تستطيع اللغة ان تعبر بدقة عن اطراف الصراع وان توضح اسبابه تماماً، فرواية تبدأ صفحتها الاولى بلغة من مستوى "ايقظته الرصاصات. سبع رصاصات اخترقت الواجهة الغربية واجتازت الممرات الكامدة والتجاويف المشظاة والهامات المشرئبة والهواء المصفر من القيظ ثم استقرت في جسد ما: انه جسدي"، ذلك في مقابل بيان بدأ "من سلّ سيف البغي قتل به.اتهامات تفيض باللوم فيضاً وتغيض الكرام غيضا". يمكن في مقارنة بسيطة فهم العقل الذي خرجت منه كل جملة والى اي عصر ينتمي هذا العقل. وهذه المقارنة تفسر طبيعة الصراع، اذ ان المستوى الثاني من اللغة فقرات من كتاب رفعته مشيخة العقل الدرزية في سورية الى رئيس الوزراء المهندس محمود الزعبي تطالب فيه بالغاء ترخيص رواية "قصر المطر" لمؤلفها ممدوح عزام وسحبها من التداول واعطاء الحقوق القانونية لاقامة دعوى قضائية ضد مؤلف الرواية الصادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 1999. وادى الكتاب - البيان وما تبعه من مشافهات الى اثارة زوابع من الافعال وردود الافعال في اوساط الطائفة الدرزية وقد انقسامت بين مؤيد لحرية الفكر وبين حريص على "كرامة الطائفة" علماً ان الرواية من وجهة نظر من يقرأها لا تتضمن ما يمكن اعتباره مساساً بكرامة الطائفة. والحالة هذه تشكل سابقة لم يألفها الوسط الثقافي في سورية. اذ باستثناء فيلم "اللجاة" المأخوذ عن رواية "معراج الموت" للكاتب نفسه لم يتعرض عمل ادبي او فني لردود فعل دينية اوشعبية. وتعتبر الاوساط المعارضة ان الرواية "تشوه صورة الطائفة الدرزية" وتقدم عنها "صورة مغلوطة، وتسيء الى رموزها الدينية ورجالاتها التاريخيين" ولا سيما سلطان باشا الاطرش قائد الثورة السورية الكبرى 1925. ويأتي الاعتراض من كون الرواية ترصد وللمرة الاولى بيئة هذا المجتمع من الداخل وتقدمه كأي مجتمع آخر في العالم من خلال ابطاله وانتهازييه، من خلال شرفائه وفاسقيه، عشاقه ورجال دينه، عاداته ومعتقداته. ومن خلال الرواية ايضاً تبرز تفاصيل من البيئة يصنفها البعض على انها اسرار دينية مقدسة لا يجوز اشهارها. فالرواية مثلاً تعتمد "التقمص" حلاً فنياً يمكن الكاتب من تكثير ازمنة السرد الروائي، في حين يعتبر التقمص احد المعتقدات الدينية للدروز. وهو الامر الذي يعرفه الجميع، ولم يعد يعتبره سراً الا من يعيش في عقلية القرن التاسع. ويعتبر عدد من المثقفين السوريين انفسهم في خندق "الدفاع عن حرية الكلمة". وهناك اصرار على عدم وقوع هذه السابقة، على الرغم من ان الامر في حالة ممدوح عزام لا يعدو كونه مجرد فهم خاطئ لرواية جميلة من قراء سولت لهم قراءتهم - او اسبابهم الاخرى - ان يوغروا صدور رجال الدين ويؤلبوهم ضد الكاتب عبر ايهامهم بأن الرواية تحمل اساءات للطائفة. وقد تبين ان شيوخ العقل الثلاثة الموقعين على الكتاب - البيان لم يقرأوا الرواية وانهم اعتمدوا على تفسير نقله اليهم اشخاص صاغوا البيان وطلبوا منهم التوقيع عليه "صوناً للطائفة من الفتن". وابدى اثنان من شيوخ العقل الثلاثة الموقعين موقفاً متنوراً ومتفهماً ووعدا باتخاذ موقف مبني على معطيات تتضمنها الرواية. وجاء هذا الموقف خلال زيارة قام بها وفد يضم العشرات من مثقفي الطائفة في دمشق والسويداء الى الشيوخ لتوضيح حقيقة ما تقصده الرواية في محاولة لتطويق الازمة وعدم تسببها بانشقاقات. البيان أما ما تناقله المثقفون كبيان فهو اساساً كتاب موجه الى رئيس مجلس الوزراء وقد وقعه الشيوخ: شبلي الحناوي وحسين جربوع واحمد الهجري، وهؤلاء يشكلون مشيخة العقل لطائفة الموحدين الدروز وهي السلطة الدينية المناط بها وفق القانون ادارة الشؤون الروحية للطائفة، علماً ان القانون لا ينص على اعتبار النقد الادبي وتقييم الكتب شأناً من الشوون الروحية. وهذا البيان اعده اشخاص لهم اسبابهم الخاصة واقنعوا رجال الدين بتوقيعه عبر تقويل الرواية ما لم تقل. وبيدو من بعض المغالطات التي يحويها البيان ان صياغته ليست بريئة، فالبيان يبدأ بعبارة: "صدر كتاب بعنوان "قصر المطر" لمؤلفه ممدوح عزام بإشراف وزارة الثقافة يتضمن رواية مختلقة واتهامات ملفقة". فتسمية الرواية كتاباً تهدف الى الايحاء بأن الرواية هي كتاب في التاريخ مثلاً، وبالتالي تصبح النظرة اليه مختلفة عن النظرة الى عمل ادبي. اذ ان تقييم العمل الادبي يتم عبر فنيته وتقييم العمل البحثي او التاريخي يتم عبر مصداقيته. والقول بأن الكتاب صادر بإشراف وزارة الثقافة يهدف الى التقليل من اهمية الرعاية الرسمية للرواية. فهي من اصدار وزارة الثقافة وليست بإشرافها، وبالتالي فان الوزارة معنية بتبني ما جاء فيها، خصوصاً وانه لم يسبق لوزارة الثقافة ان اخطأت مرة واحدة بتقدير مشاعر المتلقين في آلاف الاعمال الصادرة عنها في السينما والادب والابحاث وحتى المحاضرات. وعبارة "تضمن هذا الكتاب رواية مختلقة" هي عبارة مضللة ايضاً لان اي رواية في العالم هي مختلقة حتماً والا فقدت صفة الرواية واصبحت شيئاً آخر. وتضمن البيان ايضاً عبارات تهويل وتهديد مكتوبة بلغة قديمة محافظة. ومما جاء فيه: "استحل المؤلف لنفسه الفسق نسباً وجعل العفاف لأهل الشرف والمروءة عجباً، واختلق على اهل التوحيد والصدق، وأنكر عليهم رفع راية الجهاد والحق التي من تقدمها مرق ومن تخلف عنها زهق" و"اطنب في روايته في الحث على افساد الشباب" و"نال اهل الشرف والعلم والجهاد ودس فيها الكثير من الترهات والعيث والفساد، ونال ايضاً من الشيوخ الاجلاء لابسي العمائم البيضاء الناصعة كأعمالهم هذه الجملة تؤكد ان الشيوخ لا علاقة لهم بصياغة البيان لما عرف عن رجال الدين الدرزي من تواضع وابتعاد عن كل ما يدخل في خانة الاعتزازبالنفس لم يمنعه الحياء مافعل ولم يميز لخبله بين الجبان والبطل" و"نسخ العادات المعروفية - نسبة لبني معروف - الشريفة ووضع بدلاً منها اكاذيب سخيفة من شأنها زرع الفتن والبلبلة في صفوف المجتمع والوطن". وخلص الكتاب الى التماس الغاء ترخيص طباعة الكتاب "المشؤوم" ومنع تداوله وسحب نسخه واعطاء الحقوق الكاملة في اقامة دعوى جزائية ضد المؤلف "ومحاسبة كل من سولت له نفسه ببث التفرقة وزرع الفساد والفتن. وكانت رواية "قصر المطر" حظيت منذ صدورها قبل بضعة اشهر باحتفاء نقدي ونشرت عنها عشرات المقالات في الصحف السورية والعربية واعتبرها بعض المثقفين في صحيفة "تشرين" اهم رواية سورية في القرن العشرين على رغم انها صادرة في العام الاخير منه. وأفردت لها صحيفة "الثورة" ملفاً من ست حلقات توجت بلقاء موسع مع الكاتب شارك فيه صحافيون. وتؤكد اوساط وزارة الثقافة تبني الوزارة للعمل الصادر عنها وتعتبر انه لا يحتوي اساءة لأحد، ولكن لم يصدر رد فعل رسمي حتى الآن. وبدأ رئىس "اتحاد الكتاب العرب" علي عقلة عرسان في الخامس من الشهر الجاري اتصالاته لتطويق الازمة فيما اوساط المثقفين في حالة من الحركة الدائمة والمتشائمون منهم يعتبرون البيان ضوءآً اخضر قد يدفع موتوراً ما لتصرف احمق بينما يراهن المتفائلون على تقاليد المجتمع السوري التي تحكمها العقلية المدنية عندما يتعلق الامر بالأدب والفن. وقام وفد من المثقفين والمتنورين في الطائفة الدرزية بزيارات لبعض رجال الدين ووجهاء الطائفة وشرحوا لهم ما تتضمنه الرواية وطلبوا منهم موقفاً موضوعياً تجاه الكاتب. وقوبلت مبادرتهم بتفهم من معظم الوجهاء، وكان احد اكثر المواقف لفتاً للنظر موقف منصور نجل سلطان الاطرش، الذي يعيش منذ سنوات طويلة بأقل قدر ممكن من الاختلاط بالناس. وعبّر لوفد المثقفين عن استيائه من الحملة التي يتعرض لهاالكاتب عزام وعن استعداده للخروج من عزلته دعماً للكاتب وقال: "اذا كان انزعاجهم بسبب ماقالته الرواية عن الباشا، فان ما يمس الباشا يعنينا نحن ونحن غير مستائين، وعلينا ان نفخر بوجود كاتب جيد بيننا وندعمه ونساعده لا ان نحاربه ونحطمه". الموقف النهائى لم يحدد بعد والصورة لن تتضح قبل ايام، لكن ممدوح عزام الآن رجل يعيش في الريح، ودوائر الماء تتسع بسرعة لان بحيرة الثقافة السورية كانت شديدة السكون، ولان الحجر الذي ألقي فيها حجر غير مألوف.