أن يصبح للبنان أوركسترا سمفونية... حدث مهم يعيد إلى الوطن الصغير جانباً من الصورة الحضارية التي حاولت الحرب تشويهها. لكنه حدث مستغرب تأخره، إذ كان لا بد من أن يتوِّج، من زمن، ما حفل به التاريخ اللبناني المعاصر من نهضة فنية، خصوصاً في الستينات والسبعينات. الأوركسترا أصبحت حقيقة، بعد مخاض إعداد استمر نحو سنتين. وكلمة حق تقال أن لولا الدكتور وليد غلمية رئيس المعهد الوطني الموسيقي - الكونسرفاتوار الذي حلم بها طويلاً لربما تأخرت ولادتها أكثر. إذ أرادها تجسد ذاك الحلم... وتكلِّل عشر سنوات من الجهدالمتواصل على رأس المعهد الموسيقي، على رغم الإنتقادات التي تعرض لها، لتعديله برامج كثيرة فيه، واتباع أساليب مختلفة عن الماضي، والتشديد على اتقان الطالب العزف على آلته قبل منحه الشهادة، وإدخال مناهج في العزف مازالت مدار أخذ ورد. وإن لم يكن مجال الكلام الآن على غلمية، إلا أنه، وللتذكير فحسب، انطلق في حلمه هذا من إلمام بالموسيقى، دراسة وبحثاً، ومن براعة فيها، تلحيناً وتأليفاً، تشهد له أعمال عدة، غالبيتها قدمت في مهرجانات بعلبك وجبيل . أعمال كانت تؤثر إلى جمال اللحن الميلوديا والشعر، التوزيع العلمي الراقي، تنفذه فرقة كبيرة يختار لها العازفين البارعين، خصوصاً عازفي الكمان، لا أيما فرقة. أما الأوركسترا التي يشرف غلمية عليها شخصياً ويقودها في بعض المقطوعات العالمية والخاصة، فيتولى قيادتها المايسترو البولوني الشاب فوتشيتش تشابل ويتابع تمارينها وعازفيها، يعاونه المايسترو اللبناني هاروت فازليان. وتضم 81 عازفاً ، نصفهم أجانب، سيصبحون85 بعد أيام، لتكتمل من كل النواحي. المهم بعد الولادة... الاستمرار. وللاستمرار شروط أولها الإرادة فيه، وأهمها : - أن تتوافر لها موازنة مالية كبيرة، ولو على حساب الرغيف، لأن للغذاء الروحي الذي تؤمنه مردوداً حضارياً عظيماً - أن تبقى في منأى عن التجاذبات المصطنعة فلا تتحول مرفقاً آخر لتوظيف الأزلام والمحاسيب. - أن تستوعب الطاقات اللبنانية الناشئة لتحل شيئاً فشيئاً محل العازفين الأجانب، في مرحلة لاحقة. صحيح أن هؤلاء الأجانب ضروريون في مرحلتي التأسيس والبداية، كما هي الحال مثلاً في الأوركسترا السمفونية المصرية، على ما تتمتع به "أم الدنيا" من وفرة في العازفين الجيدين، لكن الصحيح أيضاً أن يحس طالب الكونسرفاتوار، أو أي موسيقي موهوب، أن مستقبله مضمون، سواء أراد اختيار طريق التأليف أو العزف، والاحتراف، بدلاً من أن يهاجر أو يقوده يأسه إلى فرق الملاهي أو البرامج التلفزيونية. - أن توسع دائرة اهتمامها في برامجها وحفلاتها، فلا يقتصر ما تقدمه على الأعمال الكلاسيكية العالمية المعروفة أو مؤلفات الدكتور غلمية، بل تتجاوزها إلى مؤلفات للبنانيين وعرب، متوافرة بكثرة، إذا فسح المجال أمام واضعيها الأحياء بشارة عبدالله الخوري مثلاً، أو إذا نفض الغبار عن أوراق من صاروا في دنيا الحق عبدالغني شعبان. إضافة إلى إعادة كتابة مقطوعات لبنانية ، هي جزء مهم من التراث والذاكرة، بأسلوب سمفوني وتقديمها مثالاً لا حصراً أعمال عدة للأخوين رحباني أعد رون غودوين بعضها قبل ثلاثين سنة، "جدل" مارسيل خليفة التي سبق أن قدم مقطعاً منها معداً لفرقة سمفونية، مع أوركسترا معهد بيانكور الفرنسي.... - أن ترفع من وتيرة حفلاتها، لمزيد من التمرين والانسجام، وبأسعار مخفوضة، وحتى مجاناً، لبث الموسيقى الراقية بين الناس وإعادتهم الى جادة الصواب، كي لا ينجرفهم نهائياً تيار الفن الهابط. - أن تكون الفرقة حافزاً لإنشاء دار أوبرا، يبدو أن القيمين على العهد الحالي مصرون على إقامتها، ولم يَنهروا، كما في العهد السابق، مطرباً عظيماً، طالب بها مرة... بحجة أنهم هم "مهجرون"! - أن يستمر القيمون عليها وأعضاؤها في الدراسة الموسيقية، فلا يعتبرون انتماءهم إليها نهاية المطاف. - أن تكون مختبراً لجمع التراث اللبناني-الشرقي- العربي، ومن ثم تقديمه في مؤلفات تصبح عالمية، كما فعل التشيكي أنطون دفوراك في سمفونيته "العالم الجديد". الأوركسترا السمفونية اللبنانية، التي ولَّدت فور إنشائها حلماً آخر هو أن تتحول فيلهارمونية، يشكر عليها من سعى إلى أن ترى النور وتستمر، وخصوصاً: محمد يوسف بيضون، نائباً ثم وزيراً، ووليد غلمية، وقائديها البولوني واللبناني، والعازفين اليوم وغداً... والحالمين بأن ما سيدونونه نوتات سيتجسد، عبرها، خطوات على درب حضارية ما زالت طويلة، و يستعاد معها ماض غني بالعطاءات الرائدة