لم تجب عملية التغيير الحكومي على جميع الاسئلة الموجودة في ذهن السوريين من سنوات، لكن تشكيل الدكتور محمد ميرو حكومة جديدة بعد "استقالة" حكومة المهندس محمود الزعبي، غيّر من طبيعة هذه الاسئلة، ونقلها الى مستوى آخر تفصيلي في بعض الأحيان وعمومي في احيان اخرى. وتتعلق "الاسئلة السورية" بمسائل فرضتها تطورات داخلية واقليمية ودولية واصبحت الاجوبة عنها اكثر الحاحاً، مثل: ما هو عمق التغيير الذي سيحصل؟ هل ما حصل هو بداية ام نهاية للتغيير؟ هل يقتصر على الجانب الاقتصادي ام انه سيطال الجانبين السياسي... والاجتماعي؟ ما مدى شمولية الانفتاح الذي تقوم به سورية؟ وما هي القراءة الحكومية الراهنة ل"الانفتاح التدرجي"، وبأي سرعة ستكون "التدرجية"؟ ما هو دور القطاع العام في المرحلة المقبلة، وماهي علاقته مع القطاع الخاص في المستقبل؟ هل سورية جاهزة لدخول العولمة، ومن اي بوابة؟ ماهو الموقف من التكتلات الدولية والاقليمية المطروحة؟ اين القانون من العملية القائمة، وما هو دوره؟ وما هو دور حزب "البعث" سياسياً وتنظيمياً وايديولوجياً؟ هل سيعقد المؤتمر العام بعد مرور 15 سنة على آخر مؤتمر؟ وفي حال عقد ما هي المنعكسات المتوقعة من ذلك سواء ما يتعلق بنتائج الانتخابات او بالعقيدة السياسية والخطاب وحدودهما ومفرداتهما؟ وتفصلياً، ما هو مغزى تشكيل شخص للوزارة وهو ليس عضواً لا في القيادة القطرية ولا في اللجنة المركزية الحكومية؟ وما اثر ذلك على الاداء الحكومي من جهة وعلاقة "البعث" بالدولة من جهة ثانية؟ وما هي الخلفية السياسية والاكاديمية للوزراء ال22 الجدد؟ في المقابل ماذا يعني بقاء وزراء الدفاع والخارجية والداخلية والاقتصاد والمال والكهرباء والنفط؟ وطالما هناك حديث علني عن التغيير الاقتصادي ماهي اسباب بقاء وزيري الاقتصاد الدكتور محمد العماد والمال الدكتور محمد خالد المهايني؟ ويأتي في مقدم هذه الاسئلة، علاقة العقيد الركن الدكتور بشار الاسد بالتغيير الحكومي؟ وما هي التغييرات الاخرى التي ستتبع تغيير الحكومة بعد 13 سنة على وزارة المهندس الزعبي الاولى؟ هل ستطال المؤسسات والادارات ام انه ستصل الى المناصب والمواقع؟ وما هي علاقة كل ذلك بعملية السلام؟ اللافت ان معظم المواطنين السوريين أظهروا اهتماماً مميزاً بما حصل الاسبوع الماضي. والواضح ان كل هذه التساؤلات والمناقشات تأتي تحت المؤسسة الرئاسية. بل ان الرئيس حافظ الاسد اطلق العملية في نهاية الشهر الماضي بإبلاغه ذلك الى اعضاء القيادة القطرية، و ذلك بعد مرور سنة كاملة على بداية ولايته الرئاسية الخامسة، واعطائه حكومة الزعبي الاطار العام لتحركها وادائها تحت عناوين عريضة تتعلق ب"تعديل بعض القوانين المعيقة للاستثمار" و"تطوير مؤسسات الدولة" و"تحديث الادارة" ومحاسبة الذين "فقدوا الحس بالمسؤولية" واجراء عملية "اصلاح اقتصادي" على اساس "التعددية" والتكامل بين القطاعين العام والخاص. ولم يكن اطلاق الاسد العملية واهتمام المواطنين اللافت بذلك، الامرين الوحيدين الجديدين في التغيير الوزاري. بل ان المراقبين لاحظوا حصول جرعة اكبر من الشفافية سواء ما يتعلق بالفترة الحاصلة بين التكليف والتشكيل، وهي اسبوع للمرة الاولى منذ عقود، او ما يخص طبيعة المشاورات التي قادها ميرو 59 سنة مع قادة احزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" التي تضم الاحزاب السياسية المرخصة في البلاد منذ العام 1972، ولقاءاته مع المرشحين الى المناصب الوزارية. وكانت نتيجة هذا واضحة في رفض ترشيح رئيس "حزب الوحدويين الاشتراكيين" السيد فائز اسماعيل وابنه عدنان، وبالتالي إبقاء حقيبة هذا الحزب مع "وزيره" السابق حسام الصفدي، او الغاء حقيبة "الاتحاد العربي الديموقراطي" غسان احمد عثمان لأنه رشح نفسه، او عدم الموافقة على منح حقيبة وزارية للسيد غسان عبدالعزيز عثمان المنشق عن "حركة الاشتراكيين العرب" بزعامة عبدالغني قنوت، والموافقة على طلب زعيم "الاتحاد الاشتراكي العربي" السيد صفوان قدسي ترشيح زوجته استاذة القانون الدولي لتسليمها حقيبة الشؤون الاجتماعية والعمل. ومن المؤشرات الاخرى للشفافية، دخول وسائل الاعلام العربية المقروءة والمسموعة والمرئية بتداول اسماء المرشحين وتحليل خلفياتهم قبل تسميتهم رسمياً، واقدام مسؤولين كباراً على ترشيح بعض الوزراء. وكان من بين ذلك ان "الحياة" نشرت اسم 25 وزيراً قبل تسميتهم مع الاشارة الى الحقائب التي سيطالها التغيير. في وقت تجاوز عدد المرشحين الذين نشرت اسماؤهم في وسائل اعلام اخرى المئة مرشح. غير ان محدودية نسخ الصحف العربية التي تدخل الى السوق السورية، حال نسبياً دون تعريف الرأي العام السوري بخلفيات الوزراء، خصوصاً وان الوسائل الرسمية اقتصر دورها على نشر اسماء الوزراء وصور بعضهم دون ذكر خلفية اي شخص باستثناء رئيس الوزراء الحاصل على دكتوراه في الاداب من معهد الاستشراق في موسكو قبل بضع سنوات خلال عمله كمحافظ في حلب بعد عمله كمحافظ في درعا والحسكة. عودة بورجوازية... وغربية ولم يكن كسر التقليد "البعثي" برئاسة عضو عامل للحكومة الامر الوحيد غير التقليدي. وفي مقابل استمر مسألتي: تمتع رئيس الوزراء بخلفية فكرية اشتراكية والحفاظ على 25 حقيبة ل"البعث" الحاكم منذ العام 1963 وستة للاحزاب "الجبهوية" اذ ان حزب غسان احمد عثمان ليس عضواً فيها اصلاً وكان ممثلاً في الحكومة وخمسة للمستقلين، فإن تشكيلة الحكومة تضمنت تغييرات ذات اهمية في طبيعة التوازنات التي تتضمنها. ويُسجل في هذا السياق ان اربعة وزراء كانوا زاروا الولاياتالمتحدة في اطار "برنامج الزائر الدولي" هم وزراء الدولة حسان النوري والتعليم العالي الدكتور حسان ريشة والثقافة الدكتورة مها قنوت والنقل المهندس مكرم عبيد. ويضاف اليهم وجود وزيرين في منصبين مهمين درسا في الجامعات الغربية. واول هذين الوزيرين هو وزير الاعلام السفير عدنان عمران 66 سنة الذي درس -بعد دخوله الى وزارة الخارجية في العام 1962، العلوم السياسية والقانون الدولي في جامعة كولومبيا الاميركية حيث حصل على درجة ماجستير اضافة الى ديبلوم في العلوم الديبلوماسية. والوزير الثاني هو الدكتور عصام الزعيم 60 سنة الذي يحمل دكتوراه من جامعة السوربون وهو غادر البلاد في العام 1958 للدراسة والعمل في مؤسسات وجامعات دولية بينها "البرنامج الانمائي للامم المتحدة" ومؤسسات نفطية عربية. ولعل سيرة الدكتور الزعيم تسلط ضوءاً اضافياً على طبيعة التغيير الحكومي والآمال المتوقعة منه. اذ انه ولد في حلب في 2 تشرين الاول اكتوبر 1940، ونشأ على فكر يساري جعله يصطدم مرات عدة مع اسرته البرجوازية الى حد انه "رحب" بعملية التأميم التي حصلت في البلاد وتظاهر مؤيداً لتلك السياسات. وبعد مغادرته حلب في نهاية الخمسينات حصل على عدد من شهادات المجاستير في العلوم الاقتصادية من السوربون، لكن خلفيته اليسارية من جهة وانتماءه الى البورجوازية الحلبية من جهة ثانية، حالا دون تسلمه رئاسة كلية في جامعة حلب، الى ان بدأت البلاد تتجه نحو الاعتدال والتعامل مع جميع المواطنين في بداية السبعينات، الامر الذي ساعده على زيارة سورية مرات عدة، الى ان صار يترك تدريسه في جامعة مكسيكو لتقديم دراسات شاملة عن الاقتصاد والصناعة او قطاعات محددة مدافعاً فيها عن القطاع العام برؤية جديدة، كانت تواجه دائماً بمعارضة من قبل بعض الوزراء والمسؤولين، الامر الذي استدعى تسلمه واحدة من الحقائب الوزارية المفتاحية في هذا السياق. وما سيعطيها اهمية اضافية وجود توقعات من انها س"تخلط الاقتصاد بالسياسة في تصوراتها". ويقدم احد الوزراء ل"الحياة" تصوراته: "ستقوم الحكومة باعداد دراسات تجيب عن اسئلة مثل: ما هو دور القطاع العام؟ ما هي الخطط لاستيعاب نحو 250 الف شخص يدخلون الى سوق العمل سنوياً؟ ما هي تحديات البطالة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؟ اي القطاعات التي يجب ان يركز عليها التعليم؟ ما هو الدور الثقافي والفكري لسورية؟ ما هو دور "البعث" سياسياً واجتماعياً في البلاد في الوقت الراهن وفي المستقبل؟ هل يحقق دوره حالياً وكيف يمكن التحقق من ذلك وتنفيذ الافكار؟ هناك افكار عدة عن التغيرات حولنا، ما هو موقفنا منها؟ ما هي الخيارات المطروحة امامنا؟ هل نحن جاهزون في كل المجالات للسلام؟ هل ننتظر السلام لاجراء التغييرات؟ ماهي مخاصر التأخر في ذلك؟". وزاد الوزير، الذي رفض ذكر اسمه، ان الوزارة "ستعكف خلال سنة على صوغ تصوراتها مكتوبة لتقديمها الى القيادة العليا لتتخذ القرارات المناسبة وتحدد خياراتها في ضوء معلومات ملموسة ومحسوسة". واستدرك: "لا نريد استيراد اي تجربة نريد تجربتنا الخاصة - السورية؟"، لافتاً الى احتمال انعقاد مؤتمر غير علني يضم مئة شخصية نصفهم من المغتربين، يعكفون في اجتماعات غير علنية على وضع تصورات لمستقبل البلاد. ولدى تقديم وزير آخر تصوره، فإنه يشدد ل"الحياة" على ضرورة الوصول "بعد حوار معمق وفعلي الى مبادئ عامة يجمع عليها الجميع ولا يجوز المساس بها، مع ترك المجال لوسائل الاعلام والسوريين بالحديث عن كل شئ". ويزيد: "لا بد من تفعيل دور القانون وحل كل الاشكالات عبر الاقنية القانونية، والعودة في مجالات عدة للتخلص من عدد من المشاكل"، ذلك ان وجود رئيس "محكمة الامن الاقتصادي" نبيل الخطيب كوزير للعدل يساهم في ذلك، مؤكداً على ان الاعلام يلعب "دوراً جوهرياً في ادخال الجميع في العملية، بتحميل الجميع هذه المسؤولية الوطنية ومشاركتهم في العمل. وهنا لا بد من عقلنة التوقعات. هناك مشاكل عندنا مثل اي دولة يجب ان نعترف بها. وهنا ايجابيات يجب تكريسها، لكن تغيير الحكومة لن يحل المشكلة بين ليلة وضحاها، وبالتالي فإن خفض مستوى التوقعات يبعدنا عن شبح خيبة الامل والانكفاء". ولا يحب المسؤولون السوريون الحديث عن وجود تغيير جذري، مفضلين مصطلح "التغيير لاجل الاستمرارية". ومن هنا يفهم التزاوج بين وجود "الرعيل القديم والدماء الجديدة" التي جاءت من "الجمعية العلمية للمعلوماتية" وبعض المؤسسات التي يشرف عليها الدكتور بشار. ومن هنا يفهم دوره في "تزكية بعض الاسماء عندما يسأل عن اي شخص يعرفه". وفي حال وضع هذا التغيير في اطار تقاعد عدد من كبار المسؤولين بقوة القانون في السنوات الاخيرة وحصول تنقلات في بعض المناصب العليا والمهمة وما نجم عن ذلك من تحركات في المؤسسات، يُفهم عمق مسيرة "التغيير في اطار الاستمرارية" خصوصاً وان تلك التطورات حصلت في وقت كانت البلاد تسير خطوات "انفتاحية على الطريقة السورية" اشرف عليها الدكتور بشار بينها ادخال الانترنت والهاتف النقال في مشروعين تجريبيين. وبين عدم وجود اي عضو في القيادة القطرية في السلطة التنفيذية باستثناء وزير الدفاع العماد اول مصطفى طلاس الذي يحتفظ بها منذ بداية السبعينات من جهة، وارتقاء عدد من التكنوقراط والاكاديميين والمسؤولين الصغار في "البعث" من جهة ثانية، صار في حكم المؤكد ان المؤتمر العام للحزب الذي سيعقد بعد مرور 15 سنة، ستعطي انتخاباته ونقاشاته شكلاً اضافياً للتغيير الحاصل. وما سبق ينفي فكرة ان الحكومة موقتة بأسمائها الذين بدأوا بارتقاء السلم.