من المعروف ان المخرج علي عبدالخالق كان من أكثر المخرجين انتاجاً الى جانب نادر جلال خصوصاً خلال مرحلة السبعينات التي كانت من أحلك أوقات أزمة السينما المصرية ظلمة. ورصدنا لهذه الحقيقة الكمية ليس من قبيل الحسد او لفت أنظار مصلحة الضرائب - لا قدر الله - وانما بغية الربط بين السينما التجارية وآليات العمل. فليس من المهم جودة السيناريو او اختلاف المعالجة عن سابقتها. بل الأهم مدى احتواء الفيلم عناصر التوليفة التجارية التي تضمن له النجاح. وعند علي عبدالخالق تترجم هذه العناصر الى اغان يغنِّيها البطل وهو يرقص وسط الحسناوات، في محاولة ممسوخة لتقليد الفيديو كليب وما يسمى ب"الأغاني الشبابية"، والى جمل حوار غريبة خصوصاً في الافلام التي كتبها محمود ابو زيد، والى مواضيع مستمدة من خزائن عتيقة تبحث في "تعارض العلم مع الدين" و"ماذا فعلت الفلوس بالنفوس؟" والاعتماد على بطل شعبي شهم خفيف الظل يدفع الجمهور الى التعاطف معه وغالباً ما تكون الحارة هي المسرح الذي تدور عليه الأحداث. لم يختلف "النمس" الذي كتبه عصام الشماع عما سبقه من أفلام، وإن اختلفت المسميات. البطل هنا سعيد النمس محمود عبدالعزيز يتقلب في مهن مختلفة من سائق تاكسي الى عامل في دار سينما، ومن بائع سندويشات الى "بادي غارد". وهو شخص شهم يرفض الوشاية بزملائه الى رجال الشرطة، ويرفض الخيانة. اما سر تسميته "النمس" فتعود الى أنه زير نساء تقع كثيرات في أسره، من عاهرة الحارة المطلّقة نهلة سلامة إلى الصحافية سهام جلال، بالطبع لا نعرف لماذا؟ وحين حاول النمس ان يجري تجربة عملية أمام المشاهدين للإيقاع بالصحافية التي طرحت عليه السؤال نفسه ماذا تفعل لكي تجذب النساء؟، ويصب على رأسها عبارات منظومة ساذجة تشبه محاولات المراهقين الأولى في كتابة الشعر. بالطبع يكاد يغشى على الصحافية من فرط التأثر؟؟ أما العاهرة برديس منى حسين فتخدعه وتصطحبه مع وجبة كباب الى مكان شديد الفقر يضم عتاة المجرمين ثم تسرحه بعد أن تهدده بأخواتها الاشقياء. ويعتبر هذا الجزء من أكثر أجزاء الفيلم تفجيراً للضحكات، وفيه أثبتت منى حسين على رغم المشاهد القليلة التي أدتها أن موهبتها التمثيلية في تقدم مستمر. نزوة الحكيم وهناك شخصية أخرى تمثل المعادل الموازي لشخصية البطل وهي شخصية الشيخ نجيب الفرارجي عبدالعزيز مخيون صديق النمس المتدين الرافض أفعاله بلين، والملاذ الوحيد له من غدر الأيام وتقلباتها، الناطق بالحكمة والموعظة في مقابل رعونة النمس ومغامراته النسائية. لاحقاً يتزوج الشيخ نجيب من نهلة بعد أن تضع على رأسها الغطاء ويحرمها الخروج. وحين يذهب النمس الى بيت صديقه الشيخ ليسأل عنه ويكون خارج المنزل، يحضر الشيخ مسرعاً الى منزله بعدما أخبره بعض الشباب بوجود النمس في بيته، ليجده يتحدث الى زوجته صديقة النمس سابقاً. وتحت تأثير الشكوك يقرر تطليقها على رغم كونه حكيم الفيلم وعلى رغم قوة علاقته بالنمس، وفي إحدى جمل الحوار يقول له النمس: "أنت مش صاحبي... أنت أمي؟؟". حادث الطلاق يقع في النصف الثاني من الفيلم، وهو قد يصلح لأن يكون موضوع فيلم آخر بكل المقاييس، العلاقة الوحيدة بين الفيلمين -النصفين - هي هواية "النيشان" او الرماية التي يجيدها النمس، ولذلك حصل على ميدالية من القوات المسلحة وهي معلومة متكررة، في حوار عصام الشماع، في عدد لا بأس به من المرات من دون مبرر. ولأن النمس بارع في الرماية ينتهي به الأمر الى أن يشتغل، في نادي الصيد وهناك يتعرف إلى رجل أعمال حسين الامام فيعرض عليه العمل حارساً خاصاً لزوجته هالة سهير رجب. عَمَلُ النمس حارساً خاصاً سيفجر بالطبع الكثير من المواقف الكوميدية، خصوصاً عندما يقتحم حمام النساء بعد سماعه صوت ارتطام. و في محاولة من هالة لتسريحه يتحول النصف الثاني من الفيلم الى نوعية الافلام الهندية، فحسين الإمام ليس إلا زعيم عصابة للاتجار بالسلاح من دون أن يعلم النمس بالطبع وزوجته ترغب في الهرب من رقابة النمس لتبيع أسرار زوجها لعصابة أخرى؟؟ لكن زوجها ينصب لها مكمناً ويقتلها بمسدس النمس ويشعل النار في السيارة، ثم يدعي سفر زوجته وضياع مسدس النمس، ثم يكلف النمس عقد صفقة سرية برفقة مساعده سامي سرحان من دون أن يعرف النمس طبيعة عمل سيده! وحين يصل الرجلان الى الصحراء يفاجآن بالمدافع والاسلحة محملة على الجمال. تنفيذ هذا المشهد أتى فقيراً جداً والاسلحة تفاوتت بين النماذج الهيكلية والاسلحة القديمة جداً التي لا توجد إلا في المتاحف. يتسلم النمس حقيبة النقود وفيها ثلاثة ملايين جنيه، وحين يبدأ بعدها بالطبع لاستدرار الضحك تنهمر الطلقات من كل جانب ويموت سامي سرحان، فيأخذ النمس الحقيبة هارباً وسط النيران. وحين يصل الى منزل حسين الامام يجده قد قتل. فيأخذ النقود ويتصل بالصحافية، يقابلها ليخبرها أنه أصبح ثرياً، يحضر الشيخ نجيب وينصحه بتسليم النقود، في الوقت الذي تحضر فيه فلول أخرى من عصابة أخرى لتطارده، لكنه يتخلص منهم بالطبع بفضل مهارته في التصويب من خلال لعبة المرآة التي كان يمارسها في الحارة وسط تصفيق وتشجيع من أهلها في أول فيلم. ولكن هذه اللقطات تفتقد الصدقية والمنطق، وكذلك فإن اختيار كريم نجل محمود عبدالعزيز لينافسه في لعبة التصويب في المرآة اختيار غير منطقي نظراً الى براءة وجه الفتى وكذلك عدم جدوى الماكياج الذي اضاف اليه شارباً وسالفين كانا من السوء فتشعر أن هذا الشاب لا يستطيع الوصول الى هذه الحارة من دون معاونة رفيق أكبر. يتخلص النمس من العصابة ويذهب برفقة الصحافية والشيخ الى قسم الشرطة لتسليم النقود، ويكشف للضابط أسرار العصابة. لكنه يدعي نقصان المبلغ محتفظاً لنفسه بمبلغ مليون جنيه. ثم ينتهي الفيلم وسط ضحكات الضابط والشيخ نجيب والصحافية، بينما يشعر المشاهد أنه هو شخصياً الهدف من هذا الضحك بعد خداعه والاستيلاء على نقوده. في "النمس" الحارة غير منطقية، والمولد فولكلور زائف، وعلى رغم محاولة المدير الفني محمود بركة وكذلك مدير التصوير كمال عزيز، إضفاء لمسات جمالية على الحارة وإكسابها صدقية، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل لتظل الحارة هنا مجرد ديكور، تكاد تشعر بخلفية الصورة المصنوعة في الكثير من المشاهد. ليس بسبب تقصير من بركة، ولكن بسبب خواء الشخصيات وزيف تركيبتها. وهذا يرجع الى السيناريو الذي كتبه عصام الشماع. محمود عبدالعزيز كما هو يغني ويرقص ويلقي النكات بعيداً من الشخصية، وما زال لا يستطيع الامساك بزمام الشخصية، وقلما ينتقي "سيناريو" يضيف شيئاً الى مسيرته كما حدث في "القبطان". نهلة سلامة تسير وفقاً للنمط الذي فرضته تركيبتها الجسمانية، بينما تحاول سهام جلال الخروج من دائرة أدوار الاغراء بأدائها دور صحافية تحاول الاندماج مع الناس وإن شاب انفعالاتها وتعبيرات وجهها شيء من الجمود. "النمس" ليس إلا رقماً جديداً يضاف الى قوائم أفلام السينما المصرية... قائمة أفلام علي عبدالخالق. لكنه يظل مجرد رقم ولا يتحول شريطاً... وشتان ما بين الرقم والشريط. * ناقد ومخرج سينمائي.