أعادت اللقاءات المتكررة للرئيس العراقي صدام حسين مع خبراء التصنيع العسكري خلال العام الجاري، حديثاً مشوباً بالقلق عن إعادة بناء ترسانة الأسلحة، بضمنها "أسلحة الدمار الشامل" لدى المعنيين بالشأن العراقي. وما عزز هذا القلق غياب مفتشي الأسلحة عن العراق وتعطل نظام الرقابة الذي تؤكد مصادر عراقية موثوق بها أنه فعلياً لا يمكنه تعطيل سعي العراق نحو تطوير أسلحته وبالذات الصواريخ بعيدة المدى. وإذا كانت المصادر تشير أن برنامج تطوير منشآت التصنيع العسكري العراقية اتسع منذ ثلاث سنوات، فإنها تؤكد أن مبالغ تقدر بمئات الملايين من الدولارات صرفتها الحكومة التي تعلن في الوقت ذاته أنها عاجزة عن تأمين الغذاء والدواء للشعب. ويكشف مهندس اشتغل قرابة 21 عاماً في هيئات التصنيع العسكري أن العراق تمكن خلال السنوات الماضية من تدريب عشرات المهندسين والفنيين في روسيا والصين وتمت تغطية نفقاتهم من عقود وقعها مع البلدين ضمن مشاريع صناعية وتجارية وافق عليها مجلس الأمن كونها جزءاً من برنامج "النفط للغذاء". وقال علي السوداني الذي عمل منذ 1977 في هيئة التصنيع العسكري التي كانت تحمل اسم "مؤسسة الصناعات الفنية" إن العراق تمكن عبر "لجنة إخلاء" وفرت لها كل الإمكانات والخبرات ما جعلها تتمتع بديناميكية كبيرة في نقل وتفكيك الأجزاء الحساسة في عشرات المواقع، مع الإبقاء على "المفاصل الحيوية" في صناعة الصواريخ والمكائن والمعدات الأساسية في غالبية الصناعات المهمة مؤكداً أن "لجنة الإخلاء" كانت تصل الى أماكن تخفى فيها المعدات من دون أن تتمكن عيون المفتشين الدوليين ملاحقتها. واعتبر المهندس الذي غادر العراق نهاية عام 1998 الخبرات المتراكمة في مجال التصنيع العسكري قادرة على تنفيذ بناء مشاريع حديثة أكثرها حصل عليه العراق بعد التدمير الواسع لمنشآت التصنيع العسكري في التسعينات، مؤكداً أن العراق اليوم يشتري من "أصدقاء" له في شركات ألمانية وإيطالية "مخططات ووثائق لمعدات ومكائن تدخل في صناعة الأسلحة" على أن يتم نصب هذه المكائن بعد تصنيع أجزاء منها داخل العراق واستيراد القطع الباقية من مناشئ عدة وتهريبها الى العراق. وكي لا تسبب السلطات العراقية "حرجاً" لأولئك الأصدقاء فهي توفر طرق دخول للبلاد "لا تترك معها أية علامات تدل على وصولهم العراق" بحسب اتفاق بين هيئة التصنيع العسكري وسلطات الحدود، إذ ترسل الهيئة شخصيات رفيعة تصطحب الخبراء الأجانب الى بغداد بشكل "آمن وسري" ويوفر مكتب إقامة لتاجر عراقي في إيطاليا "اتصالات تتسم بالمرونة والسرية في آن مع خبراء صناعيين سبق لهم ولشركاتهم أن ساهموا في بناء منشآت للتصنيع العسكري". ويعتبر المهندس علي السوداني أن القوة بحسب نهج القيادة العراقية هي "أكبر خزين من الأسلحة حتى وإن كان على حساب شعب تنهشه آفات الجوع وتهدد بنيته الاجتماعية الفاقة وصراع البحث عن البقاء". ويشير الى أن آخر عمل له كان التعاون مع قيادة الدفاع الجوي بتطوير نظام انفتاح قواعد الصواريخ وتحويله من نظام يدوي يستغرق نحو 10 دقائق لتجهيز الصواريخ للانطلاق نحو أهدافها، الى نظام أوتوماتيكي يستغرق أقل من دقيقة لانطلاق الصواريخ وطبق ذلك على بطارية "فولغا" روسية الصنع. وإذا كانت السلطات العراقية غضت النظر نحو تسرب كفايات علمية في وزارات وهيئات علمية منها الجامعات والمؤسسات الهندسية والصحية، فإنها فرضت رقابة صارمة على خبراء عراقيين في مجالات الطاقة النووية وآخرين عملوا في منشآت تصنيع "سرية" ومنها منشآت استخدمت في صناعة الأسلحة الكيماوية البايولوجية. وزاد من تلك الرقابة المفروضة على أولئك "الخبراء" تمكن بعضهم من السفر خارج العراق ودائماً بطرق "غير مشروعة" عبر الحدود مع إقليم كردستان الخارج عن سيطرة الحكومة المركزية أو مع البلدان المجاورة: إيران والأردن. وتمنح وزارة التصنيع العسكري عدداً معيناً من الخبراء امتيازات خاصة للتخفيف من تأثير العقوبات عليهم وأقامت حديثاً لأكثر من 300 خبير حياً سكنياً يخضع لإشراف أمني ومراقبة. ولمّح المهندس علي السوداني الى أن وزير التصنيع الحالي عبد الثواب ملا حويش يدير منشآت التصنيع العسكري بطريقة لا تقل "تشدداً" عن الطريقة التي اتبعها صهر الرئيس ووزير التصنيع العسكري السابق وأبو برامج التسليح المحظور حسين كامل. ومع أن الفرصة متوافرة لتحويل الصناعات الثقيلة في العراق من التصنيع العسكري الى التصنيع المدني ولأغراض يمكنها إعادة بناء مرافق الحياة الأساسية كالطاقة الكهربائية ومعدات تصفية مياه الشرب وضخها وصنع الأجهزة المنزلية ووسائل النقل العام، إلا أن "قراراً سياسياً" من القيادة العراقية يحظر ذلك. ويقول مهندس اليكترونيات عمل في "معهد البعث" لصنع "الأجزاء الاليكترونية" إن خطوط إنتاج كانت بدأت طرح أجهزة اليكترونية منزلية قبيل غزو الكويت توقفت بحسب "أوامر عليا" لتظل الخطوط الإنتاجية حكراً على إنتاج "البطاقات الاليكترونية" الخاصة بمعدات وأجهزة التصنيع العسكري. ويكشف المهندس أنه صنّع جهازاً يستخدم بديلاً عن مثيله الأجنبي المستخدم في علاج حالات الربو القصبي المتزايدة عند أطفال العراق، وقدم ل"الحياة" وثائق تصنيع الجهاز الذي يكلف ما قيمته 25 دولاراً اعتماداً على مواد أولية متوافرة في السوق العراقية وقال: إنه نال "شهادة مطابقة الجهاز للمواصفات الفرنسية" وإن "الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية" قبل نموذجه الصناعي الذي يقل ثلاث مرات عن سعر مثيله المستورد. ويربط السوداني بين "فساد اداري" حال بينه وبين توقيع عقد مع وزارة الصحة العراقية لتصنيع الجهاز، وبين قرارات حكومية في عدم التدخل بما يخفف من معاناة العراقيين كي تصبح "وسيلة ضغط لرفع العقوبات" ويقول: رفضت دائرة الأمور الفنية في وزارة الصحة توقيع العقد معي مستندة إلى ما أسماه مسؤولها "عدم وجود بند في سياقات عملها يقول في توقيع عقد تصنيع مواد طبية داخل العراق".