بخلاف ما كان عليه الحال في السبعينات عندما تحدى ليبراليو "الجبهة الوطنية" والماركسيون في حزب "توده" واليساريون الشباب في منظمة "مجاهدين خلق" المنطلقات الاساسية للحركات الاسلامية، لم تعد فكرة الدولة الاسلامية موضع تساؤل في ايران في الوقت الحاضر. يدور الخلاف بالاحرى بين منظورين متعارضين - اسلامي راديكالي من جهة، واصلاحي ليبرالي، من جهة اخرى - حول الشكل لدولة ومجتمع اسلاميين. والكثير من ابطال هذا الصراع هم رجال تلقوا تعليمهم في مدارس دينية ونساء من عائلات رجال دين. وتدور المواجهة في اطار ما يتعلق بالتطبيق العملي اكثر من العقيدة. انه صراع بين قوى التغيير، من جهة، والقوى الداعية لاستمرار الوضع القائم، من جهة اخرى. واياً كانت نتيجته فان من المحتمل ان يترك تأثيراً مهماً على بقية العالم الاسلامي. يتركز الصراع على شخص محمد خاتمي وحكومته. لكنه نتاج لهذا الصراع اكثر من كونه المحرّك له. وربما فوجىء خاتمي بدرجة لا تقل عن خصومه عندما اُنتخب رئيساً في أيار مايو 1997 بنسبة 70 في المئة من الاصوات في سباق انتخابي بين اربعة متنافسين. وكان على رغم كل شيء وزير الثقافة والارشاد الاسلامي في حكومة هاشمي رفسنجاني، واثارت توجهاته الليبرالية الاستياء الى درجة إقصائه من منصبه تحت ضغوط الراديكاليين. ومع ذلك، حظي ترشيحه لخوض الانتخابات بموافقة "مجلس الاوصياء"، ولابد ان اعضاء المجلس قدّروا ان رجل الدين العقلاني هذا سيكون مرشحاً هامشياً ولن يكسب الاّ اصوات اقلية تافهة من المثقفين. وكشف فوزه بغالبية ساحقة شيئاً ما عن ايران المعاصرة ربما كان رجال الدين الحاكمون يجهلوه وفي الوقت نفسه لا يريدون ان يدركوه: ان ايران ما بعد الثورة اصبحت تعاني انفصاماً في الشخصية، اذ يعيش شعبها على مستويين متناقضين من الواقع، احدهما خاص والاخر عام، احدهما سياسي والاخر اجتماعي، احدهما ساير قواعد السلوك المقرة رسمياً والاخر لم يفعل. كان كل الايرانيين تقريباً الذين التقيتهم خلال زيارة قمت بها في 1991 يعيشون حياة مزدوجة وواقعاً ملتبساً جعل معظمهم يحسون بعدم ارتياح. وقال صديق قديم: "نحن في الواقع نعلّم اطفالنا ان يكونوا منافقين". التقيت شابة في حديقة عامة وكانت مغطاة بالحجاب من الرأس الى اخمص القدمين. وحالما انتهيت من تبادل المزاح مع شقيقها بدت متحمسة لمناقشة ميشيل فوكو وادوارد سعيد واعمال غبرييل غارسيا ماركيز. وكانت تلزم الصمت كلما اقترب منا احد الاشخاص. قالت: "قرأت ايضاً لسلمان رشدي، كل اعماله عدا آيات شيطانية". وفي منزل احدى الأسر، تحدثت روائية لأكثر من ساعة عن كتاب ايرانيين. وقالت ان التحدي الرئيسي الذي نواجهه هو التعامل "بوسائل آمنة وهادفة مع هذا الواقع البالغ القسوة" الذي يجعل "اشخاصاً مستقيمين يلجأون الى الغش طوال الوقت". وعندما تهيأت للمغادرة، هممت بالخروج معها لاني ايضاً كنت انوي المغادرة. قالت: "لا، لا تستطيع. انت لست مَحْرَماً. ها نحن نغش. اتذكر؟". وغادرت المكان وهي تبتسم. كنت سألت المرأتين عن رأيهما في شأن ارتداء الحجاب، وتلقيت الرد نفسه: "لا يستدعي القلق. هناك اشياء اخرى اكثر اهمية". واوضحت الروائية ان جهاز الرقابة حجز آخر اعمالها، ولم تكن تدري اذا كان سيُسمح بنشره. نشأ ماهمل باف فقيراً في احدى الضواحي الشعبية جنوبطهران، واصبح احد نشطاء الثورة الاسلامية. وبعدما ثقّف نفسه بنفسه، انتج افلاماً دعائية للنظام الاسلامي، ثم اخرج افلاماً حصلت على جوائز عالمية. واثناء زيارتي الى طهران، كان آخر افلامه "نوبتي عاشقي" وقت للعشق محظوراً. كان ماهمل باف معتداً بنفسه ويشعر بالأذى الى درجة تمنعه من الكلام. وتحدث ناشر ادبي، يعمل في هذا المجال من ايام الشاه، عن التغيرات التي طرأت على صعيد النشر منذ الثورة: "انها الان بيئة جديدة. هناك جمهرة واسعة من القراء. قراء جادون. وهناك كتاب جيدون، وكثرة من المترجمين الممتازين. انه حلم الناشر. لدينا مئة كتاب يمكن ان اطبعها غداً". كنت سألته: "كيف تفسّر هذه الموجة من النشاط؟"، فأوضح انها "ترجع الى الثورة، وعلى رغم الحكومة". جرت هذه اللقاءات في 1991، في آخر زيارة قمت بها الى ايران. وكتبت عن الموضوع آنذاك، وإن يكن بحذر خشية ان اُعرّض الى الخطر الاشخاص والاماكن التي زرتها في 16 و 23 و 30 حزيران يونيو و 14 تموز يوليو 1991. كان التوتر بين الراديكاليين والاصلاحيين يتصاعد حينها، لكن ايران بدت على عتبة نهضة ثقافية اعمق مما عرفته منذ قرون. وكان النشر يشهد انتعاشاً على رغم حظر مئات المخطوطات او مجرد حجزها من قبل مراقبي المطبوعات. طهرانالمدينة الوحيدة في العالم التي شاهدت فيها طوابير تصطف امام محلات بيع الكتب. ويمكن للمرء ان يجد داخلها رفوفاً تمتلىء بترجمات الى الفارسية من اعمال بلغات اجنبية - العربية والانكليزية والاسبانية والفرنسية والروسية. فيمكن الحصول على الاعمال المترجمة لكاتبات اميركيات لا يُعرفن الاّ بالكاد، على سبيل المثال جين رايس وفيودرا فيلتي. كما كان المشهد الفني اكثر حيوية مما شهدته في اي مكان اخر في الشرق الاوسط. كان هناك ثلاثة معارض فنية في طهران في العقد الاخير من حكم الشاه، وكانت كلها برعاية الاميرة اشرف الشقيقة التوأم للشاه. وفي 1991، عندما بدأت ولاية الرئىس هاشمي رفسنجاني، كان هناك 14 معرضاً، كلها معارض خاصة ولا ترعى السلطة اياً منها. وكانت الموسيقى تشهد تحولاً ابداعياً عميقاً. وتمتعت السينما الايرانية بقدر من التساهل الرسمي. فقد سُمح للافلام المقبولة رسمياً ان تساهم في مهرجانات عالمية. وحصل كثير منها على جوائز ولقي معظمها إشادة سخية من النقاد. ونشرت صحف ومجلات اميركية واوروبية مقالات نقدية ايجابية عن افلام ايرانية. واصبح القول بان "ايران فجّرت مرة اخرى مفاجأة كبرى ..." اشبه باللازمة. مع ذلك، لم يسأل احد قط ماذا كانت تعنيه هذه الافلام في ما يتعلق بوضع الثقافة في ايران. فالافلام هي بأي حال نتاج لمسعى جماعي. والانتاج السينمائي الجيد يتوقف على توافر النصوص والممثلين والمؤلفين الموسيقيين والمصورين والمحررين والفنيين الجيدين، وقبل كل شيء على وجود جمهور كبير وواعٍ من المشاهدين. وتعكس الافلام بشكل تراكمي حال الفن والادب ومؤشرات المستقبل في مجتمع ما. لكن ظل العالم عاجزاً عن ادراك مغزى الاشارات التي تأتي من ايران، حتى فاجأه الفوز الانتخابي الخاطف لخاتمي. ركز العالم انتباهه على الدولة الايرانية بينما تجاهل المجتمع. وكان هناك انشغال كامل بالسلطة بدلاً من العمليات. وأرتكب هذا الخطأ ذاته - واحسب انه لا يزال يُرتكب - من قبل الراديكاليين الاسلاميين في ايران الذين يسيطرون على مؤسسات النفوذ والمحسوبية. واذا انتبهوا الى ذلك اطلاقاً فانهم كانوا يفترضون بان النهضة الثقافية محصورة في اقلية من المثقفين معزولة عن الاتجاه السائد في المجتمع. لكنها، في الواقع، كانت ذات قاعدة عريضة تضم ملايين الايرانيين. وساهمت عوامل عدة في هذه الظاهرة: اولاً، تزايد عدد السكان المتعلمين في ايران بشكل كبير. فبفضل سياسة النظام الاسلامي تمكنت اعداد كبيرة من الشبيبة الريفية والعمالية من الحصول على تعليم ثانوي، واصبحت القاعدة الاجتماعية للتعليم اكبر من نظيرتها في معظم او ربما كل البلدان الاسلامية. ثانياً، تجدر الاشارة الى ان النظام التعليمي في ايران يمتاز بكونه عصرياً في تأكيده على العلم والعلوم الاجتماعية المعاصرة، ويشجّع لدى الطلبة عادة القراءة والتقصي. ثالثاً، يكتب المثقفون الايرانيون وينطقون باللغة الفارسية، وواسطة التعبير لا تزال ايرانية. وجمهورهم، بخلاف كتاب جنوب آسيا الناطقين باللغة الانكليزية، ليس اجنبياً بل انه جمهور ايراني متزايد. هكذا، فان صلاتهم بالحياة والواقع الايرانيين ليست دخيلة. رابعاً، سعى النظام الاسلامي الى تغيير الثقافة في ايران، وفي هذا السياق لم يشجّع الاطلاع حتى على اعمال شعراء من القرون الوسطى يحظون بشعبية، مثل الفردوسي وحافظ اللذين كانت اعمالهما تحتل مكانة محورية على صعيد الهوية وعلم الجمال الايرانيين. من الطبيعي اذاً ان يصبح التذمر الشعبي مرتبطاً بشكل تدريجي بقضية الحرية الثقافية. هيّأت حملة خاتمي الانتخابية الاطار ل "ظهور" ايران الاخرى. فبوصفه رجل الدين الذي ايد اعطاء حرية اكبر عندما كان وزيراً للثقافة واُقصي من منصبه بسبب ذلك، ساد الاعتقاد بانه قادر على اعطاء دفعة كبيرة لأجندة رفسنجاني الداعية الى الانفتاح. ولقيت تأييداً واسعاً وعوده الانتخابية باجراء اصلاحات من داخل النظام الاسلامي وتطبيق حكم القانون ووضع حد لانتهاك الحرية الشخصية وحقوق الانسان والانفتاح على العالم وخلق "بيئة آمنة" يمكن فيها "للجميع، بما في ذلك المعارضين الذين يحترمون القانون، ان يتمتعوا بحريتهم". والهب الحماس تأكيده على "الترويج للمجتمع المدني والمثل التقدمية للاسلام ... وتكافؤ الفرص للنساء"، خصوصاً وسط الناخبين الشباب والنساء. واكتسبت حملته الانتخابية سمات حركة جماهيرية امكن بفضلها، حسب تعبير احد المعلقين الايرانيين، ان "يتلاشى الخوف ويعزز الناس الثقة بانفسهم". ويجسّد المزاج الجديد ما يطلق عليه الايرانيون حالياً "ثورة كرة القدم". حدث ذلك في تشرين الثاني نوفمبر الماضي عندما فاز الفريق الايراني على خصمه الاسترالي في مباراة متكافئة، ليتأهل الى مباريات كأس العالم لكرة القدم. وكان هذا اول فوز من نوعه منذ الثورة. كما ان مدرباً برازيلياً عُيّن، تحت ضغط شعبي، بدل المدرب الايراني وأثار الانتصار حماس المواطنين وفرحتهم. وانطلقوا يرقصون في الشوارع، بينما وزع الخبازون الحلوىات والفطائر، واُغلقت المحال التجارية، واخرجت ربات البيوت الحلوى، وسمحت بعض النساء لشعرهن ان يتدلى. وجرى تجاهل عناصر "حزب الله" و"البسيج" عندما حاولوا التدخل. وفي الملعب المخصص للذكور وحدهم ويستوعب 100 الف شخص، شاركت في استقبال الفريق ايضاً 5 الاف امرأة، طالبن وحصلن على جناح خُصّص لهن. ونقلت وسائل الاعلام عن الروائي المعروف محمود دولة ابادي قوله ان "المرة الوحيدة التي شهدت فيها تفجر مثل هذا الفرح كان خلال الثورة ذاتها". من المحتمل ان يواجه التأييد الشعبي للتغيير اختباراً قاسياً في وقت قريب. فحماة الوضع القائم يستعدون لمواجهة حاسمة. في 29 نيسان ابريل الماضي، اُعتقل بعض المدرسين واصحاب المتاجر في نجف اباد، مسقط رأس اية الله حسين علي منتظري، لمشاركتهم في اضراب احتجاجاً على ما يتعرض اليه من اضطهاد. وفي اليوم نفسه حذر قائد الحرس الثوري الجنرال يحيى رحيم صفوي في تصريح ادلى به في مدينة قم من "الصحف التي تهدد امننا القومي" و "الليبراليين الذين دخلوا المعركة بمدفعية ثقافية. لقد استولوا على جامعاتنا وشبيبتنا وهم يصرخون الان بشعارات ضد الاستبداد ... نحن نسعى الى اجتثاث العناصر المناهضة للثورة اينما كانت. علينا ان نضرب اعناق البعض ونقطع ألسنة اخرين. لغتنا هي سيفنا". وكما لو ان هذا لم يكن كافياً، اشار الجنرال صفوي تحديداً الى وزير الثقافة اية الله مهاجراني ووزارة الداخلية، التي يقودها شخص اخر من حلفاء خاتمي، باعتبارهما المتهمين الاساسيين. يمنع القانون الايراني الجنرال من التدخل في السياسة. واذا لم يُعزل من قبل ولي الفقيه فان ذلك سيبعث باشارة خاطئة.