في التّساؤلات والآراء المتنوّعة التي تيسَّر لي أن أسمعها من بعض شعراء القاهرة الشّباب، ومن بعض كتّابها وفنّانيها، ومثقّفيها وصحافيّيها وطلاّبها، طوال الأسبوعين اللّذين أمضيتُهما فيها بين 2 - 16 آذار مارس الماضي، بدعوةٍ من الجامعة الأميركيّة، ما يعكس جوانب أساسية من الهموم الثّقافيّة القائمة في العاصمة العربيّة الأولى. ولعلّها فيما تعكس هذه الجوانب، تُسهم في إضاءة الوضع الثّقافي العربيّ العامّ. - أ - الظّاهرة الأولى التي تلفت الانتباه هي أنّ هناك مَيْلاً طاغياً إلى تجاوز النظريات، وبخاصّةٍ ذات الطّابع الإيديولوجي، أيّةً كانت. يُرافِقُ هذا الميلَ شعورٌ قويٌّ بضرورة الانكباب على معاينة الواقع، والانطلاق من التجربة الحيّة، والتّفكير والكتابة بدءاً منها. لقد انتهت، كما يبدو أو تلاشَت الرّغبة في متابعة الكتابة - الموقف، أو الاتجاه السّياسيّ - الإيديولوجيّ، وحلّت محلّها الرّغبة في كتابةٍ تتحدّث عن الأشياء، عن مادّة العالم المرئيّ المَعيش، كتابةٍ تتغلغلُ في غاية الحياة اليوميّة، غصناً غصناً، وعشبةً عشبةً. الكتابات السّابقة التي كانت تحمل "رسالةً"، تبدو الآن، كما لو أنّها كانت تتحرّك ُ في عراءِ الألفاظِ: لا "بيتَ" لها، وإذاً لا "جسدَ" لها، وإذاً لا "تاريخ" لها. - ب - البعد الشّخصي الحميم هاجسٌ عميقٌ في هذه التّساؤلات والآراء، لكن في معزلٍ عن الذّاتية الرّومنطيقية. "الأنا" هنا هي تلك "المُبَعْثَرَةُ" في شتات الأشياء. لا تلك التي تشعر أَنّها "مَرْكُوزَةٌ" في قَلْبِ العالم. وهذا وَضْعٌ يؤدّي إلى نتاجِ كتابةٍ - شَتَات. والصّفة هنا ليست سَلْباً، وإنما هي مجرّدُ وَصْفٍ بِنائيّ - فَنّي. في الكتابةِ الشَّتَات، يُهيمن الحسّ بعدَم الاكتمالِ، وبعدم "الارتواء". وهذا ممّا يُتيح للكتابة أن تَبقى في حالةٍ من البحث الدّائم، أو في حالةٍ من البدء الدّائم. تصبح كأنّها الحركة المستمرّةُ الخاصّة، داخل حركة التّاريخ العامّة. - ج - هناك مَيْلٌ لنوعٍ من الشَّفويّةِ تنتهي معها جميعُ المُسَبّقات. الشّفويّةُ خروجٌ من "القواعد" و "البُنى" الجاهزة. فهي مزيجٌ من البداهةِ، والعَفْويّة، والارتجال - بمعناه التلقائيّ النّبيل.إنّها حَركيّةُ الكلام الذي يظلّ في عناقٍ مع حركيّة الحياة. وهي، إذاً، مُناقِضَةٌ لكلّ طبيعةٍ ثابتة. لعلَّ هذا ممّا يساعدنا في فهم القلق الغاضب الذي يُحرّك الشّبّان الكتّاب الذين تحدثت معهم: فهم يعملون على التأسيس لكتابة شعرٍ ليس مِن "تقاليد" الشعر الذي عرفناه، وعلى كتابة "نثرٍ"، ليس هو كذلك من "تقاليد" النثر الذي عرفناه: شِعْرٍ ونثرٍ "موجودينِ" في الكلام قَبْلِ أن ينتظمَ في بنًى، أو يتأسَّس في قواعدَ ومعايير أو هما، بتعبير آخر، شعرٌ ونثرٌ غير موجودين في "المكتوب"، بل موجودان في "الشَّفويّ". هكذا يحسبون أنهم يعملون على التأسيس لكتابةٍ مفتوحةٍ، بالانهاية. - د - الذّاتُ، في هذا المنظور، تلتقي مع الآخر، أوّلاً، في مُسْتَوى الشَّيء - المادّة، لكي تلتقي به، من ثمّ، في مستوى الكلام - الكتابة. الكاتب هنا ليس فَرْداً إلاّ لأنّه يكتشف ما يُوجَدُ عميقاً ومحجوباً في الجَماعة. وكلّ مُفْرَدٍ هو، في هذا الأفُقِ، جَمْع. وفي شعرنا العربيّ، قبل الرّسالة الإسلاميّة، بذورٌ أولى لهذا كلّه. وفي هذا الأفق، يمكن القول هنا إنّ القدامَةَ هي نبض هذه الحداثة التي تتجلّى، على الأخصّ، في الشّفويّة، والغنائيّة اللاّرومنطيقية، و"شَيْئيّة" النّص الشّعري. - ه - في الحرص على الانطلاق مِن الأشياء لا من الأفكار، يَنْشَأُ مَيْلٌ إلى إحلالِ نَوْعٍ من "العِلميّةِ" الجماليّة مَحلّ "البيانيّة" الجماليّة السّائدة. في هذه "العِلميّة" ما يَفتح أمامَ اللّغة الشعريّة إمكاناتٍ جديدة لكي تتفاعَلَ وتتآلفَ مع اللّغات الفنّية، المتنوّعة، ومع اللّغات التقنيّة المتنوّعة. وهذا مِمّا يُتيح كتابةَ نُصوصٍ تُتيح بدورها تنظيم الفضاءِ اللّغوي بشكل آخر، ووضعَ اللّغة الشّعريّة في نظامٍ جماليّ ومَعْرفيّ أكثَر دِقّةً، وأكثر شمولاً. - و - هناك، أخيراً، ظاهرة تخصّ النّثْرَ، لا الشعريّ، بل السّرْديَ القَصصيَّ والرّوائيّ. وقد عَبّر عن هذه الظاهرة، وهي شبه كونيّة، ناقِدٌ فرنسيٌّ شابّ هو فريديريك باردي F.BARDE في كلامه على الفنّ الرّوائي الفرنسيّ الرّاهن، ودفاعاً عن الرّوائي الشاب ميشيل هويلبيك في روايته "الجُزَيْئات الأوليّة" التي أحدثت في حين صدورها حركةً من الخصام النقديّ ضدّها أو معها. يقول هذا الناقد، واصفاً الرّوائيين الذين يمثّلون هذه الظاهرة: "لا جماليّة في أشكالهم الرّوائية، ولا حياء، ولا إغواء بأيّة خصوصيّة فنّية. فلقد فهموا جميعاً أنَّه لم يعد من الممكن تصوير الجمال، لأنّه لم يعد موجوداً. وماذا يُجدي الأسلوبُ، وماذا تجدي الدّقةُ والرَهافةُ في العَدم؟" ويتابع واصفاً "فَنّهم" الرّوائي فيقول إنه "ما بعد طبيعي" - مشيراً إلى إميل زولا وأقرانه، مسوّغاً ذلك بقول خلاصته أنّ "الإنسانية اليوم خاضعةٌ لِلعبَث الأساسيّ الذي يُمثّله تزييف الواقع. ولذلك فإن تَعْرية البؤسِ الحديث اجتماعيّاً، وإيديدلوجيّاً، وفنّياً تتمُّ بإرادةٍ يرى الرّوائيون إطارَها في العلم. هكذا يبدو أنّ نظرة هؤلاء الرّوائيين إلى الواقع "عِياديّة" أو "سَريريّة". ونَجِدُ في قلب رواياتهم أنّ المالَ والجنس فيها عامِلا تَقْليصٍ واختزال، وأنّ ما يُوَجّه سلوكَ أشخاصِها ينبعُ من العِرقيّة، والحقد، والانطواء الفَرْديّ إلى حدود الجنون". ويجيء هذا "الفنّ" الرّوائي الطّالع رَدّاً على ما سبَقَه. فهو لا ينهضُ على "الوجه الغامض والمحجوب للأشياء، بل ينهض على الواقع المشترك، على كلّ ما يراه الإنسان حوله"، وفقاً لتعبير هذا النّاقد. وتبعاً لذلك يصفُ الرّوايَةَ الفرنسيّةَ الرّاهنةِ بأنّها "نرجسيّة جدّاً، مكتفيةً بذاتِها جدّاً، انطوائيّة جدّاً، ولا بواعث وراءها، ومتّجهة نحو الماضي...". أستشهد بكلام هذا النّاقد الفرنسي مُشدّداً على أنّ النّثر السّرديّ لدى القصّاصين والروائيين الشبّان في القاهرة، لا يصدر عَمّا يقوله كليّاً، وإنّما يتقاطع مع بعض أفكاره المتعلّقة خصوصاً بِ"المُشتَرك" و"ما يراه النّاس حولهم"، و"تَعْرية" الواقع، و"العِلميّة". لكن عليّ هنا أن أعرضَ شيئاً مِمّا قلته، تعليقاً أو إجابةً، حول هذه الهواجس والآراء. وهذا ما أرجِئه إلى المقالة المقبلة.