فجّر حصول فيلم "الجمال الأميركي" للمخرج سام مانديز 34 عاماً على خمس جوائز أوسكار، سيلاً من المناقشات الساخنة والكثير من الاسئلة التي نحاول دوماً، نحن المخرجين الشبان، إبعادها عن مخيلتنا حتى لا نزيد من ركام إحباطنا، وحتى لا نجرح بأسئلتنا القشرة الخارجية لمجتمع يرفض ثقافة الاسئلة، ولوسط مهني يحرص على تحقق البريق الزائف في كل ما يصدر عن أفراده من افعال أو أفلام. "الجمال الاميركي" اول افلام مانديز... المخرج البريطاني الوافد من عالم المسرح. وهو فيلم مختلف جداً، وان كان اميركي الانتاج، وقليل الكلفة بالنسبة الى السينما الاميركية بالطبع إذ لا تتعدى موازنته 15 مليون دولار. تلمح خلف هذا الشريط الذي كتب السيناريو له، السيناريست الشاب الان بول، رغبة في صنع فيلم مختلف يعرّي المجتمع وبلا هوادة، ويسعى الى جمالياته الخاصة بعيداً من ابهار السينما الاميركية ولوثة التكنولوجيا التي اصابتها. اختيار تكمن وراءه الرغبة في كشف الحقيقة في مجتمع يمارس الحقيقة ولا يتغنى بها، لا يخجل من الاسئلة ولا يعتبر طرحها من المحرمات. ولأن مانديز عمره 34 عاماً، اي في المرحلة العمرية نفسها التي يمر فيها الكثر من المخرجين الشبان في مصر وغيرها من البلدان العربية، يطرح السؤال مجدداً: متى سيصنع هؤلاء الشباب افلامهم الاولى؟ ولماذا تأخرت هذه الخطوة على رغم وجود مشروع لفيلم روائي طويل لدى كل منهم منذ عامين على الأقل؟ وحتى لا تمر السطور مرور الكرام سنلجأ إلى بعض النماذج، فنذكر مشاريع مثل "ألوان السما السبعة" و"فيلم هندي" و"بالألوان الطبيعية". هي عناوين لثلاثة مشاريع لا مجرد سيناريوهات. وهي على الترتيب لسعد هنداوي، وهاني خليفة، وكاتب هذه السطور. هذه المشاريع تخطت مرحلة الكتابة الى التنفيذ منذ ما بين عامين وثلاثة اعوام، من دون وجود اي مبرر منطقي يعوقها من ان تصور لتظهر على الشاشة؟ لماذا إذاً لم تنفذ. "ألوان السما السبعة" كتبته زينب عزيز، التي تقدمت برفقة سعد هنداوي الى شركة "شعاع". مسؤولو هذه الشركة قرأوا السيناريو وأبدوا حماستهم له، وبالفعل اشتروا السيناريو من مؤلفته. ثم بدأت رحلة البحث عن ابطال للفيلم، في الوقت الذي بدأت الشركة رحلة المماطلة، من أحمد زكي الى محمود حميدة، ومن سلوى خطاب الى رغدة. وتضمن "الكاستنغ" محاولة العثور على ممثل شاب ليؤدي دور "ابن البطل". وعمل "الكاستنغ" للافلام السينمائية اي اختيار الممثلين للأدوار الملائمة لهم، اصبح مسألة شديدة الصعوبة على رغم وجود هذا الكم الهائل من الممثلين والممثلات، لعدم وجود متخصصين في هذا المجال. ولم تعرف السينما المصرية مخرج الكاستنغ إلا في حالات نادرة منها حين أوكل اسامة فوزي مخرج فيلم "جنة الشياطين" الى المخرج هاني خليفة مهمة اختيار الشخصيات الرئيسية لفيلمه. نعود الى هنداوي الذي استمر في مفاوضات عبثية مع شركة "شعاع" شملت أموراً عدة، من البحث عن مدير انتاج الى خفض اجور الممثلين. وفي تلك المرحلة انتجت "شعاع" الكثير من الافلام، قليل منها تمتع بمستوى فني راقٍ مثل "أرض الخوف" لداود عبد السيد، واغلبها افلام لم تغنِ عن جوع، منها: "كلام الليل" لإيناس الدغيدي، و"الشرف" لمحمد شعبان، و"فل الفل" لمدحت السباعي الذي لم يستمر في دور العرض سوى اسبوع واحد. ولكن من الذي اختار هذه السيناريوهات لتُنفَّذ؟ وعلى اي اساس اختيرت؟ وما معايير الجودة او انعدامها؟ وما حقيقة ان تقارير قراءة السيناريو تأتي من ليبيا؟ وهل لدى هذه الشركة مستشارون حقيقيون؟ ومثلما حدث لهنداوي حدث ايضاً لهاني خليفة، وداخل اروقة الشركة نفسها. أما السيناريو الذي يريد أن يخرجه خليفة فهو "فيلم هندي" من تأليف هاني فوزي، وهو مشروع قديم لداود عبد السيد تركه لتلميذه الشاب الذي تحمّس بدوره لإخراجه. منذ البداية انسحب محمد هنيدي وعلاء ولي الدين بعدما اصبحا نجمين وظلت حنان ترك في موقعها كشخصية رئيسية نسائية. ثم رُشح الممثل الشاب تامر حبيب بدلاً من علاء ولي الدين، واشرف عبد الباقي بدلاً من هنيدي. لكن اشرف اعتذر بدوره، بحجة ان الشخصية المسيحية في الفيلم اكثر طيبة من الشخصية المسلمة .... تيه وتاه "فيلم هندي" داخل شركة "شعاع" ايضاً، وتوقف المشروع حتى أجل غير مسمى. وتوقفت الشركة عن الانتاج، بخلاف انتاجها فيلماً واحداً هو "عمر 2000" الذي انتجته خلال عام 1999. اسباب التوقف لم تُعلن. وقال المنطقيون إن الافلاس حتمي لعدم تحقيق اي من افلامهم ارباحاً تذكر، بينما اكد الخبثاء ان الشركة لم تكن سوى واجهة لاغراض ليبية لا علاقة لها بالفن، ورأى فريق ثالث ان سبب تأسيس الشركة انتشار "موضة" دخول رجال الاعمال مجال الانتاج الفني والتوزيع بغرض تحقيق ارباح في مجال لم يستثمر جيداً حتى الآن، وتحقيق شهرة بسبب اقتران اسمائهم وصورهم بأسماء النجوم وصورهم. ولا يستطيع احد ان يجزم في ما يدور داخل الشركة، واسباب توقفها. إذ أن الرؤية ما زالت غائمة هناك .... اما المشروع الثالث "بالألوان الطبيعية"، من تأليف سيد عبد الماجد وإخراج كاتب هذه السطور، فبدأت رحلته منذ اكثر من 3 سنوات. في البداية عرضنا السيناريو على الفنان محمود حميدة كممثل ولا كمنتج فأبدى إعجابه بالسيناريو وقرر انتاجه من خلال شركته "البطريق"، بعد الانتهاء من تصوير فيلم "جنة الشياطين" الذي شرع في تصويره آنذاك. بدأت الخطوات العملية بشراء السيناريو من مؤلفه، وشرعنا في التحضير مع فريق العمل، واختيار الممثلين اماكن التصوير. وكل مرة كان يحدو تاريخ بداية التصوير، سرعان ما كان يؤجل. ومع ذلك قمنا بتصوير يوم واحد، كمادة تسجيلية لمولد الحسين من دون ممثلين حتى تستخدم في ما بعد في احد مشاهد الفيلم. بعد اشهر عدة، حصل المشروع على دعم فرنسي من صندوق دعم الجنوب التابع لوزارتي الخارجية والثقافة في فرنسا وقيمته سبعمئة الف فرنك، في صورة خدمات ما بعد الانتاج تحميض، صوت، طبع نسخ.... اعتقدت واهماً ان حصول المشروع على هذا الدعم سيدفعه الى الامام ويجعل تنفيذه - تصويره على قاب قوسين أو أدنى. لكن هذا لم يحدث على الاطلاق. ولم تستطع "البطريق" دخول المشروع ما اصابني بالعصبية والتوتر، خصوصاً لارتباط الدعم الفرنسي بموعد معين للبدء بالتصوير الفعلي. وهذا ما حدا ب"البطريق" الى التخلي عن المشروع في آذار مارس 1999. الانتظار وبدأت رحلة البحث مرة اخرى وتوقفت في محطتها النهائية عند المنتج الفنان حسين القلا الذي يتولى انتاج الافلام المصرية في شركة "نهضة مصر" للسينما وتوزيعها. قرأ القلا السيناريو وابدى حماسة له وكذلك ابدى بعض الملاحظات. ثم عرض السيناريو على لجنة القراءة الخاصة بالشركة هي في المناسبة مكونة من عناصر شابة، وهو امر يحدث للمرة الاولى في مصر فأبدت تفهماً عميقاً للسيناريو، وبدأنا شوطاً آخر من المناقشات والتعديلات التي اقتنعنا بمدى اهميتها للعمل. وقبل ان يقدم القلا على اي خطوة ايجابية نهضة مصر، دخل في دوامة المشكلات الادارية بينه وبين الشركة ودخل "بالالوان الطبيعية" ثلاجة الانتظار .... تثار عاصفة من الاسئلة مرة اخرى، كيف لا يستطيع مشروع فيلم استكمال تمويله، وربع موازنته متمثل في الدعم الفرنسي؟! كيف تتخلى الشركات الكبرى عن دورها في تمويل المخرجين الشبان وتقتصر مشكلتها على حل قضية زيادة عدد نسخ الافلام الاجنبية من 5 الى 8؟! اين نتيجة المسابقة التي اعلنتها وزارة الثقافة بتقديم الدعم المادي الى خمسة افلام سنوياً اعمال أولى؟! هل تظل وزارة الثقافة المصرية تستمتع بدور المتفرج؟! أين النجوم المنتجون الذين سبق ان تحمسوا لتقديم جيل من المخرجين في الثمانينات والتسعينات؟! حتماً سيتهمنا الجيل الاكبر بأننا متعجلون، وتنقصنا الخبرة، وينبغي لنا الصبر والانتظار. حتما سيخرج قارئ / سينمائي ليلقي بالماء البارد على وجوهنا، ويؤكد أن الزمن أصبح زمن الكوميديا، زمن هنيدي وعلاء ولي الدين والسقا، لا زمن مثقفين وافلام ثقيلة الظل. وسيخرج آخر ليتهمنا بالتسبب في إصابته بالصداع من فرط الأسئلة التي تزيد عن اللزوم وتفتقد الأهمية. فالسؤال لا ينم فقط عن جهل سائله بل يعكس كذلك قلة الأخلاق وازعاج الكبار والرغبة في تلقي اجابة عن السؤال تعكس تمرداً على نواميس الحياة. نعم تعكس "شذوذ" صاحبه، مثلما تعكس رفضاً تاماً لثقافة الاسئلة وتكريساً للخنوع وقبول الاوضاع الراهنة من دون تفكير أو محاولة تغييرها، أو تعكير صفو المسؤولين عن أقدار هذا البلد في هذه اللحظة أرى صلاح جاهين يستيقظ من قبره ليقول لهم: "أيوب رماه البين بكل العلل... سبع سنين مرضان وعنده شلل... الصبر طيب، صبر أيوب شفاه... بس الأكاده مات بفعل الملل... عجبي".