"المرة الأولى التي رأيت فيها بيروت كنت في الثامنة عشرة من العمر. تقدمت وقتها لإمتحانات الدخول الى الجامعة اللبنانية كلية العلوم التطبيقية. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما شاهدت البحر لأول مرة" بهذه الكلمات يبدأ زياد الحديث عن قصة دخوله الوطن آتياً من البعيد، من الشريط الحدودي المحتل ليتعلم. ولأنه لا وجود في المنطقة المحتلة للجامعات والمعاهد، كان على الطلاب الذين ينهون دراستهم الثانوية أن يختاروا إما البقاء والإكتفاء بشهادة البكالوريا والعمل بما تيسر لتأمين مورد رزق لهم ولأهاليهم، وإما الإنتقال الى العاصمة لمتابعة الدراسة الجامعية كلّ حسب رغبته وقدراته الفكرية والمادية وهذا القسم الأخير يشكل نسبة عالية من مجمل الطلاب داخل الشريط الحدودي. وهو عائد الى أن أبناء تلك الأرض هم في طبعهم وتراثهم وتاريخهم طالبو علم وثقافة. أضف الى عدم وجود مؤسسات المجتمع المدني في ظل غيات الدولة عنهم طيلة أكثر من عشرين سنة مضت. هؤلاء الطلاب أتوا يبحثون عن فرصة جديدة وسط كل الهواجس والمخاوف والقلق على مصيرهم ومصير أهاليهم. هم لا يريدون أن يضعوا الإصبع على الجرح ويتكلموا بصراحة فكثيرون منهم تهرّب من الإجابة. قلّةٌ عبّرت لكن من دون أسماء ومن دون صور وبكلماتٍ قليلة نستخلص منها أنهم يعبرون الحدود مِراراً ومِراراً غير عابئين بمشقة الطريق الطويلة والمحفوفة بالمخاطر. يعبرون هذه الحدود الى الوطن طمعاً بشهادة يحاربون فيها فقرهم وعوزهم ومستقبلهم الضائع. هؤلاء الطلاب الذين يتوزعون على الجامعات الخاصة في لبنان إضافة الى الجامعة اللبنانية يشكّلون علامة فارقة ونموذجاً فريداً وسط هذا التنوع الإجتماعي والثقافي والمناطقي لطلاب الجامعات. فمعظمهم لا يشارك في أية نشاطات حزبية أو سياسية داخل أو حتى خارج مبنى الجامعة، حرصاً على "وضعهم الدقيق" كما وصف لنا أحد طلاب العلوم السياسية وائل خوري من بلدة مرجعيون المحتلة معتبراً "أنه على رغم دراسته للعلوم السياسية لا يشارك زملاءه في التعاطي السياسي ولا يبدي رأيه في القضايا المتداولة خوفاً من التجاذبات القائمة أو من سوء فهم بعض الأطراف". وثمة مَن يقول: "أنهم كأبناء هجرتهم أمهم وهم أطفال. والآن أصبحوا في عمر الشباب يحملون معهم ضياع الهوية. يشعرون كأنهم غرباء عن هذا الوطن. يكتشفونه للمرة الأولى فمعظم طلاب السنوات الأولى من بينهم حديثو العهد لا يعرفون شيئاً عن حياة المدينة وأضوائها ولياليها ولا حتى عن مؤسسات الدولة وأدوارها ومسؤوليها. وثمة مِن بينهم مَن لا يعرف أين يقع القصر الجمهوري ولا حتى كورنيش المنارة. وفي هذا تروي فاتن عبدالله قصة "طريفة" حدثت معها في الأيام الأولى من قدومها لبيروت للدراسة: "منذ أربع سنوات تقريباً تقدمت لإمتحانات الدخول الى جامعة بيروت العربية، ومن بين الأسئلة الثقافية كان سؤال يهدف الى ترتيب أسماء رؤساء الحكومات في لبنان من الأقدم الى الأحدث. فلم أعرف الإجابة، والطريف أن أحد الزملاء من إحدى الدول العربية ساعدني في إعطاء الإجابة الصحيحة. مع بعض اللوم من الأستاذ المراقِب لجهلي في أمور بلدي وهذا ما أخجلني كثيراً. وعلى حد قول البعض منهم أن لا ذنب لهم في ذلك فهُم لم يشاهدوا المحطات اللبنانية ولم يعتادوا على زيارة المدن ولا على السياحة الداخلية ولم يقل لهم يوماً وهم على مقاعد الدراسة في مدارس الشريط الحدودي لنَقِم برحلة الى هذا الموقع الأثري أو ذاك من المواقع الأثرية في لبنان. هم ببساطة أناس لم ينموا على معرفة هذا الوطن. وتكمن المعاناة الحقيقية التي يحملها هؤلاء الطلاب في شعورهم الدائم بالغربة والبعد مسافةً ولغةً وثقافة عن واقع هذا الوطن وتناقضاته. ففي عزلتهم الماضية التي فرضها عليهم قدرهم وبفضل تنوعهم الطائفي والمذهبي تعلموا معاً حب الوطن على طريقتهم. غنوا معاً النشيد الوطني منذ الصغر وكبروا ليس فقط على معرفة ذواتهم إنما أيضاً على معرفة وقبول الآخر المختلف عنهم. وهكذا لم يكونوا في العمق حالات طائفية أو مذهبية إنما جسّدوا صيغة حقيقية للعيش المشترك التي تمتاز بها قرى المنطقة المحتلة. يأتي فادي فرح من بلدة علما الشعب ليؤكد عدم وجود أي شكل من أشكال الصراع الطائفي عنده وعند أهله وحتى في قريته. فهو يعيش علاقة صداقة مع شبان وشابات من مختلف الطوائف ويغزو هذا الى التنوع الإجتماعي والإقتصادي في بلدته وعن الصعوبات التي يواجهها اليوم في مرحلته الجامعية يقول "أنه يتصل دائماً بأهله للإطمئنان عنهم بسبب الوضع الأمني هناك. ولا يزور أهله كثيراً في القرية لأن المشوار الى هناك كمن يسافر من بلد الى آخر عليه الإستيقاظ باكراً وحزم أمتعته وانتظار سيارة الأجرة الخاصة فتأتى وتقلّه عبر طريق طويلة ورحلة شاقة قد توصله مساء الى بيته أو ترجع به الى حيث أتى بسبب إنقطاع الطريق والحوادث الأمنية. معظم هؤلاء الطلاب لا يملك منزلاً في بيروت ولا وسيلة نقل خاصة بل غرفة للسكن في بيتٍ للطلاب أو مأجور متواضع مع زملاء آخرين، ومعظم هؤلاء الطلاب لا يملك عملاً جزئياً لتسديد الأقساط المترتبة عليه. ولا حتى عملاً بعد إنهاء دراسته بسبب أزمة البطالة المتفشية أمام حاملي الشهادات الجامعية، أو لقلة "الواسطة" مع هذا أو ذاك من المسؤولين. على رغم كل هذه المعاناة المضاف اليها القلق اليومي على الأهل والأرض والمستقبل ينخرط هؤلاء الطلاب في نمط حياة جديد مختلف عما إختبروه وعايشوه طيلة سنوات غربتهم الماضية، ويحاولون الإندماج شيئاً فشيئاً في يوميات هذا الوطن وخصوصياته. واليوم يعيش هؤلاء الطلاب كما باقي اهالي المنطقة هناك حالاً من القلق والترقب والإنتظار لما ستؤول اليه الأشهر أو الأسابيع القليلة المقبلة من تغيرات جذرية قد تأتي لهم "بالمن والسلوى" أو تقضي على آمالهم وأمانيهم ويبدو هذا جلياً في تحلّق فئة منهم يومياً حول الشاشة الصغيرة في صالون الجلوس في بيت الطلبة لمتابعة نشرة الاخبار لعل فيها ما يزيل ولو قسماً قليلاً من هذه المعاناة المستمرة.