شكلت المأساة العراقية، خلال العقود الأربعة الأخيرة، مادة خصبة وظفها الفنانون العراقيون في الفنون المختلفة. ولعل السينما، خصوصاً التسجيلية الوثائقية، كانت الأكثر تعبيراً وتأثيراً. لكن الملاحظ أن غالبية هذه الأفلام طغت عليها مشاهد الخراب والدمار والدماء، بل إن السينما الأميركية راحت، أخيراً، تستعيد جانباً من المشهد العراقي الدامي كما في فيلم «خزانة الألم» للمخرجة كاثرين بيغلو الذي نال ست جوائز أوسكار في الدورة الأخيرة، وفيلم «المنطقة الخضراء» لبول غرينغراس، وهما فيلمان يحفلان، بدورهما، بمشاهد القتل والمطاردة البوليسية وهدير الآليات العسكرية التي تستعيد الى الأذهان بعضاً من أفلام الحرب العالمية الثانية، في فيلم حيدر رشيد «المحنة». نحن هنا إزاء فيلم من نوع آخر يروي فصول المأساة من دون صخب أو دماء، ويوثق الألم العراقي في شريط سينمائي ينأى عن مسرح الأحداث، ليطل، هذه المرة، على التواريخ المريرة؛ القاسية من عاصمة الضباب لندن التي استحالت ملاذاً آمناً لعراقيين كثر. عتمة الألم العراقي «المحنة» يخوض في التداعيات النفسية والإنسانية للحروب والمنافي، ويصور الألم العراقي من الضفة الأكثر عتمة وتعقيداً وخصوصية، فهو يغوص في دواخل بطل الفيلم (إيان أتفيلد)، وهو ابن كاتب عراقي أراد أن يعود الى بلده بعد سقوط النظام الذي أرغمه على المنفى، فكان الموت في انتظاره في بغداد التي حلم بها طويلاً، كمدينة متسامحة، ودودة، لكنه وجدها «جحيماً»، كما يصفها في رسالة له للابن. هو لا يريد للابن الذي ولد وعاش في المنفى البعيد أن يرى هذا الجحيم الذي كان، ذات يوم، مرتعاً هادئاً للطفولة والصبا. كانت بغداد مدينة تغفو بوداعة على ضفاف دجلة كما أحب أن ينقل صورة مدينته البهية للابن الذي يهيم، الآن، على وجهه في شوارع لندن، يعيش محنة فقد الأب الكاتب رشيد الزهاوي، هذه الذكرى الموجعة التي تلح عليه، وتحفر عميقاً في الوجدان، ليغدو مجرد كائن أسير الانكسار والخيبة، يصعب عليه التناغم مع موسيقى الحياة، بينما والدته تعيش في مدينة بعيدة لا يتواصل معها إلا عبر مكالمات هاتفية باردة. هي محنة الجيل الثاني من أبناء العراق الذين ولدوا في المنافي، ولم يروا بلدهم سوى في حكايات الآباء، وقصص الأمهات، فعاشوا صراعاً مريراً إزاء هوية ممزقة بين بلد المنفى الذي احتضن طفولتهم وصباهم، وبلد آخر لم يروه، أبداً، سوى في عيون الآباء التي أضنتها حرقة الحنين والشوق اليه. ها هو الابن يريد أن يكون وفياً لذكرى والده «المقتول»، فيسعى إلى نشر كتاب عنه، وإذ يحظى بهذه الفرصة الثمينة، لكنه في نهاية الفيلم يمزق العقد مع دار النشر، ويُحجم عن فكرة إصدار الكتاب، في تجسيد لصورة البطل السلبي الذي لا يبحث عن انتصار زائف، أو أنه لا يرضى أن تتحول ذكرى الأب الى مجرد كتاب أنيق في مكتبات لندن الفخمة. محنة الأبناء لا تكمن في اضطراب العلاقة مع الوطن بكل دلالاته الرمزية فحسب، بل ان هذا الاضطراب يكاد يطغى على مختلف تصرفاتهم، وسلوكياتهم، وخصوصاً في جزئية العلاقة مع الآخر، إذ نفاجأ بأن بطل فيلم «المحنة»، المجهول الاسم، يعيش حباً صامتاً مع صديقته الفنانة التشكيلية، المجهولة الاسم، كذلك، منذ أربع سنوات، لكنه لا يقوى على البوح بهذا الحب في مدينة تبذل فيها العواطف على نحو سخي، ومن دون أية قيود. صورة الوطن الغائب تكمل، هنا، صورة الحبيبة الغافلة عن مكابدات الحبيب، ولئن بدت الصورة الأولى غائمة؛ ناقصة، فإن الصورة الثانية، بدورها، جاءت ملتبسة، وغير مستقرة تماماً مثل حركة الكاميرا التي كانت تهتز على نحو واضح لتظهر مقدار الضياع والتشتت والقلق الذي يمور في نفس بطل الفيلم، تلك الشخصية المستوحاة من نص مسرحي للكاتب براد بويسن، والتي تختزل بمزاجها المعطوب، وبملامحها الهادئة، الحزينة حكاية بلد اسمه العراق. اهتزاز ما... وفضلاً عن اهتزاز الكاميرا التي تعكس اهتزاز القيم والأخلاقيات، وتجسد الأزمات النفسية للبطل الذي يحيلنا الى شخصيات درامية وروائية كثيرة مثل بطل رواية «الجريمة والعقاب» لديستويفسكي، أو «هاملت» لشكسبير، تمثيلاً لا حصراً، نرى العدسة تتجول في شوارع لندن على غير هدى، تظهر الأضواء البراقة، والشوارع النظيفة، وحركة المارة والبشر الذين يقبلون على مشاغلهم من دون اكتراث لبطل الرواية القابع وحيداً، ضجراً في سيارته، وهو لا يمل من الاستماع الى شرائط مسجلة تركها له والده، إذ يتحدث الأخير بصوته المرتجف، المقهور عن الوطن الذي هجره عنوة، وعن قسوة المنفى التي يصفها ب «وحش مفترس، يحيل الإنسان الى كائن صغير مهزوم»، ولا فارق، هنا، بين رجل عادي، وكاتب كبير قضى حياته منفياً في البحث والكتابة، ثم ذهب ضحية إرهاب أسود كما حصل للكاتب العراقي كامل الشياع، المُهدى اليه الفيلم. في «المحنة» يجد المشاهد نفسه إزاء مقترح بصري مختلف، سواء عبر اللقطات البعيدة لمدينة لندن، أو من خلال اللقطات القريبة جداً (كلوز آب) لوجوه ابطال الفيلم الذين تورطوا، أحياناً، في تقديم أداء مسرحي (مشهد السهرة التي جمعت البطل والبطلة). وبقدر تخفف الفيلم من الشعارات الكبرى المعتادة، فإنه يحفر عميقاً في تربة الروح المتيبسة، ويتمادى في تصوير لحظات الخسارة... وما يسجل للفيلم، الذي شاركت في انتاجه دول عدة، هو نجاحه في إظهار تراجيديا الحروب، والاضطهاد من دون الاهتمام باستحضار مشاهد تعكس تلك الأجواء. النبرة، هنا، خافتة، فالفيلم يغوص في دهاليز الروح، ليعثر على كم من الأسئلة التي لا أجوبة لها. ويمكن القول، وبقليل من النباهة، إن الفيلم يعكس سيرة المخرج حيدر رشيد ذاته، فقد ولد في مدينة فلورنسا الإيطالية لأب عراقي؛ كردي (عرفان رشيد)، وأم إيطالية، وهو يعيش الآن في لندن، ولا يتقن العربية أو الكردية، لكن فيلمه الروائي الأول، هذا، جاء عراقياً في خطوطه الرئيسة. فمن أين نشأت هذه النزعة في سرد حكاية يخال المرء أنها لا تعني المخرج رشيد في شيء؟ ذلك هو السؤال الجوهري الذي يطرحه الفيلم، وكأن الارتباط بالأرض والجذور مسألة فطرية خاضعة للجينات الوراثية، وليست مسألة مكتسبة!