لا تشي عملية التجديد في مباني جامعة بيروت العربية بكثير من التغيير في الجوهر، وإذا كانت الاجيال التي تتوالى على قاعاتها كل سنة ترفدها بالدم الجديد فإن البقاء على قيد الحياة يتطلب انقلاباً في المفاهيم في اكثر من موقع. أربعون عاماً تكاد تمر على التأسيس، يومها كانت قيامة جامعة بيروت العربية حدثاً عربياً يدغدغ مشاعر كل الحالمين بوطن عربي واحد من المحيط الى الخليج، وكانت القيامة بمثابة التحدي لما تشكله من منافسة لصروح علمية قائمة في لبنان وربما خارجه. استمرت الجامعة واستمر معها الحلم على رغم كل النكبات، وكان حرم الجامعة العربية ملجأ كل "المنتصرين" و"المهزومين" والطامحين الى حياة عربية افضل، لكن الحرب في لبنان دهمت الجامعة، وصار الزمن يسير بطيئاً فيما شهدت الدول العربية قفزات تعليمية متسارعة وزادت التحولات العلمية الاخيرة التي سجلها العالم من تحديات الجامعة، وهي اليوم امام مفترقين: مفترق سن الاربعين ومفترق القرن الحادي والعشرين. "الحياة" التقت رئيس جامعة بيروت العربية المعين حديثاً الدكتور فتحي محمد أبو عيانة وهو الذي عمل استاذاً معاراً فيها منذ العام 1976 وشغل منصب نائب رئيس جامعة الاسكندرية ومنصب عميد منتخب لكلية الآداب فيها وكان أميناً للمجلس الاعلى لجامعة بيروت العربية. وهنا الحوار: تحتفل جامعة بيروت العربية العام المقبل بعيدها الاربعين هل تعتقد انها تكرر نفسها نحو اربعين عاماً؟ وكيف تتهيأ لما بعد "سن الاربعين"؟ - حين انشئت جامعة بيروت العربية في العام 1960 كانت نواتها ثلاث كليات: الدراسات الانسانية والآداب والحقوق والتجارة. وأضيفت اليها كلية الهندسة المعمارية وكانت من اوائل الكليات التي انشئت في الجامعات العربية اذ لم تكن في مصر كلية لمثل هذا الاختصاص، وحين انشئت كلية الصيدلة كانت بداية القطاع الطبي في الجامعة، وهو قطاع في غاية الاهمية لخدمة المجتمع اللبناني والمجتمع العربي كله. ومع اضافة كلية الطب قبل ثلاث سنوات اصبحت الجامعة تتكون من تسع كليات، ثلث طلابها من ابناء لبنان ونحو الثلثين من ابناء العالم العربي، وهنا تكمن خصوصيتها بيروت فهي جامعة العرب جميعاً من دون تفرقة وهذه الخصوصية تجعلها متمايزة، فما من جامعة وطنية في الدول العربية تضم هذه النسبة من الطلاب العرب. ولكن، هل من تخطيط لحاجات سوق العمل العربي بالمقارنة مع العدد الهائل لخريجي الكليات لا سيما النظرية منها، علماً ان الكليات العملية تنافس كليات موجودة في لبنان وطلابها في الجامعة العربية لبنانيون في معظمهم؟ - هذا لا يعني اطلاقاً ان نغلق الكليات العملية، وأنا من المؤمنين بالفصل دائماً بين الشهادة والوظيفة لأن آليات سوق العمل تختلف من دولة الى اخرى. وأنا كجامعة لست مسؤولاً عن التخطيط، عندما تأتي الدولة وتقول لي انها ليست في حاجة الى اطباء، اقلّل عندئذ من عدد المقبولين في كلية الطب ولكن لا اغلقها. التعليم الجامعي اصبح حقاً من حقوق الانسان ويجب ان يحصل عليه وفق قدراته. وآليات سوق العمل هي التي تحدد الوظائف المتاحة للخريجين لكن هذا لا يعني ان يكون قيداً على الجامعات، حتى في العالم المتقدم فإن نسبة المتعلمين في الجامعات مرتفعة ولكن ليس بالضرورة ان يجد كل خريج وظيفة تنتظره وفق تخصصه. هل ما زال الطالب العربي يقصد جامعة بيروت العربية كما السابق؟ - انها جامعة العرب جميعاً. ليست لفئة معينة او لطائفة معينة او لمستوى اقتصادي معين. انها لكل من تنطبق عليه شروط القبول. الكليات النظرية هي اكثر الكليات التي يقبل عليها الطلاب العرب لأن الدراسة فيها تتناسب مع ظروفهم، من خلال نظام الانتساب وهو بداية ما يعرف بالتعليم عن بعد، واستحدثنا هذا العام نظاماً جديداً يقضي بأن يمضي الطالب المنتسب شهراً كاملاً قبل موعد الامتحانات مع الاساتذة في بيروت. وطبقنا هذا النظام نهاية العام الماضي في امتحانات الاسكندرية على سبيل التجربة، وعملنا على اقامة مركز لخدمة الطلاب بحيث يتصل الطالب مباشرة بالجامعة للوقوف على المقرر ومواعيد الامتحانات ويمكن ان يتم اللقاء مع الاستاذ عبر الهاتف او الفاكس. هل ما زالت الدراسة في الجامعة تعتمد اللغة العربية؟ - الكليات العملية تدرس كلها باللغة الانكليزية. فأنا اؤمن بأننا في العالم العربي ما زلنا نعتمد على مصادر المعرفة الغربية وهي باللغة الانكليزية او الفرنسية. لكن الانكليزية هي الاساس فهي لغة "أنترنت" ولغة العالم كله. هي لغة العلم في كل المؤتمرات واجادتها تعني الطريق الصحيح للباحث الحقيقي. لكن هذا لا يعني اننا نلغي اللغة العربية. لدينا اختصاص اللغة العربية وآدابها ونحن على وشك انشاء شعبة قانون باللغة الفرنسية في كلية الحقوق. هذا يعني انكم عدتم الى "ازعاج" الجامعة اليسوعية كما فعلتم في الستينات حين انشأتم كلية الحقوق؟ - انها قضية تكامل، لماذا الانزعاج؟ افتتاح اي جامعة يعني رفع منارة علمية في اي مجتمع. الا تشعرون انكم تزعجون احداً؟ - الناس كلهم متعاونون معنا ونحن نبادلهم الامر. نتعاون مع جامعات لبنانية، مع جامعة الكسليك خصوصاً في ما يتعلق بالهندسة المعمارية، ومع الجامعتين الاميركية واللبنانية، ونحن منفتحون على كل الجامعات، وأعود وأقول ان افتتاح جامعة هو اغلاق للكثير من منابع الجهالة في العالم العربي. أين البحث العلمي في الجامعة العربية؟ - لا بد من ان نعترف بأن البحث العلمي هو وظيفة من وظائف الجامعة. لكن كلفته عالية جداً، ونحن كجامعة عندما نفكر بالبحث العلمي لا بد من ان نفكر به على اساس سليم لا مظهري. ونشجع اعضاء هيئة التدريس على اجراء ابحاث علمية ونشجع الكليات العملية بالذات على اختيار ابحاث معينة والجامعة تموّلها، ولكن يظل هذا الامر اقل من طموحاتنا. طموحي الشخصي انشاء كلية دراسات عليا وأبحاث في الجامعة، وحالياً يجري الطلاب ابحاثاً تحت اشراف اساتذتهم، اما مسألة البحث العلمي نفسه وتطويره والحصول على الدعم من الدولة والشركات والهيئات فتحتاج الى هيئات يعهد اليها اجراء البحوث. وأرى ان انشاء هذا المعهد ضرورة في لبنان. هل انت مع تمويل البحث العلمي من القطاع العام ام الخاص؟ - أنا شخصياً لا يهمني الممول إنما ما سأقوم به. هناك مؤسسات ضخمة في الولاياتالمتحدة تموّل البحث العلمي مثل "فورد" و"روكفلر" و"فولبرايت" سواء في مجالات الدراسات الإنسانية أو التطبيقية. لا يهمني هوية المموّل ما دام البحث يخدم العالم العربي لأن القطاع العام لن يمول الأبحاث. فالحكومات محكومة بقوانين تحد من تمويل الأبحاث. لماذا إذاً هناك مشكلة التمويل؟ - البحث مكلف جداً، وبعض الأبحاث لا يقل كلفته عن المليون دولار. نحن منفتحون على اي شركة أو هيئة تريد من الجامعة اجراء بحث علمي حقيقي. هل الجامعة العربية لبنانية أم مصرية أم عربية؟ من يصنع القرار فيها؟ - هذه جامعة لبنانية لا مصرية. لكن القرار فيها مصري؟ - منذ نشأتها هناك اتفاق بينها وبين جامعة الإسكندرية، وهناك نظام أساسي يحكم العلاقة. الجامعة وقف إسلامي تبرعت به جمعية البر والإحسان. إنها جامعة لبنانية خاصة. والنظام الأساسي ينص على أن الرئيس يكون من جامعة الإسكندرية أو أي جامعة أخرى إنما يعيّنه وزير التعليم المصري، وهذا شرط. فالجامعة تعتمد أعضاء هيئة التدريس في جامعة الإسكندرية والجامعات الأخرى وتمنح الشهادة التي يعتمدها مجلس جامعة الإسكندرية، ونأتي الى صنع القرار وله ثلاثة مستويات، المستوى الأول مجلس الكليات. وهم مصريون. - يمكن أن يكونوا لبنانيين ومصريين بحكم الاعارة، ثم هناك مجلس الجامعة الذي يرأسه رئيس الجامعة ويضم عمداء الكليات وأمين الجامعة وممثل جمعية البر والإحسان. وهناك المستوى الثالث وهو المجلس الأعلى للجامعة ويرأسه رئيس جامعة الإسكندرية ونائب الرئيس وهو رئيس جمعية البر والإحسان إضافة الى عضوية أربعة أشخاص من الجانب المصري وأربعة من الجانب اللبناني. لكن رئيس الجامعة يعينه وزير التعليم العالي المصري؟ - القرار لن يكون مصرياً ولا لبنانياً مئة في المئة، انه قرار أكاديمي. فالمجلس الأعلى هو مناصفة ولو رفض النصف اللبناني يُرفض القرار، واختيار رئيس الجامعة يأتي بترشيح من الجانب اللبناني والقاعدة أن يكون مصرياً، فإذا أرادوه لبنانياً فليتغير النظام الأساسي وهو يتغير كل خمس سنوات. نحن كالجامعة الأميركية مثلاً أو أي جامعة اخرى، هناك اتفاق بينها وبين جامعة أخرى لاحتضانها أو مشاركتها في العملية الأكاديمية، يوم تقول الجامعة أنها لا تريد علاقة مع جامعة الإسكندرية فأهلاً وسهلاً. القضية قضية مصلحة عامة ورسالة تؤديها الجامعة بصرف النظر عن الهوية، والنظام الأساسي ينص على أن نصف اعضاء هيئة التدريس لبنانيون. نسمع دائماً عن صراعات بين الأساتذة المصريين واللبنانيين في الجامعة حتى تكاد المصلحة العامة تخضع لمصالح شخصية؟ - أرفض كلمة صراع في قاموس عملي في الجامعة العربية، ربما قلت نوعاً من أنواع المنافسة. كيف ينصف صناع القرار اللبنانيين؟ - الجامعة عبارة عن هيكل أعضاء التدريس وهيكل الطلاب والهيكل الإداري. وفي أي جامعة فإن قاعدة هرم اعضاء الهيئة التدريسية هم المدرسون ووسطه أساتذة مساعدون وقمته أساتذة. فالتقاليد الجامعية تقول ان أستاذ المادة مسؤول عنها وهو بروفسور أمضى 30 عاماً في تخصصه وترقى من مدرس الى أستاذ مساعد وأصبح أستاذاً، وقضى مدة طويلة في التدريس. وعندما يأتي مدرس ويطلب ان يدرّس مادة لا يرى الأستاذ انه جدير بها، يقول المدرس "لأنني لبناني وهم ينصفون المصريين". مجلس الكلية هو من يوزع الجدول ويضم لبنانيين، والأستاذ المصري يتغير كل أربع سنوات. أما اللبناني فثابت. وعندما يصل اللبناني الى درجة أستاذ فله كل الامتيازات التي للأستاذ المصري. ماذا عن انصاف الأساتذة مادياً؟ - الانصاف من ضمن ظروفنا، فأنا لا أستطيع أن أعطي الأستاذ اللبناني المعين الراتب نفسه الذي أعطيه للأستاذ المعار من مصر، لأني إذا أعطيت المصري الراتب اللبناني لن يأتي الى بيروت وهذا يؤدي الى اقفال الجامعة. وما يحدث هنا يحدث في جامعة الإسكندرية. فالأستاذ الأجنبي يأخذ ثلاثة أضعاف راتب الأستاذ المصري، لا شك في أن في كل جامعة مشكلات لكن المهم أن تكون تحت السيطرة، أنا ألغيت من قاموسي أن هذا لبناني وذاك مصري، ولم أجدّد لاثنين من الأساتذة المعارين من مصر أحدهم برتبة أستاذ مساعد والثاني مدرس لأنهما قصّرا في مجال معين، وعينت مكانهما لبنانيين، ما أحاول قوله أن كل المدرسين اللبنانيين سيصبحون اساتذة، خلال عشر سنوات، برتبة، والسنة المقبلة هناك رؤساء أقسام لبنانيون. خلال الأحداث كانت الجامعة العربية مسرحاً لكل التيارات السياسية، أين طلابها اليوم من السياسة؟ هل تغيروا أم أن الجامعة غيّرت سياستها؟ - الجامعة مؤسسة تعليمية لا مؤسسة سياسية. هذا الكلام أؤمن به منذ كنت نائب رئيس الجامعة في مصر ومسؤولاً عن 90 ألف طالب. وكنت واضحاً وضوح الشمس، من هنا فجامعة بيروت العربية تضم كل التيارات والتوازنات. ولكن لا تقبل اطلاقاً أن يكون هناك تدخل سياسي و عمل سياسي داخل أسوارها. لطلابنا حرية الرأي في اطار تقاليد الجامعة. وهذا يعني ان اي مجموعة طالبية تريد اقامة ندوة أو معرض، عليها الحصول على موافقة الجامعة، وإذا وجدنا ان النشاطات تخرج عن التقاليد الجامعية نرفضها، للجامعة الأميركية خصوصيتها وللجامعة العربية خصوصية أخرى، انها جامعة العرب. هذا يعني انهم لا يستطيعون أن يعبروا عبر اعتصام مثلاً عن رأيهم في قضية عربية معنية؟ - في ذكرى خمسين سنة على نكبة فلسطين نظموا معرضاً، غير مسموح أن يأتي رجل سياسة ليجتمع مع طلابه هنا ويتحدثوا ضد مجموعة أخرى. أنا أقول له ان هذه جامعة وأنا متأسف، انما اعطي للطلاب هامشا للتحرك السياسي تحت سيطرة الجامعة. هل يشارك الطلاب في صنع القرار في الجامعة؟ - نحن نوزع على الطلاب استمارات لمعرفة رأيهم في أعضاء هيئة التدريس وهناك آراء أخذنا بها، والطلاب لديهم حس عالٍ جداً. انهم ممتازون. ما هي مشاريعكم المستقبلية؟ - نريد اقامة مستشفى بكلفة مئة مليون دولار في حرم الجامعة واشترينا أرضاً ب13 مليوناً في منطقة الدبية الشوف مساحتها 300 فدان، وهي لجامعة المستقبل، وسيتم بناء المستشفى على طريقة B.O.T عبر تجمع شركات عالمية. ويقضي الاتفاق بتسليم المستشفى بعد عشر سنوات وهو مستشفى تعليمي. أما مشروع الدبية فيضم مدينة جامعية للطلاب واحتمال كلية زراعة وقد ننقل كلية العلوم أو الآداب الى هناك.