في "الملحق" الماضي، نُشرت قراءة مسهبة لفيلم نورمان جويسون الأخير "الاعصار" الذي يعرض الآن في أنحاء عدة من العالم ويثير ضجة. وجويسون ينتمي الى الجيل المخضرم من السينمائيين الهوليووديين، وقد عرضت له أفلام كثيرة عالج فيها بعض القضايا الاجتماعية ولا سيما العنصرية "في لهيب الليل" والفساد النقابي "فيست". وهنا لقاء أجريناه مع جويسون عن أعماله، خصوصاً فيلمه الأخير والضجيج الذي أثاره. حين جلست ونورمان جويسون لم تكن الضجة اكتملت، لذا فإن الحوار دار على الفيلم لا على الاشاعات التي أطلقت عنه باستثناء الحديث عن صلته بالواقع. التقينا أول مرة عام 1975 أو 1977 في مهرجان "موسكو" السينمائي عندما كنا جميعاً أصغر سناً. سألتك عن أفضل مخرجي أميركا في ذلك الحين وذكرت مخرجَين أكن لهما التقدير الأعلى: فرنسيس فورد كوبولا والراحل هال آشبي. - كانا من بين أفضل السينمائيين حقاً. كيف ترى الوضع اختلف بالنسبة الى السينمائي الأميركي، آنذاك كانت هوليوود لا تزال تابعة للمخرج. اليوم هي تابعة للمنتج، أو صاحب التوليفة المالية. - ما يحدث هو أن المخرج الفنان مبعد عن السيطرة على العمل. وكلما أُفقد الفنان سيطرته على العمل، ضعف الفيلم لأن المسيطرين منتجون - منفذون لا يعلمون كيف تصنع الأفلام. في الحقيقة لا أعتقد أن معظمهم يعلم أي نوع من الأفلام يحب الجمهور أن يراه لأن لا أحد يستطيع أن يعلم ذلك على نحو مؤكد، لكنهم يعملون كما لو كانوا يعلمون. لو كنت تعلم أي أفلام تنجح لأصبحت رئيس شركة "فوكس". لذلك الأمر شاق على المخرج الذي يريد تحقيق ما لا يعتقد الآخرون أنه سينجح، فمن الصعوبة تحقيق الكثير من الأفلام التي تم تقديمها في السبعينات اليوم، بما في ذلك بعض أفلام كوبولا أو آشبي. ولكن إذا كان لديك السيناريو الذي يثير اهتمام الاستديو فإنك ستجد طريقاً لتحقيقه وهذا ما حدث معي في "الإعصار". كيف سمعت بهذه القصة أول مرة؟ - سمعت بها قبل نحو سبع سنوات أو ثمان عندما كان هناك مخرج آخر ديفيد بيكر يحاول صنع فيلم منها. وأعتقد أن هوليوود دائماً ما كانت مهتمة بتحقيق فيلم عن كتاب روبين كارتر. بعد ذلك قرأت مقالة في مجلة Sports Illustrated "الرياضة المصورة" وشعرت مجدداً بالدافع الى تحقيقها فيلماً. لماذا اهتممت بها؟ - أعتقد أن أكثر شيء أعجبني فيها القصة نفسها. انها قصة كفاح. حقيقة أن الحقد يفرز التمييز العنصري وسواء أكان هذا الحقد دينياً أو عنصرياً فإنه يؤدي الى الرفض والرفض المضاد. لكن الحب هو الذي يضع الأمور كلها في نصابها الصحيح. القصة احتوت المضمون الإيجابي الصحيح والمتفائل وفي الوقت ذاته هي قصة على مقدار كبير من عناصر الترفيه، خصوصاً أن روبين ملاكم. والملاكم مقاتل من نوع خاص لو لم يكن روبين مقاتلاً على الحلبة لما كان مقاتلاً في الزنزانة، ولما كانت القصة مثيرة. عملياً، كيف يمكن المخرج أن يحضّر لمثل هذا الفيلم؟ هل يبحث ويقرأ؟ - طبعاً لكن السيناريو هو الذي بحث وقرأ قبل المخرج، لذلك فهو الأرضية الأكثر أهمية. أعني أن السيناريو الناجح يستطيع التحكم ببناء الأحداث خصوصاً عندما تحتوي القصة الكثير مما يستوجب السرد. لنتوسع قليلاً في هذا الجانب. كيف يتمكن السيناريو من تحقيق ذلك؟ - السيناريو عن مقاتل سيقبض عليه لجريمة لم يرتكبها ويوضع في زنزانة ولن يستطيع الخروج منها. الموازي لإصرار المخرج تصوير فيلم يدور في السجن هو ايجاد قصة تسرد خارج السجن وتكون المقابل. والقصة وجدناها في اندفاع ذلك الشاب ومجموعته لإثبات براءة روبين. ولا تنسَ قصة زوجة روبين والغموض الذي يحيط بمستقبل علاقتها بروبين الذي يطلب منها ألا تزوره. هذا الفيلم يشبه قليلاً "الروس قادمون، الروس قادمون" 1966 عندما سردت فيه خمس قصص مختلفة. على ذكر "الروس قادمون"، كيف كان استقبال الجمهور الأميركي له آنذاك؟ - هذا يعيدنا الى ما ذكرناه سابقاً. لم يكن أحد يعلم أنه سيحقق النجاح الذي حققه. لم يكن يعلم أن الفيلم سينتهي الى سجلات الكونغرس، وان نائب الرئيس سيهتم بمشاهدته لدراسته واني سأدخل بالفيلم قاعة "نقابة العمال السينمائيين" في موسكو مع 2000 متفرج وأن سيرغي بوندراتشوك وكل المخرجين الكبار آنذاك سيشاهدونه في عناية. قبل خمس سنوات أو ست كدت أن ترتبط مع دنزل واشنطن بفيلم آخر هو "مالكولم أكس"، لكن سبايك لي هو الذي أخرج الفيلم بعد ضجة أثيرت على كيف يمكن مخرجاً أبيض تحقيق فيلم عن شخصية سوداء بمثل أهمية مالكولم أكس. - الضجة لم تكن في محلها آنذاك، وأنا لم أقتنع بالمبررات التي سيقت، ولم يعجبني ما حدث. لكنني الآن سعيد لأن دنزل واشنطن هو الممثل الذي قام ببطولة هذا الفيلم. ليس هناك ممثل أفرو - أميركي آخر يستطيع أن يمنح الدور هذه الطاقة وذلك الإيمان. لا أعتقد. هل هناك اضطهاد في هوليوود تراه موجهاً الى المخرجين المخضرمين أو الكبار سناً؟ - ربما. لا أستطيع أن أضع يدي على برهان إذا كان هناك هذا التمييز. لكنني أذكر أن جون هيوستون حقق ما اعتبره أفضل أعماله وهو في الثامنة والسبعين من عمره "الميت" وكانت زجاجة الأوكسجين لا تفارق ظهره. هل تعتقد أن بيكاسو لم يكن في أفضل حالاته في آخر سنواته؟ شاغال رسم أفضل لوحاته وهو عجوز. لا أفهم كيف يفكر البعض، أنا فنان وأفهم العلاقة بين الناس وفي الحياة. لا يحق لأحد أن يناقض هذه الحقيقة لمجرد أنني أكبر سناً. يتحدث "الاعصار" عن اللاعدالة. وكان هذا أيضاً موضوع "في لهيب الليل"... بعد كل هذه السنوات كيف ترى الوضع الاجتماعي بالنسبة الى القضية العنصرية؟ - لا توجد أعمال شغب في الشوارع. وأرى بلداً يتحدث كثيراً عن المساواة والحرية الموجودتين في الدستور الأميركي. لكني أرى أيضاًَ دولة لا تزال قائمة على العنصرية. حدث تقدم كبير واحتل الأفارقة - الأميركيون مناصب بارزة، انما ويا للأسف بعض الأشياء لا يتغير. الحقد يجلب الظلم والتمييز والعنف ونحن نرى ذلك في الأوضاع السياسية حول العالم. ما هو الفيلم الذي تعتقد أنه عبر عن آرائك أكثر من غيره؟ - "في حرارة الليل"، و"الإعصار". هل تعتقد أنك أقدمت على تنازلات في الفيلم الأول؟ - هل تعتقد ذلك؟ متى شاهدته آخر مرة؟ شاهدته نحو عشر مرات، منها مرتان على الشاشة الكبيرة. آخر مرة قبل شهرين تقريباً. - هناك تحر أسود يريد ممارسة عمله في بلدة جنوبية تطفح بالعنصرية. ما قمت به هو الحذر من طلاء الفيلم بالأبيض والأسود. ليس كل البيض عنصريين. طبعاً، لكن... - لو أردت تحقيق ذلك الفيلم الآن لخرجت بنتيجة مختلفة لأن البيئة الاجتماعية تختلف اليوم حيث هناك تقدم كبير في قضية المساواة بين السود والبيض. تلك المرحلة سمحت لنا بالاقتراب من الموضوع الذي كان لا يزال جديداً الى حد بعيد. لنبتعد عن السياسة الى الرومانسية... هل لديك تعريف رومانسي لماهية السينما؟ - يا الهي، السينما... أعتقد أن الأفلام أصبحت أدب هذا الزمن وأن هناك شيئاً سحرياً يتعلق بامكان الذهاب الى الصالة والاشتراك مع الآخرين في حلم واحد. مشاهدو الفيلم في الصالة متشاركون في الحلم أينما كان. شخصياً أستصعب أن أدخل فيلماً لأشاهده وحدي. أريد أن أجلس مع آخرين لأن بعض المتعة يكمن في هذه المشاركة. لماذا قررت أن تبدأ "الاعصار" بمشاهد بيض / سود؟ - تمتد الأحداث من الستينات الى الثمانينات. وفي الستينات كان التلفزيون لا يزال بالأبيض والأسود. انه اللون الذي كنا نشاهد به حلبات الملاكمة. لذلك فإن هناك حساً خاصاً يبدو عندما تظهر مشاهد "الفلاشباك" بالأبيض والأسود. لكن بداية الفيلم لا يمكن أن تكون "فلاشباك" لأننا لم نتعرف الى الشخصية التي تسترجع ذكرياتها بعد. - ولكن يمكن أن تبدأ بتلك الذكريات. ما أقصد قوله أنها تبدو كما لو كان الموحى به ليس الدراما والمسألة الزمنية، بل ربما كان لها دافع فني؟ - نعم كان لها هذا الدافع. هذا الجانب متصل بالصورة التي ارتبطت بذهني حين مشاهدتي المباريات التلفزيونية. الى ذلك، اخترت الأبيض والأسود في مشاهد الملاكمة لأنني أدركت أن على الفيلم أن يكون قابلاً للتصديق، وشعرت أنني، إذا صورتها ملونة، أكون هددت تلك القابلية تماماً. اخترت الحفاظ على الأبيض والأسود لأسباب شعورية وجمالية وسؤالك طرحه عليَّ المنتجون حين عرضت الفيلم أمامهم رددت عليهم بالجواب نفسه. هل تعتقد أنك عبرت تماماً عن كل ما أردت التعبير عنه في هذا الفيلم؟ - مستحيل. أصارحك بأن ما يمر في بال المخرج قبل انجاز فيلمه لا يمكن نقله بالقوة والإيقاع نفسيهما وبالمحافظة على الطريقة التي يراها مناسبة. لماذا؟ لأن العاملين في الفيلم سيتدخلون بين ما في بالي كفنان وسبل تطبيق هذا الذي في البال. لكنك تحاول على أي حال. - نعم.