ما يبدو تحفة خالصة في نصف الساعة الأولى يتبلور بعد ذلك فوضى استعراض لحال قصد بها عكس ما تنتهي اليه. هذا ما يحدث لفيلم جديد للمخرج المعروف سبايك لي بعنوان "مخدوعون". والكلمة التي استخدمت للعنوان، كلمة عامية قليلة الاستخدام وردت في خطاب للمناضل الراحل مالكولم أكس وهي: .Bamboozled انه فيلم عن العنصرية، هذا واضح. عن التلفزيون الأميركي اذا ما رغب في التوجه الى جمهور فئوي أسود، وهذا ايضاً واضح. ثم عما يحدث عندما يستخدم مهرجون من الشارع لتقديم "نمرٍ" استعراضية هي في حد ذاتها تنميط للشخصية السلبية للأفرو- اميركيين. وهذا ايضاً واضح. ما هو غير واضح بالمرة، كيف سمح سبايك لي لنفسه بالتمادي في إثارة لعبة العنصرية، منتقداً بعض أوجهها الى درجة التحول مصدراً لما ينقده من دون التوقف عند اي خط فاصل بين الناقد والمنقود. في فيلمه الجديد هذا الثاني هذا العام بعد استعراض تسجيلي لأربعة كوميديين منفردين قدمه قبل شهرين بعنوان "ملوك الكوميديا الحقيقيون" قصة كاتب أسود اسمه بيار ديلاكروا، يعمل في محطة تلفزيونية ادارتها من البيض كشأن المعظم الكاسح للمحطات التلفزيونية الأميركية. في مطلع الفيلم نتعرف اليه ديمون وايانز في الدور. انه خريج جامعة هارفرد، يتحدث بلكنة متعلمين وقصي عن اسلوب البيئة السوداء التي ولد فيها، في الحركة والتصرف وطريقة الكلام. ومطلوب منه أن يساعد في رفع اسهم المحطة المتدهورة باستنباط برنامج كوميدي جديد موجه الى المشاهدين السود. في خط مواز، نتعرف الى شابين يقدمان "نمرهما" الاستعراضية في الشارع. انهما مانراي سافيون غلوفر و"سليب أند إيت" تومي دافيدسون، ويعيشان حياة دعة كبيرة. انهما موهوبان لكنهما بلا معيل، الى أن يلتقيهما بيار ويقرر تحويلهما شخصيتين كوميديتين جديدتين. في برنامجه الجديد سيقدمهما على ذات الشاكلة نفسها التي قدمت بها السينما الأميركيين السود في مطلع زمن الصورة: شخصيات كاريكاتورية تدعو الى الضحك. تمسح وجهها بماكياج يزيد سواد بشرتها سواداً مع خط حمرة عريض على الشفتين. حين الوقوف على المسرح، هناك حركات تهريجية مقصودة وديكور مستوحى من مزارع البطيخ التي كان السود يعملون فيها مسخرين. انها الصورة نفسها التي قبلها الجمهور الأميركي من دون نقاش في العشرينات والثلاثينات، تثير خيال الكاتب ويعيد تقديمها - بكل ما تحتويه من عنصرية- الى جمهور اليوم. بداية، يفاجأ الجمهور الحالي، أسود وأبيض، بالمعروض ويحس أنه مهين كذلك تفعل سكرتيرة الكاتب وتؤدي دورها جادا بينكت سميث، ولكن مع التكرار، قبل الجميع الفكرة الى درجة أن أفراد الجمهور الحاضر لتقديم الحلقات في الاستديو، يقبلون بطلاء وجوههم بالأسود تماماً كالبطلين. واذ ينجح البرنامج وترتفع اسهم المحطة، يجد مديرها العام مايكل رابابورت - أفضل من في الفيلم أن الدنيا لا تكاد تتسع له من الفرح. والمدير العام شخصية مثيرة جداً بدورها: إنه أبيض. لكنه يزين مكتبه بصور سودٍ معلقة ويحفظ بعض الأسماء الأفرو- اميركية ويتكلم مع بيار والسود بلغتهم ويمارس حركاتهم. ويعتبر نفسه "أخاً" لهم ومعهم. على رغم ذلك، فإن الإهانة المتمثلة بالبرنامج الذي يكتبه بيار لا تثير اهتمامه. فكل ما ينشده ارتفاع نسبة مشاهدي المحطة، وهو ما يتأمن له، الى أن يبدأ المهرجان نفساهما بمراجعة ما يقدمانه ويطرحان الاسئلة. من نقد التلفزيون وهيكليته الى نقد بيار وهيبوقراطيته وابتعاده المقصود عن بيئته، الى نقد السود والبيض على حد سواء، ثم الانتقال في ربع الساعة الأخير لتقديم نماذج مما عرفته السينما من شخصيات سود نمطية... ينتقل "مخدوعون" بقليل من التنظيم والترتيب وبكثير من الفوضى. خلال ذلك كله، يضع الفيلم قدمه في الخانة التي من المفترض أن تبقى لما يعرضه فقط. يتحول بدوره الى ما ينقده في شكل البرنامج التلفزيوني. سبايك لي مخرج غاضب من أيام أفضل أفلامه "حمى الغابة" و"افعل الشيء الصحيح" و"مالكولم أكس"، ولكن في أفلامه تلك عرف كيف يوحد نظرته وبالتالي معالجته فلا تفلت الامور من يده. هنا، يبدأ جيداً، لكنه سرعان ما يسمح لنفسه بالتمادي فلا يعرف لماذا يعرض ما يعرضه اذا كان سيندفع الى ممارسة موقف بطله بيار على أي حال. انه فيلم سخرية يصيب الساخر ببعض رذاذه. الى ذلك، فإن تلك "النمر" المقدمة على مسرح التلفزيون تتحول حبالاً تشد الفيلم الى أسفل. بدعة تحويل السينما لاقطاً لما يحدث في استديو تلفزيوني ليست جديدة، وبالتالي ليست جيدة احياناً كثيرة. يتوقف ذلك على الاحتفاظ بسمة الفيلم حتى في مشاهد مفترض بها أن تكون تلفزيونية برنامج - داخل - فيلم. مع تكرار تلك المشاهد يتحول الفيلم عن خطه السابق، على صعيد الممارسة الأسلوبية والتنفيذية نفسها، ما يترك في المشاهد الشعور بأن العمل انتهى أصغر حجماً مما بدأ به. ربع الساعة الأخير يمنح الفيلم الكثير من معانيه المقصودة، ولكن كونه عبارة عن مشاهد مقصوصة من أفلام عنصرية سابقة في مقدمها "مولد أمة"، او أخرى تصور بيضاً بوجوه مطلية بالسواد، إمعاناً في تقديم الشخصية النمطية "مغني الجاز" من أشهرها، يجعل لا مفر من أن تؤدي الى شحن الفيلم بتلك المعاني. يهدي المخرج الفيلم الى بد شولبرغ، الذي كتب سيناريو فيلم ايليا كازان "وجه في الزحام" عن مهرج شعبي يصبح نجماً كوميدياً على التلفزيون 1957. وكما نلاحظ هنا، فإن الفيلمين متشابهان، في هذا الجزء من الفكرة. لكنهما مختلفان في معطياتها. كذلك يستعير سبايك لي من فيلم "المحطة" سيدني لوميت- 1957 العبارة التي يكررها بيتر فينش في المشهد الشهير عندما يدعو الى اغلاق أجهزة التلفزيون لأن التلفزيون كاذب. لكن هذه الاستعارة تمر من دون أثر نافع. "مخدوعون" يبقى عملاً من الخيال يقترح شكلاً واقعياً، لكن فيلماً آخر عن العنصرية بعنوان "تذكر التايتنز" هو فيلم من الواقع يقترح شكلاً خيالياً. ومع أن هذا الفيلم لمخرجه الجديد نوعا بواز ياكين، يعمد الى الطريقة التقليدية في السرد وتأليف الحبكة والإتيان بمعضلاتها وحلولها، الا أنه أكثر تأثيراً في الذات، وأكثر خدمة لرسالته المضادة للعنصرية، من فيلم سبايك لي الأكثر تحديثاً في لغة السرد. عام 1971 وتبعاً لقرارات الحكومة الفيدرالية آنذاك، شرعت السلطات التنفيذية في الولاياتالشرقية والجنوبية، على مضض في كثير من الأحيان، في دمج المدارس التي كانت في تلك الولايات وحتى ذلك الحين، مقسمة: مدارس للبيض ومدارس للسود. وبالتالي دمج فرق تلك المدارس الرياضية، لا بل البدء بتعيين مدربين سود. هرمان بون دنزل واشنطن في أداء يحمل الفيلم بأسره هو المدرب الأسود الذي يُعيَّن مديراً مسؤولاً لفرقة كلية فرجينيا في ذلك العام. والرهان المحلي عليه هو أنه لن يقدر على تحقيق اي مقدار من النجاح لا على صعيد إدارته ولا على صعيد توحيد الجنسين الأبيض والأسود في فريق متضامن واحد، وبلا أحقاد وضغائن. لكن هرمان، وهو يعلم حجم التحدي الذي يواجهه، يبدأ اسلوباً عسكرياً في الممارسة ينتهي به، وبعد مصاعب متعددة، الى تشكيل فريق متجانس ومتحاب يلعب ضد فرق بيض لم تختلط بعد ويكسب جولاته. في خضم ذلك، يمر "تذكر التايتنز" والتايتنز إسم ذلك الفريق بقائمة من المصاعب والنماذج المعترضة. من الحسد الذي يكنه الرئيس السابق للفريق ويل باتون، الى العلاقة المتأزمة بين لاعب أبيض وآخر أسود، الى وجود بيض لا يمكنهم الانصهار في التجربة، ووجود سود يشعرون بعدم الثقة حيال البيض. تبعاً لبعض الروايات هنا، فإن الفيلم كاد الا يرى النور. وفي إحدى المراحل نُصح منتجه جيري بروكهايمر من أفلامه الجديدة الأخرى "اختفى في 60 ثانية" بتحويله فيلماً تلفزيونياً. لكن عناد المنتج هو الذي فاز وكذلك نوعية السيناريو التوفيقي المكتوب. ففي طيات هذه النيات الطيبة المتألقة، هناك فقر في معالجة الموضوع على نحو أكثر تعمقاً وجدية. الفيلم يخسر من جدواه في موضوع الصراع العنصري، كلما استعان بحل وسط، نموذجي وتلقائي يثير به "الصح" لدى الطرفين ويعاملهما كطرفي ميزان يجب ألاّ يعلو أحدهما على الآخر. صحيح أنها المعاملة المطلوبة في اي موقع وفي اي مجتمع، لكن معالجة هذا التعامل داخل الفيلم والطريقة التي يسوق بها السيناريو كتبه غريغوري ألن هوارد والإخراج والنتائج والحلول، تذكرنا بمسلسل "أبو ملحم" في أفضل الحالات، حيث كل شيء ينتهي بمحبة وسلام وود، ولا فرق في حجم الأزمات التي تطرحها كل حلقة. لكن "تذكر التايتنز" مثل "مخدوعون" لا يمكن رفضه تماماً. فيه ايضاً عوامل جيدة. تحديداً، هناك عاملان رئيسيان يقويان عضده: فهو يحتوي مشاهد عاطفية جميلة لا يمكن رفضها، واداء قوياً من دنزل واشنطن يحمل الفيلم بأسره. في المقابل، فإن اخراج ياكين يساوي السيناريو في انتقالاته التلقائية. انه تنفيذي وظيفي محض، ونتلمس ذلك من خلال سياسة التقطيع والتقاط المشاهد تلبية للحوار لا العكس واستخدام مؤثرات صورية تبدو مثل عملية كبس الأزرار في البرامج التلفزيونية حيث عمل ياكين من قبل.