لم يعد هناك من داعٍ للتشبث بمصادرتنا على مفهوم التخلف الذي زدنا إليه إرادتنا فيه حتى صار "تخليفاً"، منطلقين من كونه آحادي الجانب، لا يأخذ الروح في اعتباره، وماذا تفعل وتجدي هذه الروح إذا ما ظلت محاصرة بالمادة؟ قصاراها ان تبقى وعداً "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا"، ولكن هذا النصر لا يأتي من خارج الذات، بل يتحقق بشروطها إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم والعلاقة مع الله، نصراً وإعزازاً، تبادلية ومحكومة بأسبابها الطبيعية، وإلا كانت خلافة الإنسان عبثاً ولعباً "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". وعلى كل حال فإن في المشهد العالمي، الذي تصلنا طيوفه بعد مرور الزمن، وبعد انتهاء المهلة احياناً، تحولات كبرى، لا جدال في ندرة أو عدم مشاركتنا فيها انتاجاً وانتفاعاً، أنجزت على مدى عقود أو عقد واحد من السنين. فبلغت من حيث الحجم مجمل ما أنجزته البشرية على مدى عمرها المديد، ولأن الكم في مجال العلم والكشف غير محايد ويختزن معطيات كيفية، فقد غدت هذه الانجازات وبدت متحولات نوعية واضحة الدلالات والمؤشرات، ودخلت تعبيراتها في صميم أنظمة القيم والأفكار والحراك الاجتماعي والجدل اليومي، ولكي نلحق أو نبقى، حتى لا نستلحق أو نفنى، لا بد لنا من مواكبتها واستبيان مساراتها طموحاً الى تكييفها والتكيف بها ومعها، لا باعتبارها تفريعات طارئة على أصول حضارية لا شأن لنا بها، بل باعتبارها حاويات لأصول عامة في المعرفة تنامت خارج اهتمامنا عرباً ومسلمين، شرقاً أو جنوباً من المعمورة، من دون أن نغفل استثناءات كانت أقل حساسية وأكثر إقداماً، بكرت في حسم خياراتها فتجاوزت أزماتها وعاشت عصرها، وهذه ليست دعوة متأخرة الى مطابقتها اليابان مثلاً ولكننا نبقى مدعوين الى تمثل تجربتها على أساس خصوصياتنا التي بالغنا في حسابها والوقوف عندها فحولناها الى عوائق، ولو كنا راعيناها بقدر ما تقتضي كضرورات هوية لتحولت الى حوافز وأسباب نهوض... وعوامل صيانة لهذا النهوض. ولا بد من التشديد على هذه المسألة منعاً لإعادة الكلام حول الإسلام كمانع حضاري كما في مخيلة تيار التغريب أو في مخيلة دعاة الانغلاق، ومنعاً كذلك لإعادة الكلام عن الاستعمار كعائق مطلق... فما من منكر في الدنيا أن الاسلام كان له دور التأسيس في التاريخ العلمي والحضاري العالمي، ما يعني أنه في داخله يمتلك اسباب التقدم، ولكن شرطه، الخارجي، نحن، كف في لحظة عن التحقيق الملائم للاستمرار والمراكمة، وأما مخيلة تيار التغريب التي تضارعها ضرراً وإعاقة هواجس تيار الانغلاق بحجة التحصين والحفاظ على الذات فإنها لا شفاء لها إلا بالعلم والوصول معه وبه الى حيث يقتضي ويصل، وبذلك تتحول العلاقة بالآخر، الغالب في لحظة، عن نصاب الالتحاق الى نصاب التكافؤ والمنافسة ويتحول الاستعمار من استحواذ يطفئ الرغبة والإرادة في التقدم، الى تحدٍ من شأنه إذا ما تم استيعابه جيداً أن ينتج حوافز اضافية مؤثرة في التقدم نمطاً ووتيرة وهدفاً. هنا أعيد التأكيد على مثال اليابان وأشير الى المثال الراهن في آسيا آسيان رغم الحصوة الغربية والاميركية تحديداً على المعاني التي يحملها هذا المثال والانتباه الى مخاطره التنموية على الاندفاع الاميركي نحو إعادة ارتهان مقدرات الشعوب، لأن ذلك يؤكد أهميته وطليعيته وكونه مثالاً يمكن احتذاؤه بشكل أو آخر، هنا وهناك وهنالك، وإن كان جاء متأخراً، فإنه لا يجوز لنا كعرب أن نؤخر أو نتأخر عن الموعد الذي يبدو أنه قد يكون الموعد الأخير على هذا المفصل الحضاري الكوني الشائك. ما من مجتمع من المجتمعات البشرية، تحققت لديه درجة من التحضر والتمدن، كابر في تجاهل الاسئلة التي كانت تطرحها المنعطفات الاجتماعية والعلمية، وكانت المسألة الحاسمة باستمرار، هي الاجابة أو الاستجابة التي تعدها المجتمعات فتتقدم أو تتأخر، وفي كلتا الحالين تترتب عليها ضرائب وأعباء واشكاليات، وما نحن على مدخله أو موعد معه الآن يمثل فراقاً نوعياً أو افتراقاً بين عنقود الأسئلة والمساءلات القديمة وبين عنقود الأسئلة والمساءلات الجديدة أو المتوقعة التي بدأت بشائرها أو نذرها بالظهور المتسارع. فبعد التردد طويلاً بين هوية الفرد وهوية الجماعة، بين ذاتية الفرد وموضوعية وذاتية الجماعة وموضوعيتها، بين أصالة الفرد وأصالة الجماعة... بين أولوية الفرد وأولوية الجماعة.. مثلاً، وبعد اشتغال النهجين الغربيين على هذه المسألة وفي اتجاهين متعاكسين بين التجربة الاشتراكية والتجربة الديموقراطية الليبرالية، وبعد وقوف مجتمعات عدة، من بينها مجتمعاتنا الاسلامية والعربية وما سميت مجتمعات عالم ثالثية عموماً. بعد توقفها عن البت في هذا الموضوع أو دخولها في نمط تجريبي يقترب من الاشتراكية شكلاً أو من الديموقراطية والليبرالية شكلاً، مع الإبقاء او استبقاء السالب والمقيد من البنى القديمة على مدعي الأصالة، وظهور قراءات للراهن والماضي بحثاً عن توازن في الرؤية لم ينجز نظرياً ولا عملياً... بعد هذا كله أصبح الفرد والجماعة الآخذان في التشكل على المعطيات الحديثة والمستحدثة والمتوقعة، مدفوعين مندفعين الى خيارات مختلفة نوعياً وجذرياً، فذاتية الفرد يستبد بها النزوع الى التخلص من شروط تحققها العامة، ليصبح فضاء الفرد لا يتجاوز حدود كينونته الموضوعية جسده وتعود "روحه" من تجوالها في الآفاق البعيدة عن طقوس وعادات ومناخات الجسد، حيث ينكسر الزمان والمكان وتفيض الروح عن حاويتها الجثمانية.. تعود الآن هذه الروح لتلحق بالجسد وتضارعه طولاً وعرضاً وعمقاً شوقاً ورغبة وحركة.. وكأن هذا المنقلب يعيد توحيد الروح والجسد على نصاب نقيض للنصاب القديم، بعض ملامحه توقف الجدل بين الروح والجسد، إذعان الروح للجسد، تماماً ككل عمليات التوحيد القسري التي تأسست على الغلبة. إذن فالجسد الفرد على أهبة أن يعلن سلطانه ويستنفر حيوياته الفائضة عن متطلبات العيش المحض والتناسل والتكاثر، لتغلق هذه الحيويات تاريخ انقسامها الى مكبوت أو مهذب أو فالت من أي نصاب وازن، وتلتئم على سياق كوني جامع يحمل تهديداً بالتلاشي تحت وطأة الاندفاع في الاشباع الذي يعيد توليد الرغبات والطلبات التي تنبت عليها كل انواع الإحباط والمرض الجسدي والنفسي الذي يسابق العلم فيسبق العلم من بين كل المتسابقين معه، ما ينذر ببطلان الفلسفة وتعطيل غيرها من حقول الرؤية، أما جسم الاجتماع فهو الى تحرر من جاذب الالتئام على شعور جمعي معتدل لا يلغي الذات، ومنه إلى جاذب التخفف والتخفيف من المشتركات الجامعة وقياس الوجود والهوية على حجم ومساحة الفرد، تحقيقاً للانعتاق في صورته التي لا تلتزم بقواعد مسبقة، موروثة أو مستنبطة. لعل ذلك هو ما يترشح الآن، بصورته الأولية الآخذة في الشياع عالمياً، من سلوكيات وسلوكات يومية واتجاهات وتوجهات ثقافية تتعدى شأن الفرد والجماعة كموضوعات، الى شأن الجوامع والنواظم الأعظم، من الوطن والاجتماع الوطني الى الدولة والأمة والمكان والزمان والذاكرة والدين حتى في مفهومه السالب "اللادين" خروجاً من كل ما يحتمل التعميم والاطلاق. حتى لو كان إلحاداً أو علمانية أو عدمية أو شيوعية أو مشاعية أو لاإدرية، وإذا ما بدت أصقاع في الدنيا في منجى الآن من هذه الرياح الشديدة الإخصاب كمجاهل افريقيا مثلاً فإن امراض العصر السيدا بما تملك اساساً من قابلية الانتشار، وبالحرية التي استمتعت من خلالها المجتمعات البدائية بضيق مساحة المحرم الجسدي، فإن الجسد البدائي على موعد مع نهاية لأفراحه التاريخية ليصبح بذاته حراماً، وبمقتضى حريته نفسها، وليبدأ بالبحث لنفسه عن سلطة أخرى قد لا تتحقق، قد لا يكون في عمر الجسد البدائي فسحة لتحقيقها، إذن فالمنجى ليس إلا عطلة مؤقتة شارفت نهايتها، لتعود الروح البدائية فيستبد قلقها على الجسد، مكانها، من دون أن يكون لها حظ في شيء من سلطان. إلى ذلك، فإننا على سعة هذه المعمورة، وبصرف النظر عن مدى تحضرنا، مهددون بفقدان القدرة العصبية على استيعاب الانقلابات العلمية وتداعياتها الذهنية والنفسية والاجتماعية إذا ما بقيت وتيرتها على هذه السرعة، فضلاً عن تناميها والمزيد من تسارعها، أما إذا توقفت أو انكفأت أو تفجرت فإن السلامة تصبح أبعد منالاً.. إذن تكون الدنيا قد امتلأت جوراً وظلماً.. فمن يمنع مَنْ مِن توقع القيامة وانتظارها؟؟، وهل يحق للمتدين إذن أن يتوعد، على اساس الوعد بانقلاب بحجم الانقلابات الجيولوجية العظمى، كأن يتحول القطب المتجمد الشمالي الى منطقة صحراوية شديدة الحرارة.. هل أذنت النبوءات الصعبة باحتمال تحقق على سياق تطور علمي مشهود ودال هرمجدو "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش". إن الصورة المرئية لهذه التوترات، مستمرة من خلال آليات تشكلها في تفكيك الرابط التاريخي والحضاري ما بعد البدائي بين الفرد والفرد، بين الفرد والجماعة، بين الجماعة والجماعة، وبين الفرد والجماعة من جهة وبين المتفق على دعوته قضايا، كبرى أو صغرى من جهة أخرى.. وليست المسألة كلها هنا، فقد يمكن أن يكون ذلك محتملاً أو متضمناً لدلالات إيجابية؟ لو أن الرابط تحول الى جهة أخرى، لو أن هناك احتمال رابط يبقى أو يتغير الى رابط مخالف أو مضاد، وهو ليس كذلك، وإلا فمن أين يأتي هذا الانحدار السريع والحاد والشامل في الفنون والآداب، باعتبارها المنزل الأخير للنبض والوهج والحيوية؟ من أين يأتي هذا الهباء وهذا اليباس في الحياة اليومية التي تتجه الى المزيد من الانطفاء والضيق والبرم وغياب المعنى والانكفاء على الذات، على صدفة الذات وقوقعتها الفارغة المفرغة؟ ومن أين يأتي هذا الفصام الشديد والثقيل بين التطورات العلمية التي كان من شأنها أن توسع المشترك العلمي وتحوله الى مكون ومحدد ثقافي مبرأ من احتمالات الحياد والحيرة، أي من دون أن يكون اتساعه وعمقه وانتشاره وتواتره عازلاً للمشترك الروحي والوجداني؟ في حين أن تحول المنجزات العلمية الى كميات محايدة ثقافياً أو بديلة للثقافة أو ناقضة لها يفسح في الأفق لارتسام ما يمكن اعتباره منعطفاً أخلاقياً سالباً، بالمعنى العلمي للأخلاق، بما هي مكون لحمي للاجتماع، لا يحفظه إلا الموازنة نظرياً وعلمياً بين الذات والموضوع، بين الرغبة والتمنع والامتناع، بين العام والخاص، بين المحلي والعالمي، بين المطلق والمحدود، بين الأنا الفردي والأنا الجمعي، بين الغيب والشهود، بين الشاهد والمشهود، بين الحاضر والغائب، بين المستحق والمتوقع والمحال، بين المرجو والميسور، بين الروح والجسد، بين العقل والحب، بين الليل والنهار، بين الربيع والخريف، بين الإله والمتأله، بين الجيل والجيل، بين البيئة والإنسان، بين الشيء والمعنى، بين الشيء ومعناه، بين المعنى ولباسه والتباسه، بين الدال والمدلول والدلالة، بين المفكر والمسقط ولا يسقط، بين الفن والعلم والحياة، إذن: يعود العلم مصدراً من مصادر الحياة، شرطاً من شروطها، شرطاً أعظم، يجددها كما يتجدد بها ويساجلها، مرة تغلبه ومرة يغلبها، فترضى ويرضى، من دون تعسف أو إكراه أو إذعان.. بدل أن تنفصل الحياة عن العلم وينفصل عنها، وتنزع الى مصادرته أو المصادرة عليه، أو ينزع الى افقارها أو تعطيلها، فتغدو الحياة حسابات جافة جارحة، ويغدو العلم مثابة جهالة ويباب ويصبح الفن لاحقاً ساكناً دونياً، تأتيه معيارية تعطله من مناخات مغايرة له روحاً وريحاً ورائحة، لوناً وكثافة، وشكلاً لا يفارق مضمونه إلا بالقسر والكسر. في هذا المشتبك بين العلم والحياة، وبينهما الثقافة بمفهومها الحي، في الصدر منه أو في الرأس، سدة للدين، يتسنمها الجدير من جماعة أو رعيل، الباحث الذي يرى الى الأبعد والأعمق ويتحرك باستمرار ليضيف لا ليستهلك فيُهلك ويهلك ليكشف ويكتشف لا ليخفي فيختفي، ليتناغم لا ليتنافر، ويكون الدين أعلى، بقدر ما يتصل ويتواصل، يغدق ويمنح، يتباسط ويبسُط ويبُسط وينبسط "أن هذا الدين المتين فأوغلوا فيه برفق ولا تكونوا كالراكب المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع". "حدثوا الناس على قدر عقولهم" وعقول الناس، معارفهم وهمومهم ومخاوفهم وأسئلتهم، تكون كبيرة أو تكون صغيرة.. وبقدر ما يقارب المعنيون بالدين، من أهل الاختصاص، بين حدود الأرض وبين حدود السماء، بين المعارف المحصلة وبين الحقيقة، التي تبقى قائمة على ثنائية الدنيا والآخرة، والكون والظهور وجدلية الظاهر والباطن والمعلن والمضمر، وعلى تبادلية السر والكشف أو الانكشاف وتعاقبهما كما الليل والنهار والشمس والقمر.. يكون الدين أعلى وأحلى. إذن فالقضية، مفهوماً وواقعاً الى هجران، الى مزيد من الهجران، العدالة مثلاً والوحدة.. ليس المقام هنا مقام قبول أو رفض أو إدانة أو بحث عن دليل أو بدائل، انه واقع قائم مرهون استمراره وتفاقمه أو تعديل مساره في اتجاه إيجابي، بتخصيب حقل الأفكار مع الحفاظ على شرط الغائية في نظامها وحياتها وتبادلها، على أساس إمكان وضرورة الاعتدال بين الفرضيات الغائية المستحيلة الشيوعية مثلاً وبين الفرضيات الصعبة، التي تنهض صعوبتها باعثاً على الحيوية والابداع على طريق إثباتها وتحقيقها العولمة مثلاً بما قد تعنيه من أنسنة وتكافؤ وما قد تعنيه أو تعنيه فعلاً - الآن - من استحواذ واستلحاق بما يستتبعان من تفكيك وإلغاء لكيانات وجماعات وثقافات. ربما كان ذلك احتياطياً لسلامة صورة الإنسان وموقعه الذي يعتز على شبكية العين المعاصرة، حتى ليبدو وكأنه المساحة المسقطة بين القضية والفكرة، وهو - الإنسان - لم يستقم على مكانه ومقامه كما استقام في الأطروحة الدينية السماوية التوحيدية. وإذا ما كانت الدنيا من دون ترذيل قد زحزحته هنا أو هناك، في زمن أو آخر، فإن النص الديني التأسيسي، رغم كل الافهام التي قاربته بمسبقاتها التي أوصلتها الى فهم مغاير أو مناقض لمنطوقه ومفهومه الإنساني الكوني، فإن حال الانسان ومآله لا يزالان، وهما باقيان في مصاف الغاية الأولى التي تبرر الدين فيبرر نفسه ويتبرر بها السبت من أجل الانسان وليس الانسان من أجل السبت يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم... وهذا الأصل، أو الأصل الأول فيما يتصل بالانسان والحياة، موصول أساساً بأصل الدين في ماهيته تعريفه الذي ينأى به عن كونه كوناً مفارقاً للكون، الى كونه مشروع كشف وتثبيت ومطابقة مع الكون وكائناته وعلاقاتها وحيثياتها وما يعتمل في داخلها، على النسق الذي كونه المكون الذي هو منه وإليه الدين والإنسان وهو الديان. وعلى هذه القناعة الراسخة لدى العلماء والعارفين والشهداء والصديقين، من أهل الأنس والأناسة والتوحيد والتوحد والإيمان والأمان والأمنة والسؤال الذي يختم بالسؤال لأن "فوق كل ذي علم عليم". يتبرأ الدين ويبرأ، حقيقة وعقيدة وشريعة، ومساراً وسيراً تاريخياً، عن كونه مبتدعاً أو مخترعاً للكون ومحتوياته الى كونه كاشفاً، منهجاً كاشفاً، لقوانين وعلل وأسباب وحكمة ومسارات وسنن اجتماعية وتاريخية وطبيعية، تحتفظ بمستوى من الثبات، لا يرقى الى مستوى السببية الطبيعية وإن كان يشاكلها، ويبقى محكوماً بالمتغيرات في الفكر والواقع حتى لا يسقط في وهدة الجبرية التي تخرج الأطروحة من احتمال الحياة وتفتح في جسمها باباً واسعاً للأسطرة والجدل الذهني الصرف "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، إذن فالخشية ثمرة المعرفة، وكلما زادت هذه تبعتها تلك في الزيادة. ويبقى الإشكال الأكثر راهنية وعمومية هو أن التحولات النوعية الملحوظة بوضوح تحمل احتمالاً بأن يكون القرن المقبل قرناً قاطعاً مع الدين، حتى لو لم تكن هناك أطروحة للقطع على غرار الأطروحة الماركسية أو الوجودية، التي أتت من سياق تطور الغرب وإشكالياته التي نبتت على مقولات التحرير والتنوير التي أعقبت توسعاً في الحراك الكنسي اتخذ ذريعة للمعطى السلبي الذي قام عليه فيما قام عصر النهضة في الغرب، الذي رأى في حراك الكنيسة وتعقيداته فرصته لإعلان الفراق بين الدين والعقل بعد ما أقامه - العقل - مرجعاً ومصدراً وحاكماً من دون تعريف دقيق هل هذا ممكن أصلا؟. لعل ذلك هو البداية لما انتهت إليه إشكالية الغرب الليبرالي الذي لا يفكر الآن بالعودة الى مكان تعود فيه المسألة بين العقل والدين الى حيويتها، ومن هنا ربما تكون إشكاليات مجتمعات البلاد الاسكندنافية التي لم تقع في محذور الجبرية والشمولية الاشتراكية اكثر تعقيداً من إشكاليات المجتمعات التي كانت اشتراكية، والتي تعود الآن لتلقي على أطروحة بديلة للنهوض، لا داعي للتقليل من صعوباتها، خاصة أن السلبيات التي كانت تكتنف التجربة السابقة أشد وضوحاً من الإيجابيات المفترضة أو المأمولة كرافعة منهجية لمحاولة النهوض، وقد استطاع غورباتشوف في مقاربته للمسألة في البيروسترويكا، أن يقدم نقداً علمياً واقعياً للتجربة من دون أن يصف دليلاً للبديل. وعندما يبدأ التفكير من نقطة احتمال أن يكون القرن المقبل قاطعاً مع الدين قطعاً مغايراً لما عهدناه وأصعب، فإن هذه المغايرة نفسها، بالمعطيات التي تحكمها، تتيح لنا رؤية أخرى تقوم على احتمال أن يكون القرن المقبل قرن العودة الواسعة الى الدين، وليس بالضرورة أن تكون السعة مرادفة للعمق، أو تكون مطابقة للقيم الدينية او المسلمات او الضروريات من القيم والأفكار الدينية في الأقل، ولربما، أو كما هو بين في المقدمات المشهودة، ربما شكلت العودة الى الدين لوناً من ألوان الاحتجاج على الحالة التي أخذت تنتجها مرحلة ما بعد الحداثة من تهميش ومن سيادة قيم وأفكار تزيد مساحة المحبطين والمقهورين، وتدخل القهر الى مساحات لم يبلغها من قبل في نسيج الذات البشرية، وهذا مما يمكن أن يكون مدخلاًَ جديداً الى نقض الدين بمجافاة مصادره ونظمه المعرفية الأصلية، فيصبح الدين تعريفاً، بحجم الاعتقاد بشيء ما، بالشيطان أو العدم، ولربما ظهرت منازع وظواهر اخرى تذهب الى نفس الينابيع ولكن عن غير طريق، وعلى جثة الآخر والآخرين ورجائهم، وإن كان ذلك الآن ليس بدعاً لأنه يحدث كما حدث تحت مظلة الدين، فإنه ربما كان صائراً الى درجة من العمومية المدمرة، ويخترع أو يبتدع أو ينتج لتبريره وتعميمه دين أو أديان موازية تشكله على معايير ومقاييس ومعرفة أخرى تختلط بالسحر والخرافة والميل الحاد الى تخريب الكون والاجتماع البشري من خلال إعادة الأسطرة على معطيات علمية ودعاوى متخيلة أو متوهمة أو مصطنعة شهود يهوه مثالاً.. وتوسع رقعة مقدساتها وتضيق رقعة المقدسات العامة المعهودة والجامعة لأهل الإيمان الأكبر. المسلمون المعنيون والمسيحيون المعنيون يرون أن هذه الاحتمالات والمسارات تعنيهم، أو لا بد أن يروا ذلك، وإذا ما كان لنا كمسلمين ملاذ نظري تنزيلي ساطع إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فلا بد لنا أن نحفظ ذواتنا بالتنزيل ومن أجله ومن أجلنا، لا بد لرعيلنا، لجسدنا البشري الراهن من ملاذ، إذا ما كانت المسألة فعلاً كما نؤمن هي مسألة حساب وثواب وعقاب وقيامة، وكنا نقرأ الآية قفوهم أنهم مسؤولون ونقرأ التاريخ وعلامات الأزمنة. على ألا تبقى السهولة مسيطرة على منطقنا في اختزال الغرب والحضارة الغربية في سلبياتها البنيوية حسب الواقع أو حسب وجهة نظرنا أو في سلبياتها التي حكمت نمط علاقتها بنا وعلاقتنا بها، ويبقى مكان لإدانة الغرب وصب اللعنات على رأسه، لأنه أسهم كعامل متدخل في توجيه قابلياتنا المكتسبة، عن وعي منه وسوء نية، في حال من قوته، وحال من ضعفنا، قابلياتنا على التخلف وإعطاء الأولوية لغير الأولى. بتركيز شديد، فإن ما رآه الرعيل الفكري والعلمي على مفصل القرن الماضي والحالي كان صواباً ولا يزال، فمسألة التقدم على أرضية التخلف على واقع التخلف هي مسألة ذات أولوية أكيدة، وإذا ما كان الاسلاميون والقوميون والحداثيون عموماً قد افترقوا في أطروحات التقدم منهجياً والتقوا في بعض التفاصيل، فإن الخلاف المنهجي بقي دون التأثير والامتداد الى معرفة ما لا يريدون، وما يريدون، وظل الخلاف على طريق الوصول الى الخلاص من غير المراد والوصول الى المراد. إن إعطاء الأولوية لمسألة الهوية، المتحققة دائما والمفتوحة في ملامح منها، ودائماً على التجدد والإضافة والإسقاط ايضا، والتي تبقى نظرة الآخر إليك أكثر من مسألة اختلاف وذات مدخلية واضحة في تحديدها إن إعطاء هذه المسألة أولوية مطلقة يبدو أحياناً وكأنه تقديم لغير المُلح على المُلح، أو للمهم على الأهم، ما جعل المسلمين والعرب يبدون باستمرار متوترين تجاه الآخر، ولو كانت مسألة التقدم التي تحفظ الهوية في المحصلة هي المستأثرة بالاهتمام لأصبحت التوترات في اتجاه آخر، في اتجاه ما يصون الهوية في محدداتها وتعبيراتها المختلفة.