منذ أصبح السيد محمد خاتمي رئيساً، وايران تشد اهتمام المراقبين وتثير فضول الإعلاميين ورجال الفكر والسياسة. ثم تكثف هذا الاهتمام مع النجاح الواسع الذي حققه التيار الاصلاحي في انتخابات الدورة السادسة لمجلس الشورى، كما تعددت من جديد الأسئلة حول مستقبل هذا البلد الهام والاستراتيجي، وحول التطورات المحتملة للصراع الدائر بين جناحي السلطة ضمن "ضوابط" أو "ثوابت" النظام الاسلامي الايراني. هل يصح القول الآن بأنه بعد حصول الاصلاحيين بمختلف ألوانهم، خلال الجولة الأولى، على حوالى 75 في المئة من الأصوات ان النظام الايراني مقدم على تغييرات جوهرية في طبيعته وأسسه السياسية والايديولوجية؟ عندما انهار نظام الشاه تحت وطأة الزحف الجماهيري، أخفقت قوى المعارضة في التوصل الى أرضية سياسية موحدة، ولم تلتق حول تصور مشترك للدولة الجديدة. وبما أن موازين القوى كانت لصالح التيار الخميني، فقد تمكن هذا الأخير من احتواء عدد واسع من الفعاليات والمجموعات التي رغم عدم تجانسها فقد سلمت بالقيادة التاريخية للإمام الخميني. وباستثناء مجاهدي خلق الذين قرروا منذ البداية الدخول في صراع شامل مع المنظومة الخمينية، فإن بقيت الأطراف اعتبرت التحالف مع الإمام هو المدخل الوحيد لاحتلال موقع نافذ والتمتع بقدر من التأييد الجماهيري وبحد أدنى من الشرعية السياسية. وعلى رغم النقاشات التي صاحبت صياغة الدستور الايراني، إلا أنه ارتكز في النهاية على نظرية ولاية الفقيه التي تجعل من الفقيه المرشد سلطة مستقلة وفوق بقية السلطات. مع ذلك ساد اعتقاد ضمني بأن ذلك لن يحول من إدارة البلاد بطريقة مؤسساتية. حاول ذلك في البداية مهدي بازرجان في الحكومة الموقتة، ثم تجددت المحاولة بشكل أكثر وضوحاً ودرامية مع بني صدر بعد أول انتخابات رئاسية. وبينت التجربتان أن رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ليستا فقط حلقتين غير منفصلتين عن بنية النظام، بل أيضاً لا يسمح لهما بالخروج عن الخطوط الحمراء التي يضعها الفقيه المرجع. مات الإمام الخميني واستوت الرؤوس، وأخذت تبرز التناقضات التي حجبتها أو حدت منها الشخصية الكارزمائية المتعالية لمؤسس الدولة. هنا توافرت الظروف والشروط لحصول أول تطور نوعي داخل بنية النظام، حيث تمت إعادة التوازن بفضل شخصيتين متكاملتين في الأدوار والأحجام والمواقع: من جهة مرشد الثورة الجديد خامينائي الذي أحدث صعوده المفاجئ رجة داخل المراجع الدينية، ومن جهة أخرى رفسنجاني الذي جمع بين الدهاء والبرجماتية والمرونة السياسية. في تلك المرحلة اكتسب منصب رئاسة الجمهورية ثقلاً واستقلالية نسبية، أي ان رئيس الجمهورية أصبح قوة موازية للمرشد من دون أن يملك كامل السلطات التنفيذية. ونظراً لحجم خامينائي والنزعة الوفاقية لرفسنجاني وانتمائه لنفس المرجعية وبداية حدوث التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، فإن التوازن المؤسساتي المشار إليه قد تم من دون إثارة الانتباه وبعيداً عن الأجواء الصراعية. مع مرحلة خاتمي استمرت عملية تعزيز مكانة الرئاسة، غير أن توجهه الاصلاحي واعتماده على التأييد الجماهيري الذي حصل عليه وإلحاحه على ضرورة ادخال تغييرات أساسية على نمط الحكم والمجتمع، أشعرت المحافظين بالخطر، ولجأوا الى مختلف الوسائل لتضييق الخناق حول الرئاسة والحكومة. هنا برز مجلس الشورى كسلطة قوية وقادرة على لي ذراع السلطة التنفيذية، سواء من خلال التصويت ضد مشاريع القوانين، أو استنزاف الوزراء وسحب الثقة من بعضهم. فالذي أزعج المحافظين شعورهم بأنه، لأول مرة بعد أن استقرت الأوضاع لصالحهم، لا تكتفي المؤسسة التنفيذية بالتحرك بعيداً عن دائرة الوفاق معهم، وانما تعمل بوضوح ضدهم وضد رؤيتهم للدين والمجتمع. فمنصب الرئاسة أصبح يشكل قطب الرحى لحركة سياسية واجتماعية وثقافية تتسع يوماً بعد يوم، وتستقطب أهم القوى التي غذت الثورة منذ انطلاق شرارتها الأولى، وفي مقدمها الشباب الطلابي على وجه الخصوص والنساء والمثقفين، وحتى شريحة متميزة من خريجي الحوزة الدينية. أمام هذه الحركية المتصاعدة المهددة لأسس الوفاق السابق، تم استنفار مختلف الهيئات والأطراف المضادة للاصلاح، كما وقع اللجوء الى مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة. اضافة الى آليات مجلس الشورى، حاول المحافظون تفجير التناقض بين مرشد الثورة ورئيس الجمهورية، كما زجرا بالمؤسسة القضائية في الصراع السياسي من خلال إحالة العديد من أنصار الرئيس خاتمي على المحاكم ووضعهم في السجون. كما حركوا أنصارهم داخل بعض المؤسسات التنفيذية المهمة والحساسة مثل وزارة الداخلية أو الحرس الثوري. بل عمدوا الى دفع الجيش الى توجيه أكثر من تحذير للاصلاحيين. لكن نظراً للتحولات العميقة التي مست أجزاء مهمة من الرأي العام الايراني خلال السنوات الأخيرة، فإن معظم المناورات التي قام بها المحافظون ولدت نتائج عكسية. فاغتيال المثقفين، والمحاكمات السياسية، وغلق الصحف ذات التوجه النقدي، والاعتداء على الطلبة، واتهام الاصلاحيين بالعمالة الأميركا والغرب، كل ذلك وغيره لم يضعف دعاة التغيير، بل زاد في شعبيتهم ووسع من دائرة أنصارهم. لهذا جاءت نتائج الانتخابات التشريعية لصالحهم، وحاملة لمؤشرات تراجع كبير لوزن وشعبية التيار المحافظ. هل يعني ذلك أن المعركة حسمت لصالح دعاة التغيير، وأن ايران ستشهد قريباً تغييرات جوهرية في سياساتها الداخلية والخارجية؟ يصعب القول حالياً بأن ما حصل الى حد الآن يشكل ثورة داخل الثورة كما ذهب الى ذلك عديد المحللين. فالتيار المحافظ لا يزال يتمتع بوزن كبير، ولا تزال لديه مواقع وأسلحة هامة. اضافة الى عدم تجانس دعاة التغيير وتعدد تياراتهم، واحتمال ارتكابهم لأخطاء في المستقبل تضعف من شعبيتهم وتسمح لخصومهم بالقدح في جديتهم أو مصداقيتهم. لكن مع ذلك فإن ما حققه الاصلاحيون يشكل منعرجاً مهماً في الحياة السياسية الايرانية وذلك للاعتبارات التالية: 1- نجح النظام السياسي الايراني في تحقيق التداول السلمي على السلطة. فبعد انتخابات الرئاسة التي أوصلت خاتمي الى أعلى منصب في السلطة التنفيذية، ها هي آلية الانتخابات النزيهة والديموقراطية تسحب البساط من المحافظين وتوفر لأول مرة أغلبية رفعت شعار الاصلاح والتغيير. ولم يكن أمام الأقلية سوى الاعتراف بالهزيمة وقبول النتائج واستخلاص الدروس. هذا المشهد، لا يزال للأسف الشديد غير ممكن أو بعيد المنال في معظم البلاد العربية والاسلامية. 2- خرج النظام الايراني من حالة الشمولية والاحادية التي لازمته منذ مطلع تأسيس الدولة وتصفية أو إقصاء الخصوم، وبدأ ينتقل تدريجاً وبثبات الى التعددية الفعلية والفاعلة. إن توازن القوى السياسية والاجتماعية عامل جوهري في تحقيق الديموقراطية. ان تغييرات أساسية تجرى حالياً على أصعدة اقتصادية واجتماعية وإعلامية وسياسية تجعل من الصعب العودة الى المرحلة السابقة، وحتى لو دفعت ايران الى ذلك باللجوء الى القوة فلن تلق مغامرة طائشة من هذا القبيل والتأييد الجماهيري والزخم الشعبي الذي عرفه النظام عند مواجهاته الأولى مع خصومه الذين حملوا السلاح في وجهه. ان المرحلة القادمة، مهما كانت ملامحها، ستزيد من حالة الانفتاح الداخلي والاقليمي والعالمي. قد لا تحل المشكلات بصفة جوهرية، لكن المجتمع المدني الجديد الذي نسجته السنوات القليلة الماضية سيتعزز وجوده، ورأي عام اسلامي مغاير ومتشبث بنمط مجتمعي مختلف سيصبح أكثر تبلوراً خلال الفترة القادمة. 3- يضاف الى النقطتين السابقتين، متغير ثالث يمكن اعتباره الأكثر أهمية حيث ستكون له تداعياته الضخمة على مستقبل النظام السياسي الايراني. عندما انفجرت الثورة الايرانية، نجح الإمام الخميني في تبني مطالب الجماهير، وصياغتها وفق رؤيته الايديولوجية. وهو ما دفع الجماهير الى الاصطفاف وراء فقيهها، بل والذوبان فيه وخوض كل المعارك التي أرادها وقدمت مختلف التضحيات التي طالبها بها. اليوم تستعيد الجماهير دورها من خلال مجتمعها المدني الصاعد، وتنجح في اختيار رئيس اصلاحي ثم تدعمه بالتصويت لصالح أغلبية مريحة لصالحه في مجلس الشورى. وبذلك وضعت مرشد الثورة أمام تحد لا يمكن مواجهته إلا بأحد أسلوبين. اما الوقوف في وجه هذه الإرادة الجماهيرية، وحينها سيجد الولي الفقيه نفسه في تعارض مع الرئاسة ومجلس الشورى وفعاليات المجتمع المدني وأغلبية مكونات الرأي العام الايراني وهو ما سيشكل انتكاسة كبيرة لموقع ووظيفة الفقيه الذي بدل أن يكون مع الجماهير يسند مطالبها ويؤطر حركتها كما فعل الخميني في مطلع الثورة، يصبح عقبة أمام تطلعاتها ومصالحها. أما الأسلوب الثاني الأكثر توقعاً فيتمثل في تفاعل خامينائي مع هذا التحول الذي حصل في موازين القوى، ويعمل على تجنب التناقض والدخول في صراع مع السلطتين التنفيذية والتشريعية ومع الرأي العام المطالب بتغيير السياسات والاختيارات وأساليب الحكم. هذا الخيار الثاني من شأنه أن يسمح بتطور النظام السياسي من داخله من دون المساس ببعض ضوابطه الدستورية أو فتح الباب أمام التمرد عليه، أي انه يتحول عملياً من نظام ولاية الفقيه الى نظام ولاية الأمة من دون الاضطرار الى إقصاء الفقيه أو تحجيم دوره، على الأقل في هذه المرحلة، ما دام ملتزماً بخدمة الأمة واحترام إرادتها. الخلاصة ان المخاض الثاني لايران الدولة والمجتمع مرشح لمزيد الاستمرار، وسيتواصل النزاع الشديد بين دعاة التشبث بنمط الثمانينات في إدارة الحكم وتنظيم المجتمع، وبين المطالبين بنمط مجتمعي إسلامي مختلف. * كاتب وصحافي من تونس