من الشائع في الخطاب السياسي العربي المعاصر، خصوصاً بعد النكسات والانكسارات وإبان المحن الكبرى التي تزلزل الأمة في صميمها، استحضار التاريخ السحيق واستذكار رموزه وأمجاده. فطالما استحضر العرب معارك بدر والقادسية واليرموك مستذكرين شجاعة وبأس خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وطارق بن زياد وإقدام صلاح الدين الأيوبي ووطنية عمر المختار وعبدالقادر الجزائري. وإذ يصطبغ استحضار التاريخ بالخصوصية الإقليمية أو القطرية يستعيد اللبنانيون أساطيرهم الفينيقية والمصريون أمجاد الفراعنة وحضارتهم والأشوريون بسالة الأمويين والعراقيون بأس الأشوريين وشدتهم وللمغاربة مواضيهم ورموزهم. ولعل هذا المنحى في التفكير السياسي والعقائدي والإيديولوجي واحدٌ جذوره في الإرهاصات القومية والوطنية منذ ستينات القرن التاسع عشر حيث عمد متنورو تلك الفترة الى تأسيس دعواهم على التاريخ والاستضاءة برموزه. ففي "الجمعية العلمية السورية" 1868 وقف الأمير محمد أرسلان مباهياً مفاخراً مستحضراً أمجاد العرب ومآثرهم مذكراً بأن التمدّن "ليس الا بضاعتنا ونعم المتاع" وأنه "إذا اعتبرنا شأننا في القديم. نجد أنَّا أهل التحضر القويم. ألسنا نحن أولئك الأقوام، الذين سموا على جميع الأنام. فكانوا أعلى الناس مقاماً وأسماهم ارتفاعاً، وبالجملة أكثرهم علماً وأكبرهم اجتماعاً". ويتساءل أرسلان: "من أدّب العلوم من هذّب الفنون، بل من اخترع كثيراً من مخترعاتها، بل من اصطنع كثيراً من مصطنعاتها، أليسوا العرب؟ ومن هم العرب؟ ألسنا نحن هم". هذه الرؤية القومية الوطنية الماضوية بقيت تتردد في الفكر العربي جيلاً بعد جيل بل هي تكررت لدى أكثرية النهضويين سواء في الفكر العربي الحديث أو المعاصر. وها هي تستعاد منذ نكسة حزيران يونيو 67 حتى نهاية القرن العشرين: "كانت مواطننا العربية منذ خمسة آلاف عام المواطن الأولى للحضارة الانسانية... وقدمت حضارتنا الأصول الأولى لعلوم رواد العصر الثاني، بل ان أساطيرنا وأدياننا وفلسفاتنا هي التي قدمت الصور والرؤى الأولى للانسان الكوني... وها هم مهندسو رحلة أبوللو 11 يقرون لنا بهذه الأسبقية... ونحن على يقين أنه ما دام لنا أصل الشجرة، فلا بد لنا ان نبلغ فروعها المتسامية في الفضاء. وكما صنعنا الحضارة بالأمس، فسنعود لصنعها في الغد، وكما قدمنا العلم بالأمس فسنعود لتقديمه في الغد". وبالإصرار ذاته وفي آخر القرن العشرين يكرر راشد الغنوشي ما ذهب إليه محمد ارسلان عام 1868 إذ يقول في "العلمانية والممانعة الإسلامية، محاورات في النهضة والحداثة" علي العميم، دار الساقي 1999: "نحن - الإسلاميين المعاصرين - استحدثنا مشكلات عديدة مثل مشكلة الديموقراطية ... لا ينبغي ان نفتعل معارك لا مبرر لها داخل الاسلام، مع قيم لو تأملنا فيها، لوجدناها هي بضاعتنا التي ردّت الينا". ومن المقدمات نفسها يخلص الجابري في "المثقفون في الحضارة العربية" مركز دراسات الوحدة العربية 1995 الى "حقيقة تاريخية تفرض نفسها هي ان المثقفين في العصور الوسطى الاوروبية هم من نتاج المثقفين في الحضارة العربية الاسلامية". مثل هذا المنهج وهذه المقدمات سهّل على دعاة "الأصالة" تأسيس الحداثة الاوروبية في التراث العربي حيث هي أرقى وأصفى وأنزه. فالديموقراطية هي الشورى، وعقلانية المعتزلة سابقة على عقلانية الغرب، ونهضته إنما اقتبسها من العرب إن في الفلسفة والإصلاح الديني أو في الآداب والطب والعلوم الطبيعية. لا حاجة إذاً الى التهافت على الحضارة الغربية، فالعودة الى تراثنا العربي وتمثّل قيمه ومبادئه وروحه كفيل ببناء نهضتنا من جديد. لئن كان مثل هذا الموقف مبرراً في فكر النهضويين العرب من الطهطاوي الى عبده والأفغاني والكواكبي، حيث وضعت حملة نابوليون اول القرن التاسع عشر وجهاً لوجه أمام تحدي الحداثة الاوروبية بوجهها السافر استعمارياً واقتصادياً وعلمياً، فاتحة في صميمهم جرحاً نرجسياً يعمّقه ويغذّيه خطر جدي متعاظم على الثقافة والذات والهوية. الا أنه لم يعد مقبولاً ولا معقولاً الآن في عصر العولمة حيث يعاد تشكيل الذات القومية على نمط معولم ليس العرب في منأى عنه بل هم منخرطون فيه انخراطاً كاملاً، إذ باتوا يعتمدون في أكثر حاجاتهم على الغرب بدءاً بالغذاء وانتهاءًً بالتقنيات البسيطة والمتطورة ناهيك بالاعلام الذي راح يتسلل عبر الشاشات الصغيرة والراديو والانترنت حتى الى غرف نومهم. وفي حين تتزايد الواردات السلعية حتى تجاوزت ال141 بليون دولار عام 1996 أي ما يقرب من نصف الناتج العربي الاجمالي، يتضاءل تدريجاً البعد الذاتي في الانتاج والتبادل بين العرب. فكيف تكون "بضاعتنا هي التي ردّت إلينا" بينما يتفاقم ارتهاننا الى الغرب في كل المجالات، ويتعاظم عجزنا عن اللحاق بثورته العتيدة في العلوم والتقنية والانتاج حتى ان المؤشرات الاخيرة - وفقاً لنادر فرجاني في "المستقبل العربي" شباط 2000 - تبرز تفوّق اسرائيل الهائل على العرب، نسبة الى عدد السكان: حوالى عشر مرات في الافراد العلميين، وأكثر من ثلاثين مرة في الإنفاق على البحث والتطوير، وأكثر من خمسين مرة في وصلات الانترنت، وأكثر من سبعين مرة في النشر العلمي، وقرابة ألف مرة في براءات الاختراع، عدا عن أن الناتج القومي الإجمالي لمصر وسورية والاردن ولبنان أقل من مثيله الاسرائيلي وحده. وإذا كان هذا هو حكم الفوارق الكمية بين العرب واسرائيل التي جاءت في الدرجة 23 بين دول العالم وفق تقرير الأممالمتحدة لعام 1999، علماً أن الفوارق النوعية "فلكية" بل هي أكبر من أعلى الفوارق كمياً على ما توصل اليه فرجاني، فهل يجوز ان نبقى على ردود الفعل ذاتها التي واجهنا بها غزو الحداثة في أواسط القرن التاسع عشر، نخدع أنفسنا ونداوي عجزنا باستحضار تاريخ لا ينفعنا في شيء سوى أن يبعث فينا مزيداً من مشاعر الاحباط والاغتراب عن العصر. كما ان التاريخ هو التاريخ، فالديموقراطية ليست الشورى وعقل الحداثة ليس هو العقل الاسلامي وشك ديكارت ليس هو شك الغزالي وحداثة الغرب هي حداثته وليست "بضاعتنا" بأي وجه من الوجوه. فلنكفّ عن استحضار التاريخ واللوذ الى رموزه صوناً لهوية لم يعد ممكناً تأكيدها الا بالانخراط أكثر فأكثر في ثورة العولمة والحداثة حيث الواقع العلمي الراهن يتجه نحو هوية "معولمة" من خلال التشكيل المستمر التي تخضع لها الهويات القومية في عصر الثورة الاتصالية والانتاجية وانفتاح الامم والشعوب والقارات على بعضها بلا قيود ولا حدود. ولعل هذا بالذات هو أصل الخوف الهجاسي على الثقافة والهوية في فكرنا العربي الحديث والمعاصر. أليس هذا ما عبّر عنه إدريس هاني في "العرب والغرب، أي علاقة.. أي رهان" 1999، فمع إقراره بأن الحداثة هي "المطلب المشروع والتاريخي لكل المجتمعات المتمدنة والمؤمنة بالتطور" في "حقل البنى التحتية"، إلا أنها اختلطت بالمركزية المتعسفة للغرب، ما يهدد "ثقافات الشعوب" التي هي "أساس هويتها". من هنا يدعو المؤلف الى استيقاظ الضمير العربي واستنهاض عقله المقاوم درءاً ل"عملية تدمير محققة لا محالة سوف تلحق بعالمنا العربي". الحداثة مطلب اذاً ولكنها مع ذلك خطر على الهوية فالأجدى إذاً حصرها في "حقل البنى التحتية" ومن ثم اللوذ الى التاريخ لجعلها جزءاً منه. وهذه القديمة المتجددة "الأخذ من الغرب حداثته المادية فقط" ما هي الا موقف دفاعي ثبت بطلانه وبان زيفه. وباختصار إن توجه الفكر العربي الحديث والمعاصر الى استحضار التاريخ ورموزه يعكس أولاً موقفاً من التاريخ والزمن التطور، فالعقل المعتصم بالماضي اللائذ إليه إنما يتعامل معه كاستمرار واتصال لا كتحوّل وسيرورة، ما سهّل عليه اعتبار الحداثة الراهنة جزءاً من ماضٍ مستمر متواصل لا ينقطع، فما وصل اليه الغرب اليوم إنما اكتشفناه نحن في الماضي. ويعبّر ثانياً عن رفض الآخر بردّه الى الذات وجعل حداثته جزءاً من تراثنا وتاريخنا. لا نستطيع تصوّره مستقلاً عنا، مبدعاً خارج عقلنا وفضاءاتنا الروحية والثقافية. ويدل ثالثاً على طريق تعاملنا مع التراث: لم ننظر اليه بصفته مرحلة من تاريخ الانسان والفكر والثقافة، وإنما باعتباره قائماً فوقها جميعاً نستعين به كلما صفعنا التطور بحقائقه المتحوّلة والمتجددة. وهذا كله مؤداه اغتراب عن العصر أكبر فأكبر وعجز عن ولوج الحداثة أعمق فأعمق. لا مفر لنا اذاً، اذا أردنا ان نكون جزءاً من عالمنا الراهن في مجرى العولمة الكونية العتيدة الا المشاركة في ثورتها والاندفاع في غمارها بالانتاج والابداع، لن ينجينا الاعتصام بالتاريخ ورموزه فيما ينيخ علينا من كل الجهات عبء تردّينا الاقتصادي والاجتماعي والعلمي ويثقل أرواحنا بوس الجهل والأمية وخرافات الماضي وقيوده وظلاميته. * كاتب لبناني