يموت الشباب وقود الحروب مرّتين. مرّة في ساحات القتال، ومرة في شاشات التلفزة. في ساحات القتال احياناً دفاعاً عن ضعف دولهم، تزجّهم خاسرة، فيكون موتهم وكأنه ثمن التقليل من حجم الخسائر في مباحثات ما بعد الحرب. وتقليل الخسائر هذا بحدّ ذاته، يعتبر ربحاً في معادلة عصرية طرفيها: قوّة عظمى وحيدة. وقوى أخرى "معظومة" متدرجة القوى، ابتداء من أوروبا وروسيا وحتى دول العالم الثالث. وقود هذه الحروب المستتر هو الأسر التي تفقد ابناءها والأوطان، التي شاباً، شاباً تتهدم بهدف بناء مستقبل لمن يبقى. لكن كيف يبقى من تبقّى! هو السؤال. يموت الشباب مرة ثانية في شاشات التلفزة التي باتت تنقل المعارك في بثّ مباشر، كما جثث الشباب في نقل حي الى قلب البيوت في كل ساعات النهار، لكل أنواع وأجيال المتفرجين. ترميها في أعيننا، فتصيب ضمائرنا، يوماً وراء يوم، بوحشية لا تبرأ منها انسانيتنا. تجعلنا مشاركين في مسؤولية الحروب الدائرة على وجه البسيطة، مسؤولين في الرؤية والسكوت والغبطة الداخلية بأننا لا نزال احياء "يُرزقون". توحّد لحظة الموت بين البشر، لذلك، تحمل الانسانية وِزر الانسانية جيلاً وراء جيل وموتاً بعد موت، وتحفظ الحضارات جماجم السلالات التي مرت والأنواع كما الكتب والتجارب والاختراعات والخبرات. جماجم الحجر والصخر والمعدن والخزف والبشر والماء والنار!! منذ حرب الخليج، ونحن نرى القتل المبطّن في الغارات والطائرات الجبّارة. ونرى المنتصر ولا نرى المغلوب، لأنه: "البقية في حياتنا" قضى كما يقضي أرنب في حقل صيد. سيكولوجية تلك الحرب، حاولت جعلنا نحن جمهور المتفرجين على الشاشة الصغيرة في كل مكان، جعلنا كما "الريموت كونترول" نكرّس انتصار المنتصر لأنه دائماً ينتصر ويبتسم. وننسى القتيل لأن المنتصر مدني وحضاري وحاضر. والآخر، بربري ومتخلّف وفقير وفائض بشري بلا عمل ولا قوت ولا سعادة و... غائب. نكرّس احتفال المنتصر بعودته بعد غارة، وكيف لا نفرح له. وهو أيضاً شاب جميل وله أم وأولاد كما الآخر. أم تحتضنه وتبكيه بدموع الفرح الصادقة الانسانية. بعدها صارت الكاميرات تتغلغل بنا في عمق الموت، الى ما بعد الموت. الى تفاصيل الحياة اليومية الحارة الحميمة لهذه الشعوب المغلوبة. ترينا ذُلّها وضعفها في البلقان والشيشان وفلسطين والعراق وتيمور والخ... الخ. وصرنا نرى يومياً شوارع بغداد يعمّها، بل يعميها الفقر والمرض والبطالة والمواد التموينية، وكأنها صارت مشاهد الفولكلور العراقي البديل لفولكلور ما قبل الحرب! تحاول هذه الطريقة ربما! تكريس نجاح الحرب في تحقيق اهدافها. وذلك عبر تغييب ذكر الرئيس صدام حسين عن مشاهد هذه الحياة اليومية إلا كمجرد صور فوتوغرافية او مرسومة هنا وهناك.. لا تزال معلّقة، وكأن الشارع نسي إنزالها. رأينا أهل البلقان بلباسهم المحلي ودموعهم وتشريدهم ولغتهم وأطفأنا الشاشة على خصوصية حربهم التي اقتنعنا انها تشبههم. رأينا التصفيات العرقية بين القبائل الافريقية. وحرب الشيشان والمشردين على دروبها الجميلة. عائلات ترحل مخلّفة ابناءها في الداخل يقاتلون بأمل تحكمه الخسارة. تنتهك الحروب حُرمة الشعوب تحت عدسات الكاميرات. وتكنولوجيا الحرب الجبّارة المنتصرة تُمعدن الأفكار حول الموت، فتُلقي حصاراً على الأحاسيس، تفقدها براءتها وتدخلها في لعبة البقاء كي يستقبل الآخر موت الآخر معلّباً في شاشته، بارداً، حيادياً، كاللحوم المقدّدة!! طالما عرضت الشاشات، النساء الفلسطينيات يندبن ويلطمن فقدان ولد شهيد. وطالما عرضت هذه الشاشات المختلفة في المقابل مشهداً قتالياً بين شاب فلسطيني غير رسمي، أي بلباس عادي وسلاح من حجر أغلب الاحيان. لا ينتمي الى دولة، هو إذاً ارهابي، وبين جندي اسرائيلي بكامل عتاده الرسمي الحربي في اللباس والعتاد وبكامل انتمائه لدولته. فتضع الصورة بذلك، القانون والقوة في كفة والعدالة والحق في ضفّة. فينتصر القانون والقوة بالتأكيد على المنطق الانفعالي الآخر، ويفرض شروط نصره ولغة عدالته ليصبح الآخر: خارجاً على القانون. يقول "دوغ بيزاك" مصوّر وكالة "اسوشيتدبرس برس" بخصوص تضخم التطور التقني في مجال التصوير والصورة: "في اللحظة التي تتوقف عندها عن التفكير، تبدأ بالعمل لحساب الكاميرا بدلاً من ان تجعل الكاميرا تعمل من اجلك". اي ينتفي دور الرأي الشخصي المستقلّ ليحلّ محله رأي آلة الحرب الرسمي الذي يحاكم ويحكم على قضية ما، بقدر ما تعود عليه بالربح من اجل ان يعوّض الخسارة التي دفعها في انتاج هذه الآلة المتطورة. نحن من يدفع الثمن اذاً. نحن مركز الاختبار والمختبر وساحة القتال والقتلى والمعزين والأحياء!! وقد بات المرء، شيئاً فشيئاً تابعاً مستهلكاً للمعلومات البصرية التي تعتمد بدورها سرعة نقل الخبر والحدث من أبعد اصقاع الأرض الساخنة الى أبعد ركن صغير هادئ، تشعل النار فيه. تشارك الناس جميعاً في استهلاك موت الشباب في اللحظة الحاسمة، لحظة الحدث. وما ذلك كلّه الا محاولة تدجين عامة من اجل اخذ العبر والدروس. ولذلك، فتظاهرة الشباب الاخيرة في لبنان ضد دعم اميركا لاسرائيل في قصفها المستمر على لبنان، هي شجاعة وتحد. وتظاهرات الشباب الفلسطيني في وجه المحتل هي شجاعات وتحديات. كما كانت تظاهرة الشباب في دمشق ضد القصف الاميركي على العراق شجاعة وتحد. وهنا وهناك وفيما وجدت هذه المقاومة، هي نقاط شجاعة متبقية تؤكد على استمرارية بقاء مفهوم العدالة الانسانية في تحرّرها وتقرير مصيرها وحقها في العيش الحر. لكن هذا البطل الأعزل، لا تشحنه مع الأسف آلة حرب رسمية تجعل الانتصار حليف شجاعته. فتبدو شجاعته كنزعٍ عاطفي متبق بين ضلوعه. يجب ان يمنع هذا الموت. الموت الذي يكرّس الموت. الموت الخاسر، الفاشل هو تراجيديا حقيقية. موت الحروب المجانية هو تماماً كالموت الاصطناعي في الأفلام والمسلسلات التي بدورها تزيد العنف عنفاً. ولعل الموت في افلام الكرتون، هو الوحيد الرحيم... حيث يحيي الميت وبسرعة في رسم لاحق. ثمة في أغاني الغجر، بحث عن قيمة الحياة في أنقى معانيها، معنى البقاء من اجل استمرارية القدرة على الغناء. حيث كل موت هو أغنية "ألم": "ما تمنّيته من الله وهبني إياه. صبيّ صبيّ في الحضن آه يا أماه صبيٌّ على الصدر في الحضن، على الصدر... ومنه الى القبر". * شاعرة سورية.