من بين عشرات الأفلام العربية القصيرة، الروائية بخاصة، يمكن التوقف في الآونة الأخيرة عند عدد لا بأس به من شرائط يحققها شباب آتون من شتى البلدان العربية حاملين دماً جديداً عبر الدوران بأفلامهم هذه بين مهرجان وآخر. وهنا وقفة عند فيلمين أولهما من الأردن والثاني من العراق: «بهية ومحمود» لزياد أبو حمدان، والثاني «المحنة» لحيدر رشيد. للوهلة الأولى عقب هبوط عناوين فيلم «بهية ومحمود»، للمخرج زياد أبو حمدان، تقفز إلى الذهن قصة «الورقة بعشرة» للكاتب المصري الراحل وسيد القصة القصيرة يوسف إدريس. قطعاً الشخصيات مختلفة والأحداث غير الأحداث تماماً، لكن الروح المسيطرة على كلا العملين والفكرة الأساسية واحدة. في قصة يوسف إدريس كانت الزوجة - وفق رأي زوجها «صلاح» - خانقة لا تُهديه سوى الكلمات السامة المنتقاة، والشخطات التي لا رحمة فيها ولا عاطفة... لذلك أصبح «صلاح» ساخطاً على الزواج، فحياته صارت مملة رتيبة تقتله بالتدريج، يحس أنه يحيا كالمومياء المحنطة. وفي البيت يتعثر في ألف مشكلة وكارثة. كما لم تعد رفيقة دربه امرأة يشتهيها ولا حتى صديقة يأنس إليها. في الشريط السينمائي الأردني القصير «بهية ومحمود» نعايش يومين في حياة زوجين عجوزين يسكنان في شقة بحي شعبي، ونغرق معهما في شجارهما المتواصل، كأن ما يربط بينهما ليس سوى حرب مستعرة مستمرة وخلاف دائم يتجدد كل ثانية. الزوجة ثرثارة سليطة اللسان يكرهها زوجها، مع ذلك وعلى رغم الضجر نتعاطف معها لأنها تتحمل مسؤولية كل شيء فزوجها مريض وكسول ولا يُجيد فعل شيء سوى كرهها ومناكدتها. ومع هذا عندما يصحو الزوج العجوز من نومه في أحد الأيام ولا يجد أثراً لزوجته، يظل يبحث عنها وينادي عليها كالمجنون. يهبط متعثراً بملابس النوم إلى الشارع الذي لم يخرج إليه منذ سنين أملاً في العثور عليها. تعود الزوجة إلى البيت متأخرة؛ لأنها أصرت على شراء خبز فرنسي له كان قد اشتهاه، وعندما لا تجده تخرج باحثة عنه في الشوارع. بعد رحلة بحث مكسوة بالقلق والخوف والفزع يلتقي الاثنان على مقربة من شقتهما فيضحكان فرحاً وبهجة غير مصدقين أنهما التقيا من جديد. تلك الخاتمة أيضاً تُؤكد ذلك التماس بين القصة والشريط السينمائي القصير الذي سبق وحصل على جائزة مهرجان بالم سبيرنغ في أميركا وجائزة مسابقة الأفلام الأردنية القصيرة في عمان. ففي «الورقة بعشرة» ظل الزوج يتساءل: ما الذي يربطه بزوجته؟ ما الذي يجعله يتحمل تلك الحياة السخيفة؟ ما كنه تلك العلاقة الغريبة التي تجمعهما؟ كانت حياته معها كره في كره وخلاف في خلاف. عانى معها ألف ليلة وليلة من الألم القاسي. لكنه لحظة أهداها خمسة جنيهات في عيد زواجهما، وبعد أن كتبت هي أيضاً له إهداء على ذات الورقة النقدية، بعد أن بكت غير مصدقة أن زوجها يُفكر فيها ولا يزال يُحبها فاضطربت وضحكت وبكت وتناوبت عليها مشاعر مختلطة، هنا في تلك اللحظة تفجرت عاطفة قوية مبهمة في نفسه، وإعزاز غريب مفاجئ لزوجته اكتشف أنه يملأ صدره. من محنة كاتب الى محنة وطن ثلاثة أمور لافتة تُميز فيلم «المحنة». أولها جرأة المخرج الشاب حيدر رشيد في أن يُدشن حياته المهنية كمخرج سينمائي بفيلم يعتمد على الزمن النفسي للشخصيات أكثر مما يعتمد على وجود أحداث، إذ يروي الفيلم أزمة كاتب شاب انتهى من تأليف روايته الأولى ويبحث عن ناشر، لكن اختطاف والده واغتياله في «بغداد» على يد عصابات إرهابية مسلّحة يلفه بصدمه عنيفة. كان والده أكاديمي عراقي، عاش في المنفى أكثر من عقدين وعاد إلى العراق بعد تلك السنين ليُسهم في إعادة إعماره، لكنه يُخطف ويُغتال بعد أسابيع من عودته. يتنامى الشريط السينمائي عبر خطين: بحث الابن في ثنايا علاقته المتوترة المرتبكة إلى حد الانفصال مع أبيه عبر رسائل صوتية تركها له، وعبر علاقة حب من طرف واحد مع صديقته. كذلك يتعرض الفيلم لمأساة العراق ومحنة المنفى من دون أن يستعين بأية لقطة من أرشيف الحروب الممتدة في ذلك البلد الذي صار مفتتاً متناحراً. ثانيها اختياره للممثلين خصوصاً بطل الفيلم الذي جاءت معظم مشاهده في لقطات مقربة طويلة زمنياً، أو متوسطة الحجم، وهي أمور كفيلة بإفشال العمل لو لم يكن الممثل تلقائياً متدفق الأداء ومقنعاً. فإطالة زمن المَشَاهد - التي تعكس وحدة البطل بشخصيته المركبة وعزلته عن العالم المحيط به لكي تترجم حالة الضياع والفراغ التي تسيطر على حياته وتجعله ينام في سيارته ويتسكع في الشوارع - إذا لم تُملأ بالزمن النفسي الصادق وبالأداء المعبر يُمكنها أن تتحول إلى النقيض لتقضي على الفيلم تماماً. ثالثها التصوير الذي جاء معظمه ليلياً ليُجسد حيرة البطل وأزمته واغترابه والانزواء بعيداً من صخب المدينة وذلك من خلال شحوب الأضواء التي زادت الأجواء وحشة، ومنحت الإحساس بالغرق في الحزن، من خلال اللقطات التي يلفها الضباب والمشاهد المعتمة، غائمة الملامح. وحتى عندما استخدمت الألوان اقتصرت على اللون الأزرق رمز الحزن، فالشخصية الرئيسة مغمورة بالحزن والتشوه والاضطراب، لكنها مع ذلك لا تيأس من محاولة تغيير الواقع.