القبول - ولو متأخراً- بحق العودة للاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، شعاراً لمرحلة النضال المقبل، لا يعفي فصائل المعارضة الفلسطينية التي تبنت الخيار المشار إليه أخيراً، من الإجابة عن تساؤلات تتفرع أو تتوازى مع هذا الانقلاب في الخيارات والتوجهات. فهل تبني فصائل المعارضة هذا الخيار، من ضمن المنطق الذي تنص عليه قرارات الأممالمتحدة في هذا الخصوص؟ أم تتبناه فقط كحق طبيعي وتلقائي من سياق حقوق الإنسان التي اعترفت بها المنظمة الدولية؟ ما هي أدواتها في إنفاذ هذا الحق؟ وأين تختلف أو تتفق مع المؤسسات الأهلية التي تعمل في الإطار نفسه؟ وما هي مقدرتها على تعبئة أكثر من 5،4 ملايين لاجئ فلسطيني، خصوصاً أولئك الذين يقطنون المخيمات في الأردن وسورية ولبنان؟ وهل تمكنها تجربتها السابقة مع المخيمات المهملة من استعادة ثقة سكان تلك المخيمات؟ وهل يعني اعتماد خيار حق العودة أن تلك الفصائل ستتوقف عن اتهام الآخرين بالخيانة بسبب تبنيها الخيار إياه؟ هل تعترف هذه الفصائل بالمستقلين وفئات المجتمع المدني الفلسطيني، أم تبقى محتكرة المعارضة كما تحتكر حركة فتح السلطة؟ حق العودة هو الطريق الوحيد والأخير لاستئناف النضال الجدي بكل أشكاله، عبر استعادة الحقوق المسلوبة، خصوصاً بعد المتغيرات الهائلة التي أصابت العالم والمنطقة، وبعدما كاد خيار "الدولة الفلسطينية" يطيح كل التضحيات والإنجازات الفلسطينية على مدى ثلاثة أرباع القرن. ولكن يجب التنويه، كذلك، بأن فصائل المعارضة الفلسطينية فشلت منذ مؤتمر مدريد عام 1991، في تقديم بديل حقيقي من عملية التسوية، وأن هذه الفصائل لا تدرك أن عجزها الأساسي ينبع من تركيبتها البنيوية ورؤيتها الفكرية العاجزة عن اجتراح بدائل مقنعة لا تخرج على الثوابت الوطنية، وتبقى في الوقت نفسه على تماس مع الواقع ومتغيراته. فقد راوحت أفكار تلك التنظيمات، في المنطقة الحرجة، حيث كانت دوماً عاجزة عن ترجمة الشعارات وقائعَ، وعن اكتشاف آليات عمل تخدم الهدف الاستراتيجي من دون الوقوع في عقم الأيديولوجيا. وتنطوي طبيعة عملية التسوية ومسارها الحالي دائماً على المحفز الحقيقي لتبني فكر جديد، ولكن يبدو أن فصائل المعارضة احتاجت الى وقت طويل جداً لإحداث التغيير المطلوب. فالاستجابة البطيئة والمتأخرة للمتغيرات دليل عجز أكثر مما هي مؤشر الى الهم الحقيقي بحثاً عن بديل. لعل اللافت في الأمر أن بعض أقطاب تحالف المعارضة، ومنذ مدة قصيرة، شكك في كل الأطراف الفلسطينيين الذين دعوا الى حق العودة، واتهمهم بالخيانة، ولم يكن هناك تفسير لذلك، فما الذي تغير في المعطيات؟ وهل هو من أجل قطع الطريق على المؤسسات الأهلية التي تعمل الآن على حق العودة، علماً أن 60 في المئة من سكان الضفة لاجئون، وكذلك 40 في المئة من سكان غزة، و20 في المئة من سكان أراضي 1948؟ تحتاج الساحة الفلسطينية بمقدار ما تحتاج الى الصراحة والشفافية، إلى الإيجابية، وقد فعلت فصائل المعارضة حسناً حين تبنت خيار حق العودة لكن التحدي الحقيقي هو في إيجاد آليات عمل جديدة من أجل خدمة هذا الشعار بما يتلاءم وبنيتها الذاتية وتكوينها، وإلا فسيكون تبنيها ذاك بمثابة الطلقة الأخيرة في الهواء. إن حق العودة هو الشعار الأساسي الذي يجب أن يرفعه الفلسطينيون راهناً ومستقبلاً، لكن أمام هذا الشعار تحديات، أخطرها بالنسبة الى الفصائل الفلسطينية هو كيف تتمكن هذه الفصائل العسكرية وشبه العسكرية وقد توقفت عن الكفاح المسلح منذ مدة طويلة من إيجاد آليات لتفعيل فكرة العودة؟ التفكير الاجتماعي والسياسي يؤكد، في هذا المجال، أن القوى التقليدية الممَأسسة، لا تستطيع أن تتبنى أفكاراً حديثة إلا إذا فقدت خصوصيتها، والفصائل الفلسطينية اكتسبت شرعيتها عبر تعاقد ضمني مع الشعب، وهذا العقد غير المكتوب يلزم الفصائل والتنظيمات، الكفاح المسلح، لكن العمل العسكري توقف لأسباب كثيرة ومعقدة، لا ذنب للتنظيمات فيها في بعض الأحيان، إلا أن مجرد التوقف عن امتشاق السلاح أفقدها شرط التعاقد الضمني، لذلك ينبغي الاعتراف بأن الفصائل والتنظيمات تعاني الآن مأزقاً في شرعيتها، وتحاول الخروج منه برفع شعار حق العودة، فهل تحمل السلاح في وجه "إسرائيل" لإجبارها على الاعتراف بحق العودة، أم تكتفي بتبني الشعار ليكون شعار إجماعها، كما أجمعت قبلاً على الكفاح المسلح، وكانت آنذاك فرصة سانحة للتوحد عليه في ما بينها ولم تفعل؟ فالتنظيمات الفلسطينية، لو اعتبرت نفسها مرحلة منصرمة من مراحل النضال الفلسطيني وليست قدراً في حياة الشعب، لاستطاعت القيام بدور أكثر إيجابية، فقد قدمت الكثير في السابق من أجل القضية الفلسطينية، لكنها وصلت أخيراً الى الطريق المسدود، ومن الأفضل لها وللشعب الفلسطيني، ووفقاً للقانون الطبيعي، أن تفسح في المجال أمام الأجيال الجديدة وأفكار جديدة وآليات جديدة، ليست بالضرورة سياسية فقط. * كاتب فلسطيني.