشاعر إلا الاشتغال بالجماليات لكفته قضية، إذ لا يمكن القول بوجود شاعر دونما رسالة، إلا في حال ما نجده من (عدمية) القضية لدى شعراء السريالية، لكوني اعتقد أن الشعر السريالي إذا ما طرحناه أمام معادلة (الشاعر/ القضية) سنجد هذا الشعر لا يحمل قضية، لكون شعراء السريالية يرون أن الشعر إذا فهمه القارئ لم يعد شعرا! ما يجعل الشعر بهذه الرؤية منقطعا عن الواقع والتلقي والتواصل مع الآخرين! القضية وأدوات الشاعر كما يؤكد المناصرة ارتباط الرسالة بالشعر منذ وجوده، إذ من طبيعة الشعر كفن إبداعي أن يكون الشاعر مشغولا برسالته وقضياه الجمالية، بعيدا عن (الفن للفن) مشيرا إلى أن التجارب الشعرية لا يمكن فصلها عن قضايا الشعراء بوصفها موقفا أو زاوية للرؤية أو موقعا، ما يجعلنا أمام الشعر بوصفه معنى قبل أن يكون مبنى، مضيفا قوله: هنا لا يمكن أن يقوم المعنى دونما جماليات، ما يجعلنا إذا ما عدنا إلى مسيرة شعرنا العربي، أمام أهمية الربط بين «التميز» وبين «القضية» نجد على سبيل المثال لا الحصر: المتنبي قضيته الذاتية، وهو شاعر الحكمة قبل أن يكون ذاتيا، ونزار قباني شاعر المرأة وقضيته جمالية، وغيرهم ما جعل قضية الشاعر غرقا انتمائيا. أيهما الأسرع موتاً؟ وبين قطبي تنازع البقاء بين القضية وشاعرها قال المناصرة: أتصور أن القضية لا تموت، فالقضية تبقى حية، فالشاعر هو من يركب موجة القضية، ما يفترض فيه أن يكون جزء من قضيته، فالقضية يمكن أن تصل إلى آفاق عليا من خلال الشعراء خاصة والمبدعين عامة، ما يجعل من قدرة الشاعر على الالتحام بقضيته حيا بعد موته جسديا، الأمر الذي يضعنا أمام السؤال: ما الذي يجعل من المتنبي إلى اليوم تحت وسادة كل شاعر؟! وهذه مفارقة نجدها - أيضاً - بين قصائد محمود درويش الرومانسية التي لم يعد يلتفت إليها مقارنة بشعر المقاومة لديه.