بعد مئة سنة من اتباع النظام الوراثي في تولي الزعامة فيها، أعلنت الطائفة الدرزية في اسرائيل أخيراً عن التوصل لاتفاق بين القوى التقليدية والمعارضة يقضي بتبني نظام وصف بأنه "شبه ديموقراطي" لتنظيم شؤون الطائفة واختيار مجلسها الديني وزعيمها الروحي، إلا انه في نظر الكثيرين لا ينهي الصراع الداخلي القائم في الطائفة. وينص الاتفاق على ان يمثل المجلس الديني الذي انحصر الى الآن في ثلاث عائلات تقليدية طريف ومعدي وحلبي كل الحمائل الدرزية وما يسمى بالخلوات الدينية تقوم باختيار زعيم الطائفة مرة كل خمس سنوات وتشكيل مجلس رقابة لرصد أموال الوقف وخصوصاً العائدات المالية لوقف "النبي شعيب" التي كانت تحت سيطرة شخص واحد. الاتفاق الذي احتفل مئات الدروز بعقده في قرية كفر ياسييف في الجليل الغربي في كانون الأول ديسمبر الماضي، يعتبره الكثير من الدروز مجرد "هدنة" بين القوى المتصارعة داخل الطائفة لفشل كل جهة في فرض رؤيتها على الأخرى. ويرى الكاتب مرزوق حلبي في الاتفاق صيغة لپ"توازن موقت" بين القوى التقليدية التي سيطرت على أمور الطائفة الدينية والدنيوية السياسية على مدى العقود الخمسة الماضية وبين ثلاث قوى جديدة صاعدة برزت على سطح حياة الطائفة الدرزية في اسرائيل في مطلع التسعينات. وأول هذه القوى، هي شريحة الضباط المسرحين من الخدمة في مختلف المؤسسات الأمنية الاسرائيلية التي تبحث عن مواقع اجتماعية لها. وثانيها شريحة رجال الاعمال والمتعهدين الاغنياء، وتتمثل الثالثة بقطاع المثقفين وأصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين. ويرى حلبي ان القوة المحافظة والمسيطرة داخل الطائفة استطاعت ان تحتوي القرار السياسي وابقاء مؤسسة الرئاسة الروحية مع القرار الديني. ويورد حلبي ثلاثة عوامل موضوعية ساعدت القوى المحافظة على احتواء التحرك: الأول، عدم استطاعة القوى الناهضة تنظيم نفسها في حركة تغييرية واضحة وتحت سقف واحد وغياب صفة الشعبية عن قيادات هذه القوى. الثاني، عودة حزب العمل الاسرائيلي المساند للقوى المنادية بإبقاء الوضع القائم في الطائفة الدرزية على ما هو الى السلطة في العام 1992، اذ اجهضت هذه العودة القوى الصاعدة التي تطالب بإعادة التنظيم والمشاركة في القيادة وصنع القرار. الثالث، الهيبة الدينية للشيخ الراحل أمين طريف الذي حظي باحترام وتقدير الجميع من دون استثناء. ملامح الصراع في الطائفة بين العائلات الاقطاعية التقليدية المستأثرة بقيادة الطائفة وعلى رأسها عائلة طريف والفريق "الاصلاحي" الذي ترأسه عضو الكنيست السابق من حزب الليكود اسعد اسعد والشيخ نورالدين حلبي أخذت منحاً أكثر حدة بعد وفاة الزعيم الروحي للطائفة الشيخ أمين طريف قبل حوالى خمس سنوات بعد ان قضى في منصبه 60 سنة وتولى حفيده الشيخ موفق طريق قيادة الطائفة. وتم التوصل في الاتفاق المذكور على حل وسط تضمن ابقاء الشيخ موفق طريف في منصبه لمدة خمس سنوات على ان يتم انتخاب زعيم جديد من قبل اعضاء المجلس الديني الذي ارتفع عدد اعضائه من 60 الى 75 على ان يعين الپ15 عضواً الاضافيين بالتنسيق مع القوى المعارضة. واعرب عضو الكنيست من حزب العمل صالح طريف ابن عم زعيم الطائفة موفق طريف عن ارتياحه للاتفاق واصفاً ما تم التوصل اليه ب "الصواب" وأشار الى ان عائلته وعلى رأسها عمه الراحل الشيخ أمين طريف لا تسعى "سوى الى تحقيق مصلحة الطائفة". وعزا طريف الصراع القائم الى "تدخلات خارجية من قبل قوى سياسية في الدولة لا تريد للطائفة ان تساهم في تحقيق السلام في المنطقة". ويرى فاضل منصور من قرية عسفيا الدرزية وأحد المنادين بالاصلاح ان الاتفاق الذي تم التوصل اليه على رغم انه "لا يلبي جميع المطالب إلا أنه بداية جني ثمار أكثر من أربعين سنة من النضال". ويوضح منصور ان الأموال الطائلة التي تدرها أماكن الوقف الدرزي الدينية يجب ان تكون تحت الرقابة وإدارة حسابات وتقارير مالية "لأنها ملك الطائفة بأسرها وليست ملكاً لشخص أو شخصين". وهذا ما تم تكريسه في الاتفاق. وينادي منصور بإقامة مجلسين منفصلين أحدهما ديني والثاني دنيوي، كما يصفه مشيراً الى رفضه "تسييس الدين". ويقول حلبي في "الوفاق الموقت"، انه تغليب للمكون الديني على المكون الدنيوي/ السياسي وإلحاق الثاني بالأول موضحاً ان غياب قيادة سياسية جماعية بمعنى المرجعية العليا سيعطي لپ"المجلس الديني" بتركيبته الجديدة، التي يشكل رجال الدين غالبيته الساحقة، تأثيراً ودوراً كبيراً في تسيير الشؤون الدينية والسياسية وخصوصاً تنظيم الطائفة الدرزية بالدولة ومبحيطها الضيق والواسع. ويجمع الدروز على ان اسرائيل بحكوماتها المتعاقبة كرست هذا النظام لتسهل سيطرتها على الطائفة العربية الوحيدة وفرضت على ابنائها "التجنيد الاجباري" بعد حرب 1967 لاحتياجها الى ناطقين باللغة العربية في اجهزتها الأمنية للسيطرة على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. وحاولت اسرائيل منذ قيامها فصل الطائفة الدرزية عن باقي المواطنين العرب في البلد وانعكس ذلك حتى في خطابها السياسي والتفريق بين "الدروز والمسلمين والمسيحيين" عند الاشارة الى فلسطينيي 1948. الجيل الجديد في المقابل حاولت ربط هذه الطائفة امنياً وسياسياً باسرائيل من خلال السماح لعدد غير قليل من الدروز بالوصول الى مراتب عسكرية وشرطية عالية وهو امر لا تسمح به لباقي الفلسطينيين من حاملي الجنسية الاسرائيلية. بدأت الفئات المثقفة والمتعلمة من الدروز في السنوات القليلة الماضية بالتململ من سياسة اللامساواة ضد الطائفة الى التخلف الاقتصادي الذي تعاني منه 18 قرية درزية. كذلك بدأ عدد الدروز الذين زج بهم في السجون بالازدياد لرفضهم الخدمة الاجبارية في القوات الاسرائيلية. ويقول البروفسور فاضل منصور ان القرى الدرزية عانت من "اهمال وإجحاف على مدى العقود الماضية على رغم خدمة ابنائها في الجيش او الشرطة الاسرائيلية". ويشير الى ان معظم هذه القرى اصبحت مثل "الفنادق" يأتيها الدروز الذين يعملون في المدن الاسرائيلية الكبيرة في نهاية اليوم للنوم والاستراحة. ويضيف ان خلو هذه القرى من المصانع والمشاريع التطويرية التي اقتصرت على التجمعات اليهودية أدت الى رحيل الشباب الدرزي من قراهم والسكن في المدن الكبيرة. وتحاول الأوساط المثقفة والصاعدة في الطائفة تحرير افرادها من السيطرة الاسرائيلية عليها من خلال الرجوع الى الأصول القومية العربية التي تجمع بين العديد من الطوائف الدرزية في المنطقة. ويرى مرزوق حلبي ان التواصل الوحدوي بين الطوائف الدرزية العربية داخل الخط الاخضر وفي سورية ولبنان هو حتمى لكنه لن يكون آنياً. ويشير حلبي، الذي اصدر العديد من الكتب عن الطائفة الدرزية، الى الدور الذي لعبته الاحزاب السياسية في اسرائيل خصوصاً حزب العمل وتجمع الليكود في الصراع داخل الطائفة الدرزية. ويوضح "ان حزب العمل لجأ الى دعم القوى التقليدية المحافظة وناصر دعاة الابقاء على الوضع القائم بينهما ناصر الليكود القوى التي دعت للتغيير واستبدال القيادة التقليدية". ويضيف حلبي ان تفاعلات الصراع داخل الطائفة مثلت انعكاساً لتفاعل القوى بين الاحزاب الاسرائيلية وأدت الى ارتباك اليسار ممثلاً بلجنة المبادرة الدرزية المرتبطة بالحزب الشيوعي و"ارتكابه خطأ تاريخياً". وبرأيه "ان اليسار وبدل ان يطرح بديلاً للطرفين المتصارعين وقف جنباً الى جنب مع القوى اليمينية النائب السابق اسعد اسعد - ليكود والشيخ نورالدين الحلبي". ويتوقع حلبي ان يكون الصراع المقبل داخل الطائفة الدرزية في اسرائيل التي تجاوز عدد افرادها 100 الف نسمة على الفصل بين القرار الديني والسياسي من اجل الانتقال بالطائفة وقواها السياسية من هامش عملية صنع القرار الى مركزه.