ابتداء من عنوان المجموعة القصصية الرابعة للكاتب منتصر القفاش "شخص غير مقصود" الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1999 تتلبس القارئ حالة الابهام والالتباس، حالة تستجيب لاصرار الراوي على تنكير كل شيء، تنكير ذاته، وتنكير موضوعه، وتنكير عالمه في مجمله، وبدلا من ان يقوم بالتعريف والتعيين والتحديد، تعريف الفواعل ومعاينة الافعال، يدور في حلقة مبهمة من الرغبات غير المقصودة. فكلمة شخص بالغة الابهام، لا تميز بين رجل وامرأة، بين كبير وصغير. لكن الخبر الذي يرد عنه يسلبه القليل الذي يحتمله من التحديد، انه غير مقصود، ليس هو المعروف الذي تتعلق به ارادة ما، بل انه يمعن في المجهولية والتنكير. وتأتي القصة الاولى "خروج انسان" لتشرح بالحركات والذكريات بالمواقف والاحداث، بكل الاوضاع الممكنة، لتشرح هذا التنكير. فهو إنسان ليس له اسم، لا يهم، هو مجرد انسان خرج من منزله واخذ يتجول على محلات وسط المدينة، أية مدينة، محلات المركز المبثوثة في الشوارع الرئيسية بحثا عن هدية لحبيبته. حتى الباعث لشراء الهدية غير محدد، فليست هناك مناسبة، يريد فقط ان يهديها شيئاً، يفعل مثل الآخرين، يمارس حياة اجتماعية تبعث الفرح والسرور وتثير الذكريات في نفس صديقته - كما يقول - ومع انه منذ البداية يعثر على هدية ملائمة، تتمثل في "دبدوب ابيض، مثبت على صدره قلب احمر، مكتوب عليه بالانكليزية "I LOVE YOU" فهو يكذب اعجابه به، ليفعل مثل الآخرين، ليدوخ بالساعات والتجوال على المحلات بحثا عن هدية مناسبة. فهذا من الطقوس الاثيرة لديه، يذكره بما كان يفعله مع اخيه الكبير عند نزوله لشراء ملابس الشتاء والصيف، ومطالبه التي لا تنتهي بمسليات الرحلة من مثلجات ومشتروات مثل "اللب" و"كوز الذرة" وغيرها. ثم يصف الراوي حجرته وما يفعله بالهدايا ومعنى التذكار. لكنّ هناك شيئا اساسيا في كل ذلك لا يبرح مخيلته "إنه ليس هو" لا يبحث بنفسه، لا يبدو ابدا على حقيقته، فهو يتظاهر بدور المحب الذي يبحث عن هدية، هناك مفارقة دائما بينه - هذا الذي يتحرك ويتذكر - وبين الشخص الحقيقي الذي يعرف ما يريده وما ينجزه. لكنه يستمر في اللعبة ويتقنها، من دون ان ينتهي منها. بل تفرغ القصة قبل ان يشتري هديته، بل قبل ان نعرف يقينا هل كان موجودا اصلا ام لا. ولأن قصص هذه المجموعة لا تقدم شخوصا مكتملة، ولا وقائع محددة، بقدر ما تقدم حالات تتلبس فيها الشخوص بفكرة مسيطرة عليها، تتوهم عالمها وينتهي الامر عند هذا الحد، فإن القصة الثانية - القاتل - تصف شخصا، وتسميه هذه المرة بسالم، ربما لانه قد يسلم من هذا المصير، ويكتفي فيما يظهر بأن يجلس في المقهى ويطلب فنجان قهوة مضبوطة. لكن هذا الشخص ركبته فكرة ان يكون قاتلاً من كثرة مشاهدته الافلام التي تعرض جرائم القتل واستمتاعه بتأمل اشكال الضحايا الذين لايريد ان يكون منهم، وما دام الحال ان الانسان اما ان يكون قاتلا او مقتولا، فقد اختار ان يكون قاتلا، صمم على الخروج من منزله ليجسد هذه الحالة، بغض النظر عن كونه لا يعرف من الذي سيقوم بقتله. يلاحظ ان بنية القص عند منتصر القفاش تعتمد اساسا على المفارقة وتوظفها وفق الطريقة الحداثية، فهي تقدم قاتلا من دون عملية قتل، تصنع من الشخوص نماذج تمثل احوالا لنوع معين من التماثلات التي ترد كثيرا خلال السرد ذاته، مثل غناء بلا صوت، حب بلا قلب، سير بلا اقدام، أي انها بنية تبحث عن الفعل من دون ادواته، مما يجعله فعلا متوهما لا حقيقيا. وقد سبق لصوت قصة القاتل ان عانى مثل هذه الحالة وهو لا يزال طالبا، فقد استبدت به فكرة انه في صدد مشارفة الموت، فكان يودع اصدقاءه ويوصيهم ويتركهم كأنه لن يلقاهم بعد ذلك. ثم لا يلبث ان يعود اليهم، حتى اجتمعوا اليه واقنعوه بأن يودع فكرة الموت هذه ويستسلم للحياة. لكنه هذه المرة يتخذ اوضاع القتلة ويقلد حركاتهم فتنشط ذاكرته في اقتناص اشكال القتلة وتفسير ملامحهم. غير ان اصدقاءه يقولون له ان البطالة هي السبب في تلك الحالة فاذا عثر على عمل وانخرط في عجلة الحياة فستكف الفكرة عن ملاحقته ولا تنتهي القصة الى شيء واضح. بل نراه في النهاية يعود الى المقهى ذاته بعد ان لمح اسماء الافلام التي تعرضها السينما المجاورة - لا بد انها ما زالت افلام قتل - ويخاف ان يفضحه تلعثمه او يجذب اليه انتباه الناس فيصوب نظره الى الخارج ولا يتلفت حوله طول جلسته. وفجأة ينقطع السرد ليقول "ها هو بعد سنوات: كلما تذكر هذا اليوم ابتسم ابتسامة العائد الى بيته". ما هو المضمر في هذه السنوات؟ لا نظن أنه ارتكب اية جريمة، كل ما هناك انه جرب مرة اخرى حالة المفارقة التي تضعنا فيها المجموعة القصصية بشكل منتظم. واذا كانت هذه الشذرات التي تقدمها المجموعة تعتمد على افراد، يعيشون وحدهم غالبا، متوحدين مستوحشين وعلائقهم بالآخرين هشة وعرضية فإنها تنقد الوجود الاجتماعي عندما تقوم بتغييبه وتهميشه وابراز خلخلته الظاهرة. هل هذا مظهر آخر لاعراض ما بعد الحداثة التي تطفح على هذه القصص؟ حيث تؤكد فردية الانسان وتبرز سوء مصيره في مواجهة القوى المناوشة له من داخله وخارجه. يستيقظ صوت القصة الثالثة "عين واحدة" على ضربة مزعجة لباب شقته التي يسكنها وحده، سرعان ما يتبين انهما قطان يتشاجران - لا نعرف لماذا لا يتعاشقان مثلا؟ - فينهض ليطردهما من امام الباب وهو "يتمنى لوطالهما وخنقهما الى ان يموتا". هذه العدوانية المجانية لا تجد تفسيرها سوى في ذكريات الفن الحديث، حيث رأى في مشهد من احد الافلام رجلا يقوم بتثبيت قطة في عمود وربطها بحزام بنطلونه، ثم يندفع برأسه نحو بطنها ويمشي بعد ذلك فيما يسيل دمه على جبينه مما يجعلنا نتساءل هل تعتبر السينما هي المسؤولة عن ذاكرة الانسان الوحشية، ام انها تعيده الى اصله؟ والى جانب عرضها آلاف المشاهد الشعرية والانسانية المبدعة، فلماذا لا يتذكرها ابطال هذه القصص؟ تنحفر تلك الصورة في مقدمة القصة ولا تكاد تزحزحها سوى صورة اخرى لصديقته العرضية التي تذكر ان اليوم عيد ميلادها واراد الاتصال بها بعد انقطاع شهور. انه عيد ميلاد عجيب ايضا، يتمثل في تاريخ سرّي تختاره بطريقة عشوائية وتخبر به اصدقاءها المقربين حتى يشاركوها فيه. اننا حيال شخوص متوحشة تريد ان تصنع مصيرها. لقد ماتت امها بعد ان تركت لها كرة ضخمة من "القصاقيص" التي كانت تصلح لصنع "كليم عليه القيمة". خطر في بالها يوم ميلادها العشوائي ان تتعرى وحدها وتلفه على جسدها حتى تبدو مثل المومياء الزاهية الالوان. ولكن لا تلبث ان تحل صورة اخرى مفزعة محل تلك الطريقة: تلقاه صاحبته وقد عصبت احدى عينيها بعد اصابتها بقرحة هددتها بفقد إحدى العينين وكانت ترددت على مصحات المسلمين والمسيحيين واخذت تحكي نوادرهما. وهو اثناء ذلك يستحضر وضعه في فصول الدراسة، يشرح الدرس للتلاميذ وقد انفصل صوته عن شخصيته واصبح صوت انسان آخر يراقبه من بعيد. ولا تقل هي عنه غرابة واستلابا واستيحاشاً. نجد انفسنا حيال شبكة غريبة من علاقات ما بعد الحداثة في مجتمع مختلف وهي علاقات تستعصي على الفهم في جوهرها. والقارئ يشبه دائما من يدخل السينما متأخرا ولا يجرؤ على سؤال الجالس الى جواره عما حدث قبل ذلك حتى يستطيع المتابعة. هذا الاحساس ينقص المعنى وغياب اساسه يلازم متلقي الفن الحداثي في طريقة مزمنة. ولعل نموذج "قصص المسافرين" في هذه المجموعة ان يكون دالا في هذا الصدد. فهي ليست قصصا بالمعنى المتداول، بل خطرات ومشاهد متناثرة يصعب على القارئ جمعها في اطار واحد. فالكاتب نفسه لم يرد ان يفعل ذلك، ولن يكون القارئ اشد قدرة على صوغ حبكة او حرصا عليها من الكاتب ذاته. كل لقطة تحمل عنوانا لا علاقة له باللقطة المجاورة. الاولى مثلا "اشياء عابرة" فيها يكلم شخص نفسه، متحدثاً عن الفخ الذي تعود ان يصنعه لذاته من دون ان يدرك ذلك. يقول مثلا "توهمت ان حضورها في حياتك طوع رغبتك سهل ميسر، لا يكلفك سوى ان تردد اسمها بشوق بين وقت وآخر وان تبدع في تدبير حجة لتبرير تأخرك في الاتصال بها، أو في عدم قدرتك على السفر معها الى محافظتها ليلا وهي عائدة الى البيت. توهمت انها باقية ما دمت قد فاجأتها بمشاعر متدفقة مرة أخرى أو مرتين أو ثلاثاً. وان المفاجأة اسعدتها وستظل تتذكرها حتى ولو نمت بعدها طويلاً من دون ان تفكر انها جوارك". لا يستطيع القارئ أن يحدد الشخص الراوي أو المروي عنه بوضوح وأن يتصور نوع العلاقة التي تربط بينهما، سوف تسافر الفتاة الى محافظتها ليلاً ثم تنام الى جانبه وهو لا يتذكرها. فالقاص لا يريد ان يحكي شيئاً مكتمل المعنى. يصرح ببعض اللفتات المتناثرة وعلينا أن نكمل نحن البقية. كما تجتهد القطعة الثانية في تذكر الاجابة عن سؤال لا نعرفه وهي تضع ستاراً بينك وبين موضوع لا يمنحك سوى تموجات مرهفة تكاد تختفي. وتجتهد القطعة التالية أن تضعك قرب النافذة وهي تتيح للشخص أن يبرز موهبته في تقليد طريقته وطريقتها في الكلام والحركات. ثم لا تضيف المشاهد التالية الى الحكاية شيئاً، مما يجعلها قابلة لأن تستقل بذاتها، فهي ليست قصصاً، ولا خواطر، ولا اجزاء من قصص، بل هي مجرد كتابات حداثية مبهمة وصلت الى القراء أو وصلوا اليها متأخرين. التجربة الوصفية الى ان غموض بعض مظاهرالحياة الفعلية ليس أقل من ابهام الفن الحداثي، ففي أقصوصة "اول ليلة" يمكن ان نعثر على التبرير الجمالي لعدم الفهم ولا معقولية الأدب. يحكي الراوي ماحدث له في "جابر بن حيان" - ومع أنك مثلي تحتاج إلى وقت لاستيعاب مفهوم الاسم، هل هو فندق او مدرسة حتى تكتشف انه مركز شرطة يفضي الى معتقل. يصف الراوي المكان بأنه "غرفة بمستلزماتها من حنفية ماء وحوض ودش يلامس السقف وقاعدة حمام بلدي تتوارى خلف ستارة أو ملاءة قديمة طويت على حبل ممدود بعرض الغرفة" ومع ان الراوي يقول إن اعتقاله جاء متأخراً، فقد ترك عهد الدراسة الجامعية منذ فترة طويلة. غير أنه لا يعرف السبب في اعتقاله ويظن أنه مجرد تصفية حسابات. كان هذا ولا يزال يحدث في عالمنا العربي العجيب. تفقد حريتك من دون ان تعرف السبب. والافدح من ذلك أنك تجد نفسك - مثل الراوي - الى جوار شخص آخر هو حمدي الملتحي الذي لا بد أنه ينتمي الي جماعات تقف على النقيض من كل ما تدين في حياتك من تقدمية ومعرفة. ويتوجه حمدي بسؤال الراوي عن سبب اعتقاله، فإذا قال له لا أعرف كان ذلك هو الأمر العادي وغير المعقول. وكما هو متوقع فالملتحي طالب في كلية الطب. فهم اذكياء ومتحمسون ومحصولهم ضئيل من العلوم الانسانية مما يجعلهم فريسة للتعصب الديني المثالي. لكن الاطرف من ذلك ان يشاركهما ضيف ثالث، شخص من جنوب السودان قبضوا عليه لأنه لا يملك ما يثبت هويته بينما يكرر ان من قبض عليه استولى على أوراقه. تتجسد المشكلة عندما يبدأ هذا الشخص في الاستحمام ويسأل الملتحي ان كان معه منشفة، فيرفض إعارته أدواته لأنه نجس. يدور حوار طريف - قلما تدورحوارات في قصص منتصر القفاش - تصدم فيه ثقافات المعتقلين. فالعري حرام، وتبادل المناشف حرام، ويلعب الراوي دوراً في حل المشكلة عن طريق اطفاء النور حتى يرتدي السوداني ملابسه. وتنتهي القصة عند هذا الحد، فيها شيء من الحكي، وفيها على الاقل مبرر للعبث واللامعقول. فالحياة ذاتها مفعمة بهذه الصور لالتقاء اشخاص متناقضين في مكان واحد من دون معرفة السبب، وأكثر من ذلك من دون معرفة المصير الذي سينتهون اليه. لكن القصة لا تستكمل ابداً دلالتها. ولعل سخونة التجربة الحية لذكريات المعتقل قد اخرجت الراوي من حالاته الوهمية، فمنحت سرده تدفقاً خصباً غنياً بالمشاهد الحقيقية المفعمة بمذاق الحياة الواقعية، بعيداً عن رهافة الافكار الهاربة والشخصية المنقسمة على ذاتها والحداثة الرافضة للفهم والافهام. تتلاحق في ذاكرة الراوي مشاهد المعتقل فيتذكر الطبيب حسن الذي شرفهم ذات يوم. كان طبيباً في الهلال الاحمر مطلوباً من سلطات ثلاث دول هي مصر واسرائيل وقبرص، لأنه يعمل على تهريب الفدائيين الى الأرض المحتلة. والحكاية التي يرويها لا علاقة لها بهذه الاعمال التي ينبغي السكوت عليها وعدم كشف أسرارها. بل تدورحول لحظة وجوم رصده الدكتور حسن علي وجوه رفاقه فقام بأداء دور تمثيلي بارع لربة بيت مصرية يوم وقفة العيد. وبدا الدور لوحة فنية بارعة يؤديها تمثيلاً طبيب فنان مناضل يمتلك حيوية فائقة، ابدعتها ريشة هذا القصاص الشباب، سواء اعتمد فيها على مخيلته أم تجربته الواقعية في المعتقل تصلح للإخراج السينمائي، وهي تؤكد فكرة مهمة وهي الدور الذي تلعبه الصورة في كتابات القفاش، حيث تستجمع طرفاً من عبق شعريته السردية وتصل في بعض الاحيان الى مستوى الرمز، خاصة عندما تتجذر في عالمه المبهم، المتآكل، نصف الخفي، الذي تتراءى اجزاء منه وتغرق في الغيبة اجزاء أخرى. وقد يتخذ الراوي الحلم معرضاً لتمثيل أحواله. ولأن هذه الحالة اثيرة وأصيلة عند راوينا، فهو يعمد منذ البداية الى تجسيدها في صورة اخرى. انها المرآة القديمة التي انطفأ بريق طلاء بروازها الذهبي، وبدت في انحائه آثار حروف وكلمات. وقد لا يحدق فيها ويصدق ما تعكسه سوى طفل لا يشعر بمرور الوقت أمامها. وتنتبه لتجد نفسك أطلت الوقوف وأنت ترى وجهك غطاه سواد المرآة في اجزاء وبانت بقيته في الاجزاء المصقولة". المرآة إذن هي المعادل الدقيق للأحلام التي يعيشها ولا يعيشها، لا يعرفها ولا يتذكرها، على الرغم من انها تستبد بحياته، ويقف زمنه طويلاً عندها، لكنه لا يستطيع ان يتبين ماذا جرى فيها. تلعب صورة المرآة هنا دوراً مرشحاً للدلالة المصفاة لتلك الحالة بين الوجود والعدم، نصف الوجود، وفيها يجد الراوي ذاته. فاذا كانت هذه المرآة "اطول الاشياء التي تصاحبك عمراً فإنها لا تلبث أن تندغم بدورها في الاحلام، لكنها لا تقوى على تفسير شيء او توضيحه، بل سرعان ما تفلت من يديك عندما تتحول في نهاية الحلم الى شيء أو إنسان آخر. هكذا تتضافر الصورة مع الحدث الحلمي لكي تتكاثف فيها ضبابية المعنى. ربما أتاحت بعض قصص المجموعة للقارئ أن يمسك بطرف الخيط في تأويلها عندما ترتد على ذاتها لتعكس في إشارة مباشرة عالم راويها ذاته. عندئذ تبوح بشيء من سرها وخصوصيتها باعتبارها كتابة ايقونية. نجد نموذجاً اخيراً لذلك في قصة قصيرة جداً، لا تتجاوز صفحة واحدة، يقول فيها الراوي إنه قد اشتهر بين الآخرين بأنه وصاف، "لا أعرف أول من اشاد بقدرتي على الوصف، ما أعرفه هو دهشتي كلما تكررت تلك الاشارة وكأنها ليست لي، بل لأحد آخر، بارع في وصف ما يرى. أحد آخر يخطئونه تماماً، ويعتقدونني هو، حتى قاربت في وقت من الاوقات على تصديقهم، وافتعال تلك المقدرة، والحذر من ان أخيب ظنهم وأجعلهم يشكون في أنني افتقدتها". ما يحدث بعد ذلك ليس سوى وصف دقيق لانسلاخه من إهاب هذا الشخص ومراقبته له وهو يضع موضع التشغيل ماكينته العجيبة في وصف دقائق الاشياء. هذه القصة البسيطة ربما كانت تكشف لنا - أكثر من غيرها - عن الخاصية الاساسية المميزة لكتابة منتصر القفاش. انها تصف العالم - على طريقته - وتكمن هذه الطريقة على وجه التحديد في التقاط الخيوط الرفيعة الغامضة، التي لا يستطيع من يرى المشهد كله أن يترك سر حيويتها ونبضها وبروزها كإطار قادر على تحديد المعنى الهارب للمشهد. إن الراوي يرى ما لا يراه الآخرون، لكنه لا يرى وهما بل متخيلاً إطاراً يبرز المعنى ويشي بشيء من الدلالة. وتلك هي التقنية التي ينجح القصاص في توظيفها وهو يعرض شذرات متقطعة من العالم، يحدد الرائي معالمها وهو يصنع اطارها. عندئذ تكتسب الكتابة وجوداً فنياً وحيوياً غامراً لم يكن بوسع احد أن يستشعره من قبل. وينجح قص الحداثة في تمثيل تلك العوالم الهاربة المفعمة برقة الشجن وعذوبة الحياة.