لم يكن المستغرب في ذلك اليوم ان تبادر فرنسا الى الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية، بل كان المستغرب انها تأخرت، بالمقارنة مع بريطانيا العظمى التي كانت من اوائل الدول الغربية، بل ايضاً من اوائل دول العالم التي بادرت الى الاعتراف بالنظام الشيوعي الذي اقامه ماوتسي تونغ على انقاض حكم الكومنتاغ، بعد اسابيع من دخول الشيوعيين بكين. فرنسا انتظرت نحو خمسة عشر عاماً قبل ان تحذو حذو بريطانيا، لكنها، على أية حال سبقت الولاياتالمتحدة الى ذلك بنحو ثمانية أعوام. اذا، يوم السابع والعشرين من كانون الثاني يناير 1964، اعلنت فرنسا اعترافها الرسمي بجمهورية الصين الشعبية. ولكن لئن كانت فورموزا الصين الوطنية يوم اعتراف لندن بادرت بسرعة الى ابداء رد فعل سلبي وقطعت علاقاتها مع لندن، فانها - اي فورموزا - انتظرت هذه المرة عشرة ايام قبل ان تقطع علاقاتها مع باريس. وبالنسبة لهذه الاخيرة كان هذا متوقعاً ومحسوباً. ففرنسا، مثل معظم امم الأرض ادركت، يومذاك، انه لم يعد في امكانها ان تتجاهل دولة يقطنها خمس سكان العالم وباتت ذات قوة مؤثرة في العالم اجمع، والاكثر من هذا، باتت تقارع موسكو نفسها مقارعة الند للند. في ذلك اليوم، على أية حال، لاحظ المراقبون عنصرين جديدين دخلا بالنسبة الى مسألة اقامة العلاقات الديبلوماسية والاعتراف المتبادل بين بكينوباريس، وهما عنصران لخصهما اندريه فونتان في صحيفة "لوموند" على النحو التالي: 1 - على عكس ما هو معتقد بشكل عام، لم يسارع نظام فورموزا هذه المرة الى اعلان قطع العلاقات مع فرنسا. بل ان ناطقاً رسمياً باسم "الكومنتاغ" الحزب الحاكم في فورموزا تشان كاي تشيك اعلن فقط بأن وزارة الخارجية في الصين الوطنية طلبت من باريس توضيحات محددة تتعلق باعتراف هذه الاخيرة بالصين الشعبية. وأضاف بأن التصريح الفرنسي الذي صدر على شكل مذكرة وجهها القائم بالأعمال الفرنسي اتى غامضاً ما جعل سلطات الصين الوطنية تعتقد ان فرنسا انما شاءت ان تترك لفورموزا مسؤولية اتخاذ مبادرات جديدة. مهما يكن في الامر فان السلطات الوطنية قالت بوضوح: "اننا في مطلق الاحوال سنظل متمسكين بسياستنا الأساسية التي لا تقر بمبدأ وجود دولتين صينيتين ...". 2 - ناطق رسمي باسم وزارة الخارجية الصينية الشعبية ادلى في اليوم نفسه بتصريح علق فيه على الموقف الفرنسي بقوله: "ان اعتراف اي بلد بحكومتنا يترتب عليه تلقائياً التوقف عن الاعتراف بتلك المجموعة الحاكمة التي اسقطها الشعب هناك. وبالنتيجة فان ممثلي تلك المجموعة لا يمكن لهم ان يتواجدوا الى جانب ممثلي الحكومة الجديدة للبلد نفسه". وأضاف الناطق ان اقامة العلاقات الديبلوماسية بين فرنساوالصين انما تم الاتفاق عليها ضمن اطار هذه الروحية. في باريس لم ينكر المسؤولون الحكوميون وجود تلك الروحية، لكنهم قالوا ان هذا موقف صيني لا يمكنه ان يسري على الموقف الفرنسي. مما يعني ان فرنسا لن تكف، هي من تلقائها، عن الاعتراف بحكومة الصين الاخرى الوطنية الا اذا اتخذت هذه الاخيرة مبادرة في هذا السبيل. وكانت المسألة كلها اشبه باللعبة البهلوانية: ففرنسا كانت تعرف ان فورموزا ستقطع معها، وبكين كانت تعرف ان فرنسا تعرف وهكذا. اما صحيفة "الشعب الصينية" فانها كتبت معلقة، على ذلك الانتصار الديبلوماسي الكبير الذي حققه بلد ماوتسي تونغ تقول: "ان الشعب الصيني سوف يمحي، بالتأكيد، كل محاولة تهدف الى خلق دولتين صينيتين، كما سوف تمحى وتسحق كل مؤامرة تهدف الى فصل فورموزا عن الصين القارية". وكان هذا الكلام، بالنسبة الى الصحافة الفرنسية، يعني بالطبع ان بكين تطلب رسمياً من باريس ان تكف عن لعب تلك اللعبة وأن تبادر الى طرد ممثلي "الكومنتاغ" الذين كانوا، حتى ذلك الحين، يعتبرون الممثلين الوحيدين للشعب الصيني. وهو موقف اعلنت باريس ضمنياً انها لن تتخذه ابداً، معتمدة بالطبع على ان فورموزا نفسها سوف تتصرف بشكل يجعله ممكناً. وهكذا كان، وسجل ماوتسي تونغ انتصاراً جديداً، في انتظار وصول نيكسون الى بكين بعد ذلك بأقل من عقد.