يصف الكاتب الأميركي ستيفن كينغ رواياته بأنها "هامبرغر وبطاطا" النتاج الأدبي، وقد يكون الوصف دقيقاً لظاهرة هذه القصص الترفيهية التي عادة ما يقرأها في الطائرات والقطارات وأثناء الذهاب الى العمل والعودة منه، قراء مختلفو الاعمار والانتماءات الطبقية والإثنية، كأنهم يرغبون في الهرب بضع دقائق او ساعات من الحياة النمطية اليومية ليعايشوا الشخصيات التي يمسك بخيوط حركتها ستيفن كينغ ويمررها، مع القارئ في تجارب خارقة ومرعبة ومشوقة في آن. وهذا النجاح عند القراء شجع المنتجين على نقل ما يزيد عن خمسين من قصص ستيفن كينغ إلى الشاشة الكبيرة، أشهرها "أشاينينغ" للمخرج الراحل ستانلي كوبريك، و"إصلاحية شوشانك"، للمخرج فرانك دارابونت وهو الذي حقق فيلم "الميل الأخضر" عن رواية كينغ التي تحمل الاسم نفسه. والإشارة في اسم "الميل الأخضر" هي الى لون أرضية جناح الإعدام في السجن حيث تدور أحداث القصة، اذ يشرف بول إدغوم توم هانكس على السجناء في المدة الفاصلة بين صدور حكم الإعدام وتطبيقه عليهم بكرسي الكهرباء. ونتعرف من خلال الساعة الأولى في الشريط الى طريقة بول إدغوم في التعامل مع نزلاء جناحه القلائل، وهي تبدو مبنية على رأيه القائل إن هؤلاء اخطأوا وسيدفعون لاحقاً ثمن هذه الأخطاء، ولكن ليس هناك ما يمنع مدة انتظارهم من أن تتسم بالتعامل الودي والإنساني". على أن هذه الرؤية المحايدة تتعرض لهزات متواصلة عندما يقطن جناحه زائر جديد، جون كافي، أداة العملاق الأفريقي الأصل والمرشح الى الاوسكار مايكل كلارك دونكان. فحجم السجين الجديد وجريمته الفظيعة في قتله طفلتين جميلتين في مزرعة في الجنوب الأميركي تجعلان منه محط اهتمام للسجناء والحراس على حد سواء. بعيداً عن المنطق ومن خلال سلسلة من المواقف بين السجين والسجان، يتمكن المخرج فرانك دارابونت من تجريد المشاهد تدريجاً من معظم زاده من المنطق والتحليل العقلي، ليرميه في أحضان الخيال والإعجاز على يد جون كوفي الذي يقدم إلينا مفارقة شعرية رائعة بين ضخامة جسمه ورقة مشاعره. فهذا الإنسان في ذلك الهيكل المرعب يفاجئ بول إدغوم، ومعه المشاهد، بخوفه من الظلام، واهتمامه بفأر صغير يكون النزيل الوحيد في الجناح الذي لا تنتهي زيارته بكرسي الكهرباء. ومن خلال هذه المفارقات يصل "بول إدغوم" إلى مفترق للطرق، فما أن يطبق حكم الإعدام على السجين على رغم تأكده من براءته، وإما أن يستجيب نداء ضميره الذي يدعوه الى السماح للسجين بالهرب. في نهاية عرض الفيلم، تأتي العيون الدامعة والوجوه المتأثرة لدى غالبية الحضور، دلالة الى حرفية فرانك دارابونت الذي يتمكن من أداء دور الراوي للقصة من دون أن يشعر المشاهد بوجوده خلف الكواليس. وهذا يتم من خلال استخدام أسلوب سهل ممتنع في تكوين اللقطات وفي حركة الكاميرا وفي عملية التوليف التي تضع المشاهد في لب الحدث من دون أن يفكر في طريقة وصوله إليه. وهذا الأسلوب ينجح في إبعاد متتبع الفيلم عن الأسئلة المهمة التي تطرح نفسها في شأن اللجوء إلى حكم الإعدام عموماً والبشاعة واللاإنسانية في استخدام الكرسي الكهربائي للإعدام خصوصاً، من ناحية أخرى، نجد أن تعامل المخرج مع علاقة السجين الاسود والسجان الابيض بروح التسعينات، حيث العنصرية تعيش نسبياً تحت السطح، على رغم وقوع أحداث الفيلم في الثلاثينات، أحد أكثر العقود عنصرية في القرن العشرين، يقلل من صدقية الشخصيات في أحداث الفيلم. ولكن على رغم هذه التحفظات يبقى "الميل الأخضر"، رواية وفيلماً، تعبيراً عن تحية للعلاقة الإنسانية التي تربط شخصين يعيشان على جانبين متعاكسين من القانون. ومن هذا فإن كانت هذه القصة هي بمثابة "هامبرغر وبطاطا" النتاج الإبداعي، فإن الوخزة التي ستسببها في قلب المشاهد لن تكون بسبب الشحمة وإنما بسبب مشاعر العطف والإخاء الإنساني التي ستوقظها فيه أحداث الفيلم.