Fabiola Azar. Construction Identitaire et Appartenance Confessionnelle au Liban. بناء الهوية والانتماء الطائفي في لبنان. L'Harmattan, Paris. 1999. 224 Page. ليسمح لي القارئ ان استخدم هنا لغة شخصية. فقد أمضيت سحابة نهار بتمامه اطالع بلهف هذا الكتاب، ثم أفقت ليلاً على كابوس مزعج. فقد رأيت نفسي في باحة مدرسة طفولتي العتيقة. كانت الباحة في حالة من الهرج والمرج اذ كان التلاميذ يتهيأون للانصراف قبل بدء العطلة المدرسية الصيفية. وكنت من آخر المغادرين. وفجأة دفع بي واحد منهم - كنت اشتبه في عداوته لي - الى درج القبو الذي في الباحة وأغلق عليّ الباب الذي لا تمكن اعادة فتحه من الداخل. وجدت نفسي في ظلام دامس، ورحت اطرق على الباب. ولكن لم يسمعني احد. فقد تلاشت الاصوات الخارجية تماماً. استولى عليّ الذعر وطفق يطفر مني عرق بارد ثم أفقت على صمت من الرعب. هذا الكابوس لم يكن منقطع الصلة بالكتاب الذي طالعته نهاراً في "بناء الهوية والانتماء الطائفي في لبنان" لفابيولا عازار، الاستاذة الجامعية في جامعة باريس الخامسة والباحثة في مختبر علم النفس الاجتماعي التابع للسوربون. فقد كنت أسائل نفسي وانا اتقدم في مطالعة صفحاته: هل مَن هو داخل المتاهة يفكر بنفس الكيفية التي يفكر بها من هو في خارجها؟ المتاهة هي طبعاً المتاهة اللبنانية بحربها الاهلية وسراديبها الطائفية وبابها المقفل من الخارج على من يتخبّطون في داخلها. وهنا لا بد من توضيح، ولو اضطرني مرة اخرى الى استعمال اللغة الشخصية. فأنا قد عشت في لبنان اثنتي عشرة سنة متوالية هي عينها سنوات الحرب اللبنانية ما بين مطلع 1973 ونهاية 1984. ولبنان يملك ميزة فريدة: فهو يغدو بسرعة لمن يأتيه منفياً او مهاجراً ليعيش فوق ارضه لا وطناً بديلاً فحسب، بل وطناً اصيلاً هو بين سائر الاوطان الممكنة احبّها اليه. وعندما اقتتل اللبنانيون حزنت للبنان منهم، وردّدت في نفسي مئات المرات القول: كان يجب ان يكون اللبنانيون "أغراباً" مثلي حتى يعرفوا قيمة لبنان كما أعرفها، وحتى يمتنعوا عن قتله باقتتالهم. ومع تصعيد الحرب الاهلية ازدوج الحب للبنان بكراهية: فأنا لم اكره شيئاً في حياتي كما كرهت في حينه - ولا أزال - لغة العنف ومتاهة الطائفية. وانما لأني رفضت ان "أتطوّف" وان ارضخ لشريعة غاب الميليشيات المسلحة، آثرت في نهاية المطاف ان آخذ طريقي من جديد الى "التغرّب" مبرماً بيني وبين نفسي قراراً بألا أتكلم ابداً عن تجربتي اللبنانية. فعدا حمولتها من الألم، كنت ادرك انني لو تكلمت لما ارضيت احداً من اطراف المواجهة الطائفية التي لا تزال جميع القرائن تشير - مع الاسف - الى انها متأججة تحت الرماد. كتاب فابيولا عازار - الذي أعاد ادخالي الى قلب المتاهة - لم يترك لي من خيار آخر سوى ان اقطع الصمت لأقول كل رفضي للطائفية. وما ذلك لأن مؤلفة هذا الكتاب مصابة بلوثة الطائفية. فهي، على العكس، داعية متحمسة الى الغفران والمصالحة الوطنية. ولكن لأنه بدا لي انها، على رفضها المبدئي للتشنّج الطائفي، تعيد بمنهجها ومفاهيمها ومقولاتها السوسيولوجية بالذات بناء المتاهة. انني لن أتوقف عند الصفحات الممتازة التي خطتها في استعراض النشوء التاريخي للظاهرة الطائفية في لبنان، ولا شك ان كل محطة من محطات هذا المسار التاريخي تستحق وقفة على حدة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أسبقية موارنة الجبل الى تبني التقنية الغربية في تربية دودة القزّ، ما ضمن لهم - مع الغنى النسبي - الأسبقية الى امتلاك ادوات الحداثة. وكان من هذه الادوات "الهدية المسمومة" التي قدمتها الدولة المنتدبة الفرنسية الى الطائفة المارونية خصوصاً والى سائر الطوائف المسيحية عموماً، عندما أقامت دولة الاستقلال لعام 1943 على أساس من الضمانات والامتيازات الفئوية. ومنها الصراع التاريخي على "رواية الاصول": هل يتحدر اللبنانيون من اصل فينيقي كما تؤكد الرواية التي تميل كثرة من المسيحيين الى القول بها، ام من اصل عربي كما تؤكد رواية المسلمين؟ ومنها ايضاً، وبالتالي، الصراع على هوية لبنان: أهي لبنانية خالصة كما تؤكد كثرة من الموارنة، ام لبنانية عربية كما يؤكد السنيون والدروز؟ ومنها ايضاً الصراع الطائفي / الايديولوجي على طبيعة تعددية بالمعنى الثقافي للكلمة كما ينتصر لها المسيحيون بعد ان باتوا يدركون ان الغالبية الديموغرافية لا تعود اليهم، ام ديموقراطية العدد كما بات ينتصر لها المسلمون منذ ان رجحت كفتهم ديموغرافياً إما بسبب ارتفاع معدلات النسل عندهم واما بسبب ارتفاع معدلات الهجرة لدى المسيحيين؟ ومنها اخيراً الصراع الايديولوجي، المبطّن دوماً بشحنة عالية من الطائفية، على مخرج لبنان من متاهته مستقبلاً: أعني طريق الغاء الطائفية السياسية كما يطالب المسلمون، أم طريق العلمنة الشاملة كما يرد المسيحيون، من باب سد الذرائع في الارجح؟ ان جميع هذه الثنائيات وهذه الاشكاليات المغلقة لا تدع مجالاً للشك في تعقيد الواقعة الطائفية في لبنان، وتنذر سلفاً - والى اجل غير مسمى - بانسداد مخارج المتاهة اللبنانية. ونحن لا نستطيع الا ان نشهد لفابيولا عازار، في القسم التاريخي والنظري الاول من كتابها، بالموضوعية المتعالية على الهوى الطائفي، رغم ان من طبيعة هذا الهوى الدبق ان يمنع التعالي عليه. ولا شك انها تدين بهذا الاتزان - فضلاً عن خيالها الشخصي - لكونها اعتمدت في قراءتها للواقعة الطائفية على من سبقها من المفكرين اللبنانيين الى قراءتها بعين غير متدبّقة، ونخص بالذكر هنا ادمون رباط وجورج قرم واحمد بيضون وكمال الصليبي، وان يكن اعتمادها على المصادر المكتوبة بالفرنسية، دون العربية، قد حدّ سلفاً من نطاق مرجعيتها. ولكن عندما نأتي الى القسم الثاني من الكتاب، وهو القسم السوسيولوجي، فإن نَفَسَنا يضيق للحال، لأننا نشعر ان الباحثة تدخلنا لا الى مختبرها لعلم النفس الاجتماعي كما يقول برنامجها المعلن، بل الى ما اسميناه بالمتاهة المسدودة. وهذا يتضح اولاً من خلال المقولات والمفاهيم التي اعتمدتها في استباراتها السوسيولوجية التي حاولت من خلالها النفاذ الى النواة الصلبة للطائفية في لبنان على مستوى العقليات. ففي الاستبارات الاربعة التي اخضعت لها عينات من مئات اللبنانيين - وهي استبار التداعيات الحرة واستبار الغريب واستبار الاحكام المسبقة واستبار الكلمات المطلوب شطبها - اعتمدت، في قراءة علاقات اللبنانيين ببعضهم بعضاً، على ثنائيات من قبيل "الذات والآخر" و"نحن وهم"، وهي ثنائيات اقرب الى ان تكون "حبائس" منها استجوابات، لأنها تسجن عينات المستجوبين ضمن جبرية السؤال وتحكم على اجوبتهم بأن تكون محصورة سلفاً ضمن خيارين اضطرايين يصح القول فيهما ان احلاهما مرّ. وحسبنا هنا مثال واحد نستقيه من استبار "الاحكام المسبقة". واول ما سنلاحظه ان الباحثة اعتمدت، دون تطوير يذكر، الرائز السوسيولوجي الذي كان وضعه ايف بورديه قبل خمس وثلاثين سنة لدراسة الاحكام المسبقة لدى الشبان الفرنسيين والالمان تجاه بعضهم بعضاً. وليس لنا على الرائز بحد ذاته من مأخذ. ولكن السؤال، كل السؤال، هو مدى المشروعية السوسيولوجية لنقله من الحالة الفرنسية - الالمانية الى الحالة اللبنانية - اللبنانية؟ فالفرنسيون والالمان ليسوا شعبين متمايزين قومياً ولغوياً وثقافياً فحسب، بل هم ايضاً نموذج تام لشعبين متجاورين أسّس كل منهما جاره في "عدو قومي مطلق"، ولم يجمع بينهما منذ الحروب النابوليونية، وعلى الاخض منذ حرب 1870، سوى حقد مؤرث اوقع في صفوفهما في حربي 1918 و1939 ملايين من القتلى. فهل ذلك الرائز المتدبّق في تاريخيته وجغرافيته الخاصة، قابل للتطبيق على اللبنانيين الذين يبقون اولاً واخيراً شعباً واحداً حتى وإن تذابحوا طائفياً؟ والواقع ان الغائب الكبير في هذا الرائز عن الاحكام المسبقة لدى اللبنانيين هو "اللبناني" نفسه. ففي الرائز يحضر "المسيحي" ويحضر "المسلم" ويحضر "الماروني" و"السني"، و"الشيعي" و"الارثوذكسي" و"الدرزي" و"الكاثوليكي"، وهذا بالاحرف التاجية الماجسكول وبألف لام التعريف. ولكن لا يحضر ابداً "اللبناني" ولا يحضر بصفة خاصة اللبناني "المواطن" اي اللبناني المتجرد في المجال العام من خصوصياته الطائفية. ولا يحضر بصفة أخص ذلك اللبناني "العابر للطوائف" والمتعالي على الانتماء الطائفي والرافض للانئسار في الغيتو الطائفي، علماً بأن هذا النمط من اللبنانيين له وجوده السوسيولوجي حتى وان تكن نار الحرب الاهلية قد التهمت مساحة غير قليلة من هذا الوجود. ان استبارات فابيولا عازار السوسيولوجية قد قادتها الى الاستنتاج، على سبيل الختام، بأن الانتماء الطائفي قد غدا اكثر فأكثر خلال ربع القرن المنصرم عنصر بناء للهوية في لبنان. ونحن لا نماري في هذا الاستنتاج. ولكننا نماري في طبيعة الهوية التي يبنيها الانتماء الطائفي. فليست هي في نظرنا "هوية اجتماعية" ولا حتى "هوية دينية" كما تفترض فابيولا عازار، بل هي اقرب ما تكون الى ما اسماه امين معلوف ب"الهوية القاتلة". ونحن نوافق تماماً فابيولا عازار على ان التعدد الطائفي هو، ويمكن ان يكون، مصدر غنى كبير للهوية اللبنانية. لكن الطائفية عندنا هي النقيض القاتل للتعدد الطائفي. فلبنان، ملحمته ومأساته معاً انما تكمنان في انه غني بطوائفه، فقير بطائفياته.