القصة التالية تستحق الرواية، ولكن اذا صبر القارئ معي حتى النهاية، فهناك سبب آخر للاهتمام. ساره فلانري طالبة ايرلندية اشتهرت فجأة في مطلع العام الماضي، عندما كانت لا تزال في السادسة عشرة بعد ان طورت برنامجاً ل"تشفير" اي مادة حساسة على الانترنت اسرع 22 مرة من برنامج طوره معهد مساتشوستس للتكنولوجيا. وقرأت ان والد ساره محاضر في الرياضيات وانها محاضرة في الاحياء الميكروسكوبية، ما يعني ان مصدر عبقرية البنت واضح. الا ان الوالدين ديفيد وايلين، وسارة معهما، اصروا على ان البنت ليست عبقرية. ساره متعددة المواهب، فهي تدرس ايضاً اللغات، وتبدو مهتمة بالرياضة من ركب الخيل الى كرة السلة وكرة القدم والزوارق. وهي بدأت رحلتها نحو الشهرة بتقرير مدرسي عادي، فدرست طريقة "التشفير" المتبعة، وركزت على ابطأ خطوة فيها، ثم طورت حولها شبكة من الأرقام لفك المعلومات بطريقة نهائية. غير انها اكتشفت في الصيف الماضي وجود "فيروس" يعطل برنامجها فدرسته، ووضعت التفاصيل في مقدمة تقرير كامل تقدمت به الى مسابقة عالم السنة الشاب في اوروبا، التي كان مسرحها سالونيكا، في اليونان. وأعجب القضاة بصدقها في عرض "الفيروس" وبالحل الذي طلعت به، ومنحوها الجائزة الأولى، وأقبلت عليها الجامعات والشركات العالمية لخطفها اليها. ساره وأبوها ألّفا كتاباً عن مشروع "التشفير" يجمع بين حياتها الشخصية والبرنامج الذي ابتكرته، وهي الآن امام مفترق طرق، فأما ان تتبع مستقبلاً اكاديمياً باهراً، او تدخل دنيا العمل وتصبح مليونيرة كبيرة. قرأت تحقيقاً صحافياً عن ساره شغل صفحتين، وازدان بصورة ملونة ضخمة لها، وتمنيت لها كل خير. الا ان الموضوع ذكّرني بموضوع آخر عدت الى اوراقي المتناثرة من دون انتظام وبحثت فيها حتى وجدته. في 21 تشرين الأول اكتوبر 1999 نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تحقيقاً طويلاً عن ولدين فلسطينيين ضريرين هما منذر ومظهر بدر، أو بدير، حققت الشرطة الاسرائيلية معهما بعد ان اخترقا شبكة راديو القوات المسلحة الاسرائيلية وأجريا عبرها مكالمات دولية. وبلغ من تقدير الشرطة لمواهب الاخوين ان فرقة مكافحة الاحتيال خصصت فريقاً من عشرة محققين للعمل على القضية، فلم يجرؤ هؤلاء على استخدام كومبيوتر الشرطة، خشية ان يخترقه الاخوان ويدمرا اوراق التحقيق، وانما اجروا التحقيق على اجهزة كومبيوتر شخصية، واحتفظ كل محقق بالمعلومات لنفسه. وزادت اوراق التحقيق في النهاية على 30 ألف ورقة وضعت في 50 صندوقاً. وواجه الاخوان 47 تهمة، واعتقلا وأفرج عنهما بكفالة، وأحيلا على المحاكمة. ساره فلانري تواجه مستقبلاً باهراً، اما في المجال الاكاديمي او العمل، ومنذر ومظهر يواجهان السجن او الفقر. وساره تستغل عبقريتها في الرياضيات لتطوير برنامج "تشفير" اسرع 22 مرة مما طلع به اهم معهد علوم اميركي، والاخوان الفلسطينيان لا يجدان متنفساً لعبقريتهما غير اجراء مخابرات دولية على حساب اسرائيل. الشرطة الاسرائيلية قالت ان الاخوين قادران على اختراق كومبيوتر الجيش الاسرائيلي، ولم تستبعد ان يخترقا اجهزة الكومبيوتر في البنتاغون نفسه. ومنذر تحدى المحققين الاسرائيليين قائلاً انه لم يولد بعد الكومبيوتر الذي يعجز عن اختراقه. كنت اتمنى لو اننا وضعنا ساره في مقابل منذر ومظهر، فهي تقدم برنامجها لضمان "التشفير" وهما يحاولان كسر الحواجز التي نصبتها لصيانة المعلومات الحساسة. غير انني لا اعتقد ان شيئاً من هذا سيحدث، فعندما كتبت عن الاخوين السنة الماضية، لم اسمع ان جهة عربية واحدة ابدت اهتماماً بقدرتهما رغم وضوح مجالات الاستعمال. وحاولت بعد ذلك ان اتصل بهما، الا انني عجزت فأنا في لندن، وهما من ابناء فلسطينيي 1948، ولا اتصال مباشراً لي مع احد هناك. وهكذا انتهيت وأمامي قصتان أو درسان، فالعبقرية في ايرلندا، او اي بلد غربي يكافأ صاحبها، وهي في بلادنا يعاقب العدو صاحبها، او يعاقبه بلده، ما يذكرنا بظلم ذوي القربى الذي هو اشد مضاضة...