- 4- الأرض لنا ثمة أفراد في موقع مسؤولية يوحون ثقة لأبناء مجتمعهم، ويشحذونهم عزماً على التشبث بأرضهم، واندفاعاً للإستمرار في الحياة، حتى في أحلك الشدائد. من هؤلاء عفيف حسن حمدان مختار بلدة أرنون الإستراتيجية الموقع في جنوبلبنان، والفاصلة بين رقعة السيطرة الإسرائيلية والمناطق اللبنانية الأخرى، وكذلك جرجي عجاج حداد رئيس بلدية بلدة روم المشابه وضعها لحال أرنون أخلاها "جيش لبنانالجنوبي" الموالي لإسرائيل مع انسحابه من منطقة جزين في حزيران /يونيو الماضي. البلدتان اللتان كانتا تعدان بالآلاف، لم يبق فيهما من أبنائهما إلا قلة: نحو مئة من أصل ألف في أرنون، ونحو ثمانمئة من أصل ثلاثة آلاف وخمسمئة في روم. ويشرح حمدان الذي التقيناه خارج قريته، بعدما تعذرت علينا زيارته فيها، وضع البلدة "المحاصرة منذ أربعة عشر عاماً خلف شريط شائك وساتر ترابي، يدخلها أبناؤها سيراً عبر طريق ضيقة، فتراجعت زراعتنا وبدأ الوضع يضغط علينا أكثر فأكثر، وأبناء القرية يهجرونها تباعاً. نعاني كثيراً، ولولا تدخل الصليب الأحمر الدولي لكان حجم المعاناة أكبر". وعلى رغم أن شباناً لبنانيين توجهوا قبل أشهر الى أرنون ورفعوا الشريط الشائك ودخلوها، وعادت إليها الدولة اللبنانية تعالج أوضاعها الإنسانية والمادية، في ما اعتبر تحريراً لها، عاد وضعها الى أسوأ ما كانت عليه، بعدما سُيجت مجدداً وشُدد الحصار عليها، إثر عمليات عسكرية انطلقت منها استهدفت موقعاً إسرائيلياً يشرف عليها. وإذ يتحمل مختار أرنون هذه المعاناة، يتذكر بغصة أنه لم يستطع إدخال جثمان ابنته لدفنها في قريتها بسبب الحصار المفروض عليها، فووري الجثمان بلدة مجاورة ليعاد إليها بعد تحريرها. وحمدان يصر على البقاء في أرنون لأن فيه عزاء وتشجيعاً لأبنائها القلائل الباقين، على رغم أن عيشهم فيها صعب، وخروجهم منها أو دخولها كذلك "وهم يفضلون الموت على تركها". ويشعر بعدم استقرار، كما أبناء القرية حيال هذا الوضع "لكننا مجبرون على أن نكون مرتاحين، على رغم تشرذم العائلات وانقطاع التواصل مع باقي الوطن". ويضيف "ثمة من يسألني لماذا أبقى؟ فأرد بأن أهل القرية مؤمنون بالله ومتمسكون بي، فإذا خرجت منها قد يتبعونني جميعاً وتفرغ". وهذه المأساة المستمرة من أعوام طويلة تدفع مختار أرنون الى مناشدة المجتمع الدولي العمل على نشر الإستقرار في بلدته ووطنه ودول العالم، ليعم السلام. وكما أرنون، روم "البلدة الواقعة ضمن منطقة جزين المحاصرة من كل الجهات، وحالها صعبة جداً. فهي محتلة، وتستهدفها عمليات عسكرية من خارجها، تصطاد أحياناً كثيرة المدنيين على الطرق العامة" كما يقول رئيس بلديتها الذي التقيناه في قرية مجاورة. ويسأل السيد حداد "ما ذنب النساء وطلاب المدارس والأطفال لكي يكونوا ضحايا للمتحاربين؟ فليركز هؤلاء عملهم على المراكز العسكرية فقط. نحن نعيش على أمل الحل السلمي الشامل في الشرق الأوسط، وإن كنت أراه بعيداً. ولكن في الإنتظار أدعو المتقاتلين الى تحييد المدنيين عن العمليات الحربية، والشرعية اللبنانية الى ملء الفراغ في قرى عدة متاخمة لمنطقتنا أخلتها الميليشيا المسيطرة عليها قبل مدة، وصارت عرضة للمجهول". ويطلق صرخة: "نحن مع السلام من أي جهة أتى، لذا سنبقى في أرضنا حتى يتحقق. يخرج أحدنا من منزله ولا يعرف هل يعود إليه سالماً، أو محمولاً في نعش". ويقول "صحيح أن الصليب الأحمر الدولي يزورنا ويقف على احتياجاتنا ويطمئننا، ونحن له شاكرون، ولكن ألسنا نستحق حياة هادئة؟ هذه أرضنا ولن نتخلى عنها، وتهجيرنا منها وما يحكى عن توطين غيرنا فيها، أمران غير واردين. لن نخلي بيوتنا وأرضنا إلا الى المقبرة". ويأخذ على المسؤولين اللبنانيين أنهم يدعمون أبناء المنطقة "بالكلام، لكننا نريد فعلاً". ويضيف "أقاموا أينما كان جمعيات للرفق بالحيوان، نحن نطالب بجمعيات ترفق بالإنسان وتأتي الى هنا لترى بأم العين أشلاء الأطفال على الطرق العامة، ضحايا العبوات الناسفة والقذائف. فهل قتل الأبرياء يحرر الأرض؟ ثمة مؤامرة على المنطقة". وعلى رغم ثورته هذه، ينسى حداد كل الآلام والإعتبارات، عندما يُسأل هل يساعد جندياً من العدو جريحاً؟ فيجيب "أنا مسيحي مؤمن. والمسيح علّمنا المحبة والتسامح. يجب مساعدة العدو الجريح لأنه في الدرجة الأولى إنسان". ويختم بطرفة مقرونة بغصة أن "قصتنا مع السلام كقصة حب بين رجل وامرأة قائمة منذ عشرين عاماً وتحول ظروف دون لقائهما، وعندما يلتقيان يموت أحدهما". - 5- الجرس ... وجرح الكرامة علي ماروني وحسن حمدان ضحيتان من ضحايا مدنية كثيرة، "ذنبهما" أنهما اطمأنا الى سلم كان يسود بين جولات الحرب اللبنانية الداخلية، أو ساد بعدما انتهت. كان علي في بداية عشريناته، يعمل على تشغيل مولد كهرباء على شرفة منزله في قريته الجنوبية، وما إن رفع رأسه حتى استقرت رصاصة في عينه، طاشت من اشتباك مسلح بين تنظيمين محليين. أحس أن النور انطفأ فيها، وأدرك عندما عولج في المستشفى أن الإصابة طاولت أيضاً العين الأخرى، فأصبح ضريراً. أما حسن، وهو من الجنوب، ولم يكن بلغ العشرين، فخرج من منزله في بيروت، حيث يقطن وعائلته، الى وسطها التجاري الذي تحول خط تماس، ليزور قريباً له يملك مرأباً لتصليح السيارات بعدما انتهت الحرب في لبنان، فانفجر لغم أرضي إفرادي به، ما أدى الى بتر إحدى ساقيه. ومذذاك تغيرت حياة علي وحسن، وتقبلا وضعيهما من دون أن يفقدا الأمل في الإستمرار والعطاء. فعلي، قبل إصابته، كان حيوياً وديناميكياً يعمل على خدمة أبناء قريته شبه المحاصرة منذ الإجتياح الإسرائيلي عام 1978، ويزودهم بواسطة شاحنة صغيرة، ومن ثم عربة خيل، مؤناً وحاجات يطلبونها منه، ويعمل، في هذا الإطار، متطوعاً مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وثابر على عمله هذا، بعد الإصابة، لأن الطريق الضيقة التي كانت تسلكها العربة، يحفظها الخيل عن ظهر قلب، الى أن تعقدت الأمور لاحقاً فاضطر الى هجر قريته الى بلدة قريبة ليبدأ حياة أخرى. وقيض له أن يسافر الى فرنسا لمعالجة إصابته... ولكن سدى، إذ لم يكن من أمل في إعادة بصره إليه. لم ييأس "فالحياة ستستمر" كما يقول، وإن شعر أنه أصبح عبئاً على عائلته، أو هامشياً بالنسبة الى معارف وأصدقاء، يمر بعضهم به من دون أن يحييه لأنه لن يراهم. تزوج أول مرة وأنجبت زوجته صبياً، لكنها لم تتحمل نمط حياتها معه، أعمى، فطلبت الطلاق. ثم تزوج ثانية، ورزق صبياً آخر. وفتح دكاناً تعاونه في إدارته زوجته. يعرف أين يضع البضاعة على الرفوف، ويتعامل مباشرة مع تجار الجملة في شرائها، لتسهل عليه معرفة سعرها عندما يبيعها. ويميز بين الأوراق النقدية باللمس، مطالباً الحكومة اللبنانية بإصدار أوراق، كما في فرنسا مثلاً، تظهر عليها أرقام قيمتها نافرة. يضع جرساً صغيراً في درج طاولة، حيث يودع المال، لينبئه بالخطر إذا ما فتحه أحد غيره. لكن أكثر ما يضيره أنه لا يمكنه أن يكون أباً كما كل الآباء. "فأنا لا أستطيع قيادة سيارة، وإبني الى جانبي، أو أشرح له أمراً شاهده، أو أرد على أسئلة كثيرة له، تنطلق من طبيعته الفضولية، وهو إبن السابعة. وعندما يراني أتلمس الأشياء لأحدد طريقي، يسألني: هل عيناك في أطراف أصابعك؟". أما حسن الذي بدأ حياته المهنية عاملاً في سنترال هاتف خاص، وهي مهنة نشطت خلال الحرب اللبنانية بعدما أصيبت شبكات الهاتف الرسمي بأضرار، فواظب على عمله حتى أصبح شريكاً لصاحب السنترال. إلا أن إصابته ضايقته كثيراً، وأثرت في مسار حياته. لأن نوع عمله توقف، بعدما استعادت الدولة مرافق هي من اختصاصها، فأصبح إن لم يجد سنترالاً في مؤسسة أو شركة يعمل فيه، عاطلاً من العمل. ويقول "من حين أصبت الى اليوم، أي من تسع سنوات، وأنا أتقدم بطلبات الى وظائف، ولا أعثر على عمل. أنا مستعد للعمل في أي شيء، إذ يكفيني ما أعانيه من ذل. أريد أن أحيا بكرامة". ولا يعرف حسن سبباً لصدّ طلباته، علماً أنه يسير على رجلين، بعدما ركّب طرفاً اصطناعياً في مركز مختص في صيدا، ويحب أن يعيش كالآخرين ويؤكد أنه يتفانى في عمله. ومأساة علي وحسن تدفعهما الى التشديد على التزام بنود اتفاقات جنيف التي تحمي المدنيين، كما يفهمانها. ويقولان "إذا كان لا بد من اندلاع الحرب، فليذهب المقاتلون الى صحراء أو جبل ويخوضوها هناك، ويتركوا المدنيين وخصوصاً الأطفال والنساء والمسنّين، يعيشون حيث هم في سلام". ويسأل علي "لماذا الحرب؟ ألسنا بشراً يمكننا التفاهم في ما بيننا بالكلام والحوار؟". ويؤكد أنه يعلّم ولديه، انطلاقاً من تجربته، ألا يؤذيا أحداً وأن يساعدا كل من يطلب مساعدة، ويبتعدا عن أي حزب أو ميليشيا "خوفاً من أن يذهب بريء، يوماً ما، ضحية رصاص يطلقانه". ويتفق علي وحسن، إذا صادفا خصماً أو عدواً جريحاً، علما بطريقة ما أنه كان سبباً لمأساتهما أو لمأساة لحقت بذويهما، على إنقاذه "لأنه إنسان أولاً وآخراً... ومن ثم لكل حادث حديث". وإذ يتمنى علي أن يعيش الأطفال في هدوء وكرامة وأن يعمّ السلام العالم كله، ويعطي نفسه مثلاً على أن اليأس ممنوع والحياة مستمرة ... ويأمل أن تنتهي الحروب في كل العالم، وإذا كان لا مفر منها، أن يُحيَّد المدنيون، ويُعمل على إنقاذ الجرحى ومساعدة المرضى "لأن لا أحد يحمل الوجع إلا من يعانيه، فجرح الجسد قد يطيب، لكن جرح الكرامة يبقى مدى الحياة. فإذا أهينت كرامتي أفضل الموت على الحياة من دونها". - 6- المؤسسات الحكومية والأهلية نشأت خلال الحرب في لبنان 1975 - 1990 مجالس ومؤسسات حكومية أو أهلية لمساعدة أبناء المجتمع على الصمود، وسد حاجات لهم، أو تعويضهم أضراراً. ومنها مجلس الجنوب و"مؤسسة الحريري". فمجلس الجنوب مؤسسة رسمية يتركز نشاطها أساساً في الجنوب والبقاع الغربي. ويشمل أيضاً كل من يقع ضحية لهذه الأعمال خارج هاتين المنطقتين. ويقول رئيسه قبلان قبلان أن المستفيدين من خدماته "كل من يصاب بضرر أو أذى من الإعتداءات الإسرائيلية، فيقدم تعويضاً مادياً الى ذوي الشهيد بقيمة 13 ألف دولار أميركي، ورواتب شهرية لعائلات المعتقلين والأسرى في السجون الإسرائيلية ومنحاً مدرسية لأبنائهم، وبدلات مادية للأسرى المحررين، ومساعدات اجتماعية وصحية وتعويضات عن مشكلات صحية أو إعاقات، فضلاً عن تخصيص 20 ألف دولار حداً أقصى لإعادة إعمار منزل تهدم كلياً بالقصف، ومبالغ أخرى لترميم منازل تضررت من جرائه". ويشير الى مساعدات أخرى تطاول البنى التحتية في الجنوب والبقاع الغربي، موضحاً أن مصادر التمويل هي الخزينة اللبنانية. أما "مؤسسة الحريري" التي أنشأها السيد رفيق الحريري وهو رجل أعمال تولى رئاسة الحكومة اللبنانية بين العامين 1992 و1998 فبدأت عملها عام 1979 في مدينة صيدا، مسقط رأسه، لمساعدة الطلاب المحتاجين والمتفوقين، وتحول نشاطها الى أعمال الإغاثة خلال الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وبعده. شرعت أولاً في بناء مدارس في صيدا، ثم جامعة ومستشفى كبير وكلية تمريض في بلدة كفرفالوس، إلا أن الإنسحاب الإسرائيلي الجزئي من الجنوب عام 1985، أوقف العمل في هذه المؤسسات لأنها تحولت خط تماس. وتروي مديرة المؤسسة النائبة بهية الحريري، أن شقيقها أرسل بواخر محملة مواد غذائية وأدوية وبطانيات وخيماً، لإعانة أهالي صيدا خلال الإجتاح الإسرائيلي، وبعد تدخل منه لدى الصليب الأحمر الدولي، إثر رفض القيادة العسكرية الإسرائيلية إفراغ حمولة هذه البواخر. وتقول أن المراكز التابعة للمؤسسة وقصر آل الحريري في مجدليون القريبة منها، أوت مئات الأشخاص المتضررين من الإجتياح، واهتمت بهم. وتتحدث عن "المرحلة الأصعب" التي أعقبت الإجتياح، وهي تنظيف صيدا ورفع الأنقاض والركام من شوارعها وإعادة تأهيل بناها التحتية. هذه الظروف التي يعايشها مجلس الجنوب و"مؤسسة الحريري"، جعلت القيمين عليهما يتسلحون بالإتفاقات الدولية الواجب اتباعها خلال الحروب. وانطلاقاً من التجربة، يقول السيد قبلان أن اتفاقات جنيف "جيدة وممتازة نظرياً، خصوصاً أنها تضع قواعد سليمة خلال الحروب تتجاوز الجيوش والأسلحة وصولاً الى حماية المدنيين والأبرياء وطريقة التعاطي مع الجرحى من أسرى العدو والمدنيين، والمحافظة على المؤسسات المدنية ورجال الدين الذين لا علاقة لهم بالحرب". لكنه يأسف "لأن هذه الإتفاقات لم تحترم في شكل كامل في أي بقعة من العالم". وفي الإطار نفسه، تؤمن السيدة الحريري باتفاقات جنيف وتدعو الى التزامها، لكنها تشير الى أنها لم تطبق خلال الحرب في لبنان، بدليل سقوط مدنيين كثر ضحايا لها، وتضرر مؤسسات مدنية وأهلية، وتهجير مئات العائلات ... وعلى رغم ذلك، يأمل السيد قبلان والسيدة الحريري بأن يعم السلام العالم. ويقول رئيس مجلس الجنوب أن "السلام رسالة الأديان السماوية كلها، وعلى صانعي الحروب أن يدركوا أن الحرب لا تجر إلا الويلات والآلام، وأن الظلم والعدوان لا يدومان". ويطالب بوضع "نظام عدالة دولي قائم على القواعد الإنسانية والمساواة بين بني البشر، إذ كما تحل مشكلة أو خلاف بين مواطنين اثنين في بلد ما استناداً الى قانون هذا البلد، المطلوب أن تلجأ الدول المتخاصمة الى هذا النظام الدولي لحل مشكلاتها، بدلاً من استخدام لغة السلاح". ويوجه أيضاً رسالة الى صانعي الحروب "باسم أطفال الجنوب المعذبين الذين لم يعان طفل في العالم ما عانوه"، أن "لهؤلاء الحق في العيش، كما كل أطفال العالم، فساعدوهم ليعيشوا، ودعوهم يحيون في سلام". وتذكّر الحريري بمسابقة في الرسم أجريت بين أطفال لبنانيين، لمناسبة إعلان عام 2000 عام السلام، فازت بها طفلة رسمت جنيناً في رحم أمه حاملاً في فمه غصن زيتون، ورسمت حمامة سلام في رحمها جنين، وتختار مضمون هذا الرسم، لتقول للعالم "أن السلام ما زال جنيناً، فلنعمل على أن يولد طبيعياً، ويحيا في طمأنينة، وأن الإنسانية لا هوية لها ولا حدود ولا ديانة، فلنتضامن جميعاً لوقف الحرب وإحلال السلام".