1 إذا كان المتنبي يقدّم الرأي على الشجاعة فيقول: الرأي قبل شجاعة الشجعانِ هو أوّلٌ، وهي المحلُّ الثاني فانّ إبراهيم بن قيس قد جمعهما معاً، وكان شاعرهما في القرن السادس للهجرة، بلا منازع. وإذا كانت معاركه التي خاض أوارها لم تقتصر على حضرموت وما والاها من بلاد اليمن، حتى ألزمه استعداده لها بالتوجّه الى عُمان كثيراً من المرات حيث أقام في بعضها سنوات عديدة، وإذا كانت أصداء حروبه قد خفتت بمرور الزمن، فانّ أصداء حروفه امتدّت مع الأيام الى يوم الناس هذا. 2 شهدت اليمن وما والاها من بلاد حضرموت، في القرن الأول للهجرة، صراعاً متعدد الجوانب متشعّب الأطراف، بين فرق الاسلام المتنازعة في ما بينها، وكان من بين المتحاربين في ذلك القرن عبدالله بن يحيى الكندي الذي استولى على صنعاء وخطب على أعواد منبر جامعها الكبير خطبة مشهورة، دعا فيها الناس الى العودة الى جذور الاسلام الأولى، قائلاً: "إنا ندعوكم الى كتاب اللّه وسنّة نبيّه، وإجابة من دعا اليهما... الاسلام ديننا، ومحمّد نبيّنا، والكعبة قبلتنا، والقرآن إمامنا، رضينا بالحلال حلالاً، ما نبغي به بديلاً، ولا نشتري به ثمناً قليلاً، وحرّمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا"1. وظلّ أتباع عبدالله بن يحيى الكندي على نهجه هذا الذي رسمه، على تفاوت ما بين فترات قوة وفترات ضعف. ففي فترات القوة كانوا يظهرون ويسيطرون على حضرموت وأحياناً على جميع أرجاء اليمن، فاذا ما ضعفوا أو شدّ عليهم الآخرون صعدوا الى رؤوس الجبال، أو انسربوا الى أعماق البادية بحيث لا يلحق بهم أعداؤهم، فيتحصّنون هناك حتى يقوى ساعدهم مرة أخرى، عائدين للقتال، من أجل تثبيت المبادئ التي أعلنها عبدالله الكندي في خطابه. ويستمرّ الحال على هذه الوتيرة، الى أواسط القرن الرابع للهجرة وما تلاه في القرون اللاحقة، حيث تحوّلت حضرموت بالذات الى منطقة ملتهبة متفجّرة بالحروب المتطاولة، وما كانت تفعله جيوش العباسيين التي استنّت سنّة الجيوش الأمويّة في تعاملها مع مَن تراهم خارجين على طاعتها، مما يلخّصه أحد الباحثين بقوله: "لقد أصبحت حضرموت في هذا العهد محوراً تدور عليه رحى الحروب ولم يعرف أهلها الاستقرار... إذ نكّل ابن عطيّة، قائد مروان، بالكثير منهم، وخرّب جزءاً لا يُستهان به من بلادهم. وتلتها الحروب الضروس بين معن بن زائدة الشيباني والحضارمة، وقتل منهم ما يقدّر بخمسة عشر ألفاً، وخرّب مدائنهم، وأفنى مزارعهم، وغوّر مياه عيونهم. واستقرّت البلاد بعد ذلك في أيام الزياديين طويلاً. ثم جاء الصليحي الفاطمي 439-569ه واشتبك معهم ولما قاومه الحضارمة ومنهم إبراهيم الحضرمي، قتل منهم مقتلة عظيمة أضرت بهم وببلادهم أضراراً بليغة. وفي ما بين هذه الهجمات والحروب الكبرى حروب جزئيّة يشنّها ويقوم بها أرباب الطموح من ملوك اليمن الآخرين. وهناك في الداخل حروب القبائل المتوطّنة والنواقل من البلاد الأخرى، في ما بينها، والتي هي أشبه بحرب العصابات التي تشنّها القبائل على الحكومة المحليّة الحضرميّة" 2 التي كان يديرها أحفاد عبدالله بن يحيى الكندي وأتباعهم. 3 ولم تكن أصوات طبول الحرب هي التي تتفرد بالارتفاع، بل رافقتها أصوات الحوار والمتحاورين، وصدحت أشعار الشعراء تتغزّل تارة وتصف أخرى، ما بين مديح وهجاء ورثاء، ولكنها لم تنسَ الهمّ الأول الذي كان الناس يعانون منه، أعني همّ الحروب والمعارك المتطاولة. غير أنّها، وبطبيعة العصر والمصر، لم تكن تدعو الى السلام والوئام بين القبائل المتناحرة والطوائف المتحاربة، بل كانت تلقي على النار مزيداً من الزيت، لأن كل طرف يزعم أنه امتلك الحقيقة والصواب، وأنّ غيره على ضلال يجب أن يُقاتَل حتى يفيء الى حكم اللّه، متخيّلاً أن حكم الله كما يراه هو وحده، مع الاعتراف بأن بعضاً من القوم كان يدعو للحوار ما أمكنه ذلك، ملتجئاً الى الخطب والرسائل حيناً، والى الشعر حيناً آخر. فكان من الطبيعي، في هذه الأجواء العاصفة، أن تلجأ الأطراف المتحاربة الى الشعر، توظّفه للتوعية والدعوة الى الفكر الذي يتلوّن بألوان يضفيها عليه هذا الشاعر أو ذاك أو ذلك. ومن بعد التوعية، كان لا بد من الدعوة الى الحرب والقتال، وكل طرف يدعو الناس الى نصرته والقتال في صفوفه. وفي هذا الجو المشحون بالفكر والأدب من جانب، والضاجّ بطبول الحرب من جانب آخر، ظهر شاعرنا أبو محمد إبراهيم بن قيس الذي لم يكتفِ بالغزوات التي قادها في بلاد حضرموت واليمن، بل كانت له غزوات عديدة الى بلاد الهند، وكذا الى الشواطئ الشرقية لأفريقيا. أمر تلك الغزوات لا يكاد يعنينا هنا، بل يعنينا منه شعره، أسلوباً وصياغة وموضوعات، عبر ديوانه "السيف النقّاد" 3 الذي جرى ترتيبه على الألفباء فخلا من ذكر تواريخ القصائد، مما صعّب علينا أمر استجلاء التطوّر الفني للشاعر ما بين البداية ونهاية الرحلة. وهذه ملاحظة تقودنا الى تقرير انّ طباعة الدواوين بناء على القوافي، وبحسب الترتيب الألفبائي لها فوائدها الجمّة، ولكنّها تفتقر الى تكملة تؤرّخ للقصائد ما أمكن ذلك، أو تبيّن مناسبة كل واحدة منها، على أقلّ تقدير، كي يُصار الى أن يقدّم الديوان نفعاً أكبر للمؤرخين ونقّاد الأدب والمعنيين بتاريخ الآداب وتطوّرها. 4 أول ما نلاحظه على قصائد الديوان أنها قصائد طويلة، تلحق بالمعلّقات القديمة في طولها، والشاعر يترسّم خطى الشعراء الذين سبقوه. ولم يكن له من سبيل آخر، فالبيئة التي عاش فيها، والأحداث التي خاض غمراتها تفرض عليه ذلك. فاذا كان الشاعر ابن بيئته، فانّ ابن قيس هو ذلك الشاعر الممثّل لبيئته خير تمثيل، بمعنى أنّ النهج الفني الذي اتّبعه كان متلائماً مع بيئته، أكثر مما كان تقليداً لمن سبق من الشعراء. فالتمسّك بنهج القصيدة، أو ما يسمّى بعمود الشعر، لا يضير الشاعر إن لاءمَ بيئته، على اعتبار أنّ عمود الشعر، وبحسب ما حدّده المرزوقي وابن سنان الخفاجي، هو ابن البيئة الممثل لها والمعبّر عنها. أما إذا لم يكن ثمة تلاؤم بين الشعر والبيئة فهو ليس أكثر من تقليد للماضين. لأنّ الفرق كبير بين أن تسمع شاعراً يعيش في بغداد القرن الرابع وهو يستهلّ قصيدته بذكر الأطلال وشاعر يعيش في أعماق البادية يبدأ شعره بذلك الاستهلال. فالأول لا علاقة له بموضوع الأطلال، بل هو يتخيّلها، وغالباً ما يكون تخيّله ناتجاً عن تقليده لمن سبقه. أما الثاني، أي ذلك الذي يعيش في البوادي، فهو يرى الأطلال بأمّ عينيه، ويصوّرها في شعره، متّخذاً منها وسيلة لبيان غرضه، جرياً على عمود الشعر وقواعده. ولئلا نغمط الشعراء الطلليين الذين ظهروا في المدن والعواصم إبان العصرين الأمويّ والعبّاسي حقّهم، ينبغي أن نشير الى أن الشعراء الجديرين بدخول ملكوت الشعر استطاعوا أن يطوّروا المطالع الطلليّة للتعبير عن هواجسهم وآلامهم. ولا سبيل، مثلاً، لنكران الابداع في قصيدة أبي نواس التي مطلعها: يا دار ما فعلت بك الأيامُ ضامتكِ والأيّامُ ليس تُضامُ فشاعرنا الثائر أبو محمد إبراهيم بن قيس كان معنيّاً بمطالع قصائده كثيراً، متّخذاً منها وسيلة توصله الى هدف القصيدة، وهو غالباً الحثّ على التمسّك بقيم الأخلاق والنهوض بالضدّ من الظلم والظالمين. وغالب قصائده تستهلّ بالغزل وهو غزل من نوع خاصّ، كما سنرى أو الحكمة أو الاشادة بمكارم الأخلاق. فتراه يتغزّل بأوصاف حسيّة دقيقة، يبدأ بالرأس وينتهي عند الكعبين، ثمّ يعقّب على ذلك بمراده من القصيدة، وهو الاعتذار عن مدح من لم يكن يستحقّ المديح، ثم الوصول الى التوبة والاستغفار. وبمقارنة أوّل القصيدة وآخرها، يقع القارئ في وهم التناقض بين ذلك الغزل الحسيّ والتوبة التي يعلنها الشاعر، ولكن متابعة القصيدة بيتاً بيتاً توصل قارئها الى اكتشاف الانسجام بين المطلع والختام، فشأن المرء أن يُعنى بالمرأة، وأن يعشقها، وأن يتغزّل فيها، فيماشيه الشاعر في ما أراد ثم يأخذه، رويداً رويداً، الى التوبة والاستغفار. ولكنّ هذه المماشاة من أعجب ما يراه المرء في الشعر العربي، وذلك أن الغزل عند ابن قيس ليس في المرأة، بل في الأفراس التي تنقله من حرب الى موقعة، ومن رحلة الى غزوة! يقول ابن قيس لمن يسمّيها "أم كامل" يطالبها بأن تنشر شعرها، فهو يحبّ الشعر المنشور الذي يذكّره بالمعارك واشتباك القنا: أعاكفة ذا الفرعِ يا أمّ كاملِ أما نشرُه أحلا بعين المقاتِلِ؟ وبعد حديث طويل عن شعرها وزينة خديها وعينيها، يطلب منها أن تُقبل عليه وتحادثه، فجمالها على صورة الخيرات إحدى الدلائلِ: فصرت على نهج الجهاد مصمّماً أهيم أمام القاصرات الحوائلِ4 ومن الواضح أنّه يريد بالقاصرات الحوائل الأفراس التي يمتطيها للجهاد. ومن الواضح أيضاً أن "أمّ كامل" هذه ليست إلا واحدة من أفراسه، والعرب كثيراً ما يطلقون التسميات على أفراسهم وخيولهم، منذ الأمس البعيد والى زمننا الحاضر. وتتوضّح هذه الحقيقة بشكل أكثر جلاء في قصيدة يستهلّها بقوله: على مَ يَلُمنَ الغانياتُ الأوانسُ؟ وفيمَ؟ وما يَنقَمنَ مني العرائسُ؟ لبسنَ عُقودا والتبستُ مُفاضةً أليسَ لكلٍّ حليةٌ وملابسُ؟5 ثم يتحدّث عن الفارق بينه وبين من يستنيم الى دعة الحياة بين الكاس والطاس والعرائس المتحلقات من حوله. وهو يدري أن موقفه هذا يبدو غريباً لكثير من الناس، لذلك يصف تلك الكثرة بأنّهم ليسوا أناساً بل نسانس همّ أحدهم أن يصادر مال اليتيم، يشغله الطمع بالخسيس عن طلب المجد والعلى. وإذا كان في قسم من قصائده يتغنّى بالأفراس، ويتغزّل بجمالها، فنراه أحياناً يحنّ الى السيوف، حين تذكّره لفظة بلفظة، فيتلاعب باللفظتين معاً، فهو يعدل عِنانه عن النسوة البيض الى السيوف البيض، قائلاً: عدلتُ عن البيضِ الحسانِ النواعمِ عِناني، الى البِيض الخفاف الصوارمِ6 إذ يعادل بين الطرفين باستخدام اللون الجامع بينهما، وهو هنا، البياض. فشعره شعر عقيدة، موظّف كلّه لغاية واحدة هي العقيدة التي يحملها في عقله وقلبه وجوارحه، حتى استولت على كيانه كلّه، فما بقي فيه شوق الى لذة إلا لذة القتال والعطاء، متخيّلاً، أو ربما كانت الواقعة حقيقيّة، أن واحدة تعرض عليه الوصال، فيأبى ذلك، ولكنّه لا يأبى أن يعطيها مالاً، فالمال للاحسان والتجارة، أما الهوى المحرّم فلا سبيل له اليه. وكثيراً ما كان يفخر بعدم سقوطه في هوى الغيد الحسان على رغم أنّه يصفهنّ وصفا حسيّا قلّما نراه عند الشعراء "العقائديين" حتى في أيامنا هذه، وصحيح أنّه يذكر ذلك في معرض الرفض، غير انّ الرفض لا يغيّر من الوصف شيئاً: مالت تسائلني إذ مثلها يسلُ خود خدلّجةٌ، ألفاظُها عسلُ والثدي مثل مليح العاج صُفرته والصدر منها كلون الشمس مشتعلُ7 ثمّ يخرج من هذه المقدّمة الغزليّة الى موضوعه خروجاً مذهلاً دالاً على أمرين مجتمعين: الأول: تغلغل عقيدته في نفسه، إذ يرى أن أهل نحلته تركوا آثارهم من بعدهم بحيث أنّ جميع الناس تعرف مآثرهم. الثاني: أن هذه التي يصفها كانت قد شهدت بعض وقعات قومه وحروبهم وانتصاراتهم، فسؤالها عمّن مضى من رفاق دربه هو تساؤل العارف المتجاهل، فنتبيّن أنّها امرأة متخيّلة لا حقيقة لها، فبينها وبين مَن تسأل عنهم سنوات طوال، زاعماً أنها سألته: عن آل حجوة أهل الدين هل صدقوا أو هل وفوا بعهود الله وابتذلوا والخود قد شهدت أيام حربهمُ لكنّها طلبت بُشرى بما فعلوا لو غاب ما صنعوا من صفو ودّهمُ ما غاب ما صنعته البيضُ والأسَلُ وإضافة الى ما مرّ ذكره، فانّه يجمع في البيت الأخير من صفات قومه، لا الشجاعة والبطولة فحسب بل أيضاً صفو الودّ تعبيراً عن كرم الذات وسموّها والخلق الاجتماعي الرفيع الذي كانوا يتمتّعون به. 5 فلا غرو بعد هذا التعمّق العقائد أو "العقيدي" على ما يصرّ عليه بعض أهل اللغة، أن يحاول تجميع القوى من أجل الحق والعدل كما يراهما، ولذا نراه يراسل أهل عمان وزعماءها، وحضرموت تربط اليمن بعُمان، يطلب منهم الاسناد والعون، ولا يكتفي بارسال الرسائل والكتب والأشعار، بل يُقدم هو على التوجّه الى عُمان ليلتقي برجالاتها، ولا يسأم من الالحاح والالحاف في جمع الكلمة ولمّ الشمل، حتى استطاع أن يحظى بمراده من الخليل بن شاذان الذي لبّى دعوته، واستطاع أن يوحّد بين حضرموت وبقيّة أرض عُمان، وأن يتوجّه منها غرباً نحو اليمن وسواحل أفريقيا. كان الشيخ أبو محمد إبراهيم بن قيس واحداً من أفذاذ رجالات القرن الخامس للهجرة، توسّم في الأفق المخاطر المحدقة بالأمة، فدعا الى وحدتها باقامة العدل، وإشاعة الحرية والأمان، ولو عن طريق الحرب والتضحيات الجسام. ولم يمض وقت طويل على جهوده التي كانت فريدة في بابها، حتى دخلت الأمة عصر سقوطها تحت سنابك المغول، ولم تقم لها قائمة، بعد! * الأمين العام للمجمع العلمي للبحوث والدراسات - لندن. الهوامش 1- تاريخ الطبري، أحداث سنة 130ه. 2- أدوار التاريخ الحضرمي، محمد الشاطري، ص148-151. 3- صدر في مسقط 1409ه/1988م. 4- السيف النقّاد 104. 5- ن.م 62. 6- ن.م 111. 7- ن.م 97.