عُرفت وزارة الخارجية البريطانية منذ زمن طويل في أوساط البرلمان بتأييدها للعرب ضد اسرائيل. وتعود هذه السمعة على الأقل الى 1945 عندما اشتبكت بريطانيا في خلاف مرير مع الولاياتالمتحدة حول الطموحات الصهيونية في فلسطين ورفض العرب لتلك الطموحات. ولم يكن موقف الخارجية البريطانية مستغربا اذا اخذنا في الاعتبار أن القيم الأخلاقية والقانون الدولي ان لم يكن القوة العسكرية كان الى جانب العرب. ودعم هذا الموقف أن ديبلوماسيينا كانوا يعملون في 21 دولة عربية اضافة الى القدسالشرقية مقابل الدولة اليهودية لوحدها. والمؤسف الآن، في السنة 2000، ان "العروبيين" في وزارة الخارجية، بالرغم من قدراتهم المشهودة، قد أضاعوا طريقهم. وجاء التصريح الرسمي المؤسف من الوزير في وزارة الخارجية بيتر هين في 8 شباط فبراير الماضي ليذكر بالمدى الذي وصله التغيير. فقد عبّر التصريح في أوله عن القلق من تصاعد العنف في جنوبلبنان "الذي أدى الى سقوط قتلى من جيش الدفاع الاسرائيلي وكان من ضمنه الهجمات على البنية التحتية اللبنانية ...". وجاء هذا ليبيّن الفرق مع موقف الخارجية البريطانية طيلة السنين العشرين الماضية، في حرصها على التمييز بين صاحب الدار ومقتحمها، وتجنب المساواة بين الاثنين. وتدافع الوزارة عن موقفها الحالي بالقول ان سورية تقف وراء هجمات حزب الله. وقد يكون هذا صحيحا، لكنه لا يشكل أكثر من نقطة لنقاش جانبي على القضية. وشمل التغيير الموقف من المواجهة العربية الاسرائيلية عموماً. ويبدو حالياً ان شرعية حقوق الفلسطينيين، كما تؤكدها قرارات مجلس الأمن، ومن بينها قرارات وضعتها بريطانيا نفسها، أقل أهمية من نجاح المفاوضات الحساسة بين اسرائيل بتفوقها شبه المطلق، وبمساندة أميركا لها، والسلطة الفلسطينية المفتقرة الى أي قوة تذكر. والأولوية الآن لصفقة موقعة ومبرمة قبل مغادرة الرئيس بيل كلينتون البيت الأبيض، حتى لو عنى ذلك اقناع الرئيس عرفات تقديم تنازلات ربما كانت مضرة على المدى البعيد بمصلحة الفلسطينيين. ويدعي الديبلوماسيون البريطانيون انهم ينشطون من وراء الكواليس، لكن تتابع فصول هذه القصة المحزنة لا يكشف للمراقبين مشاركة بريطانية وثيقة بما يجري - عدا بالطبع فيما يخص تمويل السلطة الفلسطينية. وفي حال العراق كانت بريطانيا على صلة حميمة به منذ تنازل تركيا عن سيادتها عليه في معاهدة لوزان في 1923 حتى اغتيال الملك فيصل الثاني في 1958. ولا تزال بريطانيا على اطلاع على أوضاع العراق أكثر من أي طرف دولي آخر، خصوصاً الولاياتالمتحدة، وهناك جالية عراقية ناجحة في بريطانيا. لكن نجد مع العام 2000 أن لندن سلّمت كل أوراق اللعبة هناك الى واشنطن. واذا كانت بريطانيا نهاية السنة الماضية بذلت كل ما في وسعها للحصول على موافقة مجلس الأمن على القرار 1284 فإن ثلاثة من الدول الدائمة العضوية في المجلس قررت الامتناع عن التصويت، كما امتنعت عنه ماليزيا، العضوة في الكومنويلث، فيما رفضه العراق باعتباره "مكيدة". وترى الآن الدول التي ساندت العقوبات الدولية على العراق في البداية كوسيلة للضغط على صدام حسين أن ليس لهذه العقوبات من دور واضح. وتجاوزت الوفيات بين أطفال العراق الذين يقل عمرهم عن خمس سنوات ضعفي ما كانت عليه قبل عشر سنوات. وتستمر الغارات الجوية الأميركية البريطانية على العراق يوما بعد يوم واسبوعا بعد اسبوع، من دون غطاء من الشرعية الدولية. حاولت في عمودي هذا سابقا أن أوضح أن رئيس الوزراء توني بلير، الذي حوّل 10 داونينغ ستريت الى مركز قيادي مشابه للبيت الأبيض، هو الذي يقود السياسة تجاه عملية السلام والعراق وليس وزير الخارجية روبن كوك. من رموز هذا التغير خطوة بلير المثيرة للخلاف عندما عيّن اللورد ليفي، وهو من منظمي تمويل حزب العمال وله مسكن في ضاحية قريبة من تل أبيب، ممثلا خاصا عنه لشؤون الشرق الأوسط. ويقدم اللورد ليفي تقاريره عن زياراته الرسمية الى المنطقة - آخرها كان الى شمال أفريقيا - الى رئيس الوزراء وليس وزير الخارجية. يعطي بلير أهمية بالغة للتنسيق التام مع الرئيس بيل كلينتون، وهو أيضا قريب من رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك. ويعتبر ان حركة "اسرائيل الواحدة" التي يقودها باراك تشابه توجه حزب العمال والحزب الديموقراطي في أميركا نحو "الطريق الثالث" البديل عن سياستهما التقليدية. ويبدو بلير مرتاحاً لترك قيادة عملية السلام لأميركا، مهما أضعف ذلك من صلات بريطانيا التقليدية بالعالم العربي ونفّر منها الجيل الجديد في الدول العربية، الذي يشكل غالبية كبيرة من السكان. بالمقابل تتلقى بريطانيا دعم أميركا لها في ارلندا الشمالية وكوسوفو، وأيضاً اشراكها في المعلومات العسكرية الحاسمة الأهمية التي تجمعها اجهزة الاستخبارات الأميركية. ما يقلقني والكثيرين غيري أن الحكومة البريطانية فقدت القدرة التي تمتعت بها زمنا طويلا على استشعار مركز الثقل في الشرق الأوسط. ويبدو حالياً ان الأميركيين يسيرون في المنطقة عكس اتجاه التاريخ، فيما تكتفي بريطانيا باللهاث خلفهم. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو