استضافت قاعات قصر الفنون في مجمع الاوبرا في القاهرة، "المعرض الدولي الثالث لفن الغرافيك"، وهو معرض تقيمه في القاهرة كل ثلاث سنوات وزارة الثقافة، بمشاركات دولية واسعة وخصصت، الى جانب المعرض الشامل، اجنحة لأربعة من ضيوف الشرف هم: منير الاسلام بنغلادش ورافع الناصري العراق وعمر النجدي وحسين الجبالي مصر. وأسوة بما تعارف عليه هذا اللقاء في السنوات السابقة، فقد رافقت معرض هذا العام سلسلة من المحاضرات والندوات التي تعكس تجارب عدد من الدول في مجال فن الغرافيك، او تستعرض تجارب شخصية، فتدور الحوارات والنقاشات وتتصدى للأسئلة الفنية والفكرية التي تثار على خلفية معرض واسع كهذا. شمل المعرض الحالي ما يزيد على الفي عمل لسبعمائة وعشرين فناناً يمثلون سبعاً وسبعين دولة، وأمام هذا الزخم من الاعمال ذات التقنيات المتنوعة، والمنتشرة على امتداد قاعات متصلة ومتداخلة، يحار المشاهد من اين تكون البداية، وكيف انتقاء يمكن الاعمال اللافتة وإظهارها من بين المحطات التي استوقفته. وإذا كان الاستعراض الاول للأعمال يتسم عادة بالسرعة والتعميم، فإن المشاهدات اللاحقة تسمح بالتأني والمراجعة والمساءلة. لذلك كان امام لجنة التحكيم الدولية بأعضائها الاحد عشر مهمة عسيرة وشاقة لإبراز الافضل والاجدر لنيل الجائزة الكبرى، ثم جوائز الترينالي الخمسة المتساوية في قيمتها، لأنها الجوائز التي يتطلب نيلها اكبر إجماع على الرأي والتوافق في وجهات النظر وتبني رؤية شاملة للإختيار. وكذلك الحال لدى منح الجوائز الشرفية، وعددها خمس جوائز، ثم الشهادات التقديرية وعددها عشر شهادات. وعلى العكس من ذلك فإن جوائز التحكيم الاحدى عشرة المتساوية في قيمتها يختارها منفرداً كل عضو من هيئة التحكيم بمزاجه وذوقه من دون نقاش. فن الغرافيك من المصطلحات الفنية التي لم يتم التوصل الى مقابل لفظي مكافئ لها باللغة العربية، نظراً الى سعة المصطلح، وشموله عدداً واسعاً من التقنيات ليس من السهل جمعها معاً في لفظة تدلّ على محتواها فهو فن من فنون التعبير منفتح على الرسم والحفر والطباعة في آن واحد. ومن المعلوم ان فن الغرافيك يقوم على مهارات تقنية عالية، وهو ابداً في تطور يساير التطور التكنولوجي الواسع، غير انه يظل في اساسه يعتمد على مبدأ الانتشار من خلال الطبعات الفنية المتكررة التي ينتجها الفنان. وبسبب هذا الاعتماد الكبير على التقنيات في تنفيذ الاعمال، تكاد الحرفة في الاعمال الغرافيكية تطغى في معظم الاحيان على قوة التعبير، او متانة الفكرة، ووضوح الرؤية، مما يجعل العمل في كثير من الاحيان مبهراً في ظاهره، ومفرغاً من داخله. ولعل من اولويات المنهج الذي انتهجته لجنة الحكيم، كان الابتعاد عن المبهر، والبحث عن جوهر العمل الفني، وشمول رؤيته، وهو المنهج الذي تم الاتفاق عليه وسط اعضاء اللجنة التي شملت ثلاثة ممثلين من مصر، وسبعة آخرين من اميركا وبلجيكا وألمانيا وايطالياواسبانياوالبرتغال واليونان، برئاسة الفنان المبدع محمد عمر خليل سوداني - اميركي. ومع توجه كهذا لا عجب ان تكون معظم الاعمال التي حازت الجوائز الرئيسية في المعرض هي تلك التي اتسمت بالشحنة التعبيرية العالية، والاقتصاد في استخدام الالوان، هذا ان لم تكن ميالة الى الاقتصار على الابيض والاسود. وكانت الجائزة الكبرى من نصيب الفنان الياباني ساتوشي هازيجاوا، الذي قدم تصوراً بالأبيض والاسود لفكرة الهجمة الحضارية الجديدة ممثلة بعاصفة تهز استقرار بيت من البيوت اليابانية التقليدية، والرمز واضح للصراع الثقافي الذي تتعرض له الحضارات. وعلى رغم ان العمل منفذ بالابيض والاسود، الا ان الفنان استخدم تقنيات حديثة عالية. اما جوائز الترينالي الخمس فقد حصل عليها فنانون من ايطاليا وآيسلاند ومصر واسبانيا ويوغوسلافيا، بينما حصل على الجوائز الاخرى: التحكيم والشرفية والتقديرية، فنانون من اسبانيا وألمانيا وايطاليا وايسلاند، وبلجيكا وروسيا والصين والسويد وليتوانيا والمكسيك واليابان واليونان ويوغوسلافيا. ومن الدول العربية فاز ستة من الفنانين والفنانات المصريين توزعت بين جوائز الترينالي والتحكيم فضلاً عن الجوائز الشرفية والتقديرية، وهم محسن عبدالفتاح علام احدى جوائز الترينالي، وطارق مسعد عبدالمجيد، وعبدالوهاب عبدالمحسن جائزة لجنة التحكيم ومحمد عبلة وزينب محمود دمرداش جائزة شرفية، واحمد محي حمزة شهادة تقديرية. وفاز جمال عبدالرحيم، من البحرين بإحدى جوائز لجنة التحكيم، وفاز علي حسن الجابر من قطر بشهادة تقديرية. وجاءت الندوات المصاحبة للمعرض هذا العام من صيغة محاضرات القيت على مدى اسبوعين، شملت تجارب جماعية وشخصية في فن الجرافيك. وقد ساهم في هذه المحاضرات التي كانت تعقد مساء في احدى قاعات قصر الفنون: جوني واكر اليابان، وليونار نازار ناقدة من البرتغال وغسان السباعي سورية ورافع الناصري العراق والقى فنانون وفنانات ونقاد مصريون محاضرات تناولت تجربة الغرافيك المصرية. وتحدث البعض منهم عن التجربة الشخصية، كما تحدث البعض الآخر عن حرية الاداء في فن الغرافيك، وهم: حازم فتح الله ومصطفى كمال ومريم عبدالعليم وسعيد حداية وفاروق شحاتة وفتحي احمد وصلاح المليجي وعبدالوهاب عبدالمحسن ومجدي عبدالعزيز، ومحمد عبلة. من المعلوم ان المعارض المشتركة الكبيرة لا بد وأن تأتي على شيء من التفاوت في المستويات، وطرح الافكار وقوة الابتكار، والتفاوت مسألة نسبية بين معرض دولي وآخر. وهذا ما كان يمكن ملاحظته في معظم الاجنحة، وكان من الملاحظ مثلاً ما اتسمت به بعض الاجنحة من فقر في المساهمة، او ضعف فيها، او وجود تجارب متشابهة ومستهلكة في اساليبها وطرحها. وهي امور قد يعثر عليها المشاهد في اي تجمع عالمي ضخم كهذا. وكان للدول العربية حضور شبه كامل، غير ان غياب بعض التجارب العربية الرائدة في فن الغرافيك ترك في هذا المعرض مساحة فارغة، فضلاً عن ان تمثيل الدول العربية لم يكن تمثيلاً وافياً لجميع التجارب الجيدة فيها، بل ان معظم الاجنحة العربية، بإستثناء مصر، كانت تشكو من نقص المساهمات، مما ترك مجالاً لإحتلال اسماء ثانوية لا يمكن ان تعكس الصورة الحقيقية لهذا الفن الذي اصبح موضع اهتمام الفنانين العرب وإبداعهم. ولعل بعض ذلك يعود لأسباب تتعلق بطبيعة الدعوات، والبعض الآخر بعدم استجابة الفنانين لسبب أو لآخر. فمع الوضع العربي المشتت اليوم، وانتشار الفنانين العرب في شتى اصقاع الارض، قد يصعب الاهتداء الى الكثير من تجارب فناني الشتات، فضلاً عن التجارب الجادة التي تتزايد في جميع الدول العربية، ولا بد من تكاتف الجهود من جميع الاطراف للم الشمل. لعلّ ما يميز فكرة اقامة المعارض الدولية في عواصمنا العربية انها تجسد اعلى درجات الحوار بين ثقافات وحضارات متنوعة، كما انها تسمح للمشاهد، الذي قلما تتيسر له فرص الاطلاع على تجارب العالم، بالتعرف الى تجارب الفنانين المتنوعة ورؤاهم مجتمعة، الى حد ما، في معرض واحد. ومن هنا فلا بد من خلال المقارنة ان يظهر شيء من الاختلاف في تعبير فناني هذه الامة عن غيرها. وقد تبدأ رحلة البحث عن فروق جوهرية او سطحية، وقبل الدخول في البحث عن الاختلافات في التعبير لا بد من الوقوف على التقارب الكبير الذي يجعل من هذه الاعمال على اختلاف مصادرها ترتبط بلغة بصرية مشتركة الى حد كبير، مما يجعلها تنتمي الى القبيلة الواحدة، والهمّ الانساني الواحد. وما الاختلاف الا في تشكيل الملامح الخفية التي تميز هذا الفنان وسلوكه عن الآخر. ولعل بحثاً خفياً شاقاً كهذا يجعلنا وجهاً لوجه امام سؤال الهوية، او الخصوصية في التعبير، ويدفعنا الى التساؤل امام هذا التنوع الواسع في الطرح والمعالجة: او ليس ما يتخلل العمل الواحد من لمس وهمس وسلوك هو الخصوصية التي تميز تجربة عن تجربة اخرى، كما تتميز الشخصية الواحدة عن غيرها من الشخصيات؟ لقد تنوعت مواضيع المعرض واتسعت لتشمل كل شيء: من تكوينات الحياة الجامدة، والمشاهد الواقعية مروراً بالتعبيرية التشخيصية والتجريدية حتى التجريد المحض، وما بين الاقتصار على الابيض والاسود الى اوسع استخدام للألوان والاحبار، ومن الحرية المطلقة في المعالجة الى التحكم الصارم في تنفيذ الاشكال. اما التقنيات فقد شملت كل ما توصل اليه فن الغرافيك من وسائل تقليدية وحديثة خلال القرن العشرين، بإستثناء الاعمال المنفذة بواسطة الكومبيوتر. فالمشاهد امام هذا الزخم من فناني العالم الواسع كثيراً ما يمر بتجارب قليلها يستوقفه ويشدّه فن طرافة ابتكاره وقوة آدائه، وكثيره يبدو مألوفاً وقريباً من بعضه البعض الى حد التشابه احياناً. غير ان الوقوف امام اجنحة كالياباني والمكسيكي مثلاً او بنغلاديش، يدعو الى التأمل في ذلك السر الذي جعل هذه الاعمال عامة تقف على شيء من التمايز عن غيرها ظاهراً وباطناً. فمبدعو هذه الاعمال ايضاً يستخدمون التقنيات الغربية، ويتبعون اساليب التعبير الغربية الحديثة، ولكنهم يحتفظون بخيط واضح من نسيجهم المحلي ان جاز لي التعبير. لا شك ان في الاجنحة العربية اعمال تشي بخصوصيتها الشرقية، ببعض نكهتها المحلية ذات المناخ اللاسع بحرارة شمسه، وترقرق وجهه او حدة مزاجه، ولكنها اعمال مشتتة غير كافية لإبراز ملامح بيّنة. فهل يمكن للتجمعات الفنية الكبيرة ان تطرح على الفنانين العرب بعض اسئلة التميز، وتطالبهم بالمغامرة بروح الابتكار والغوص في الذات الى مدى ابعد. لا شك ان ترينالي مصر الدولي لفن الغرافيك تظاهرة عالمية يستحق منظموها كل تقدير، ولاسيما الفنان المبدع احمد نوار، منشئ الفكرة ومحركها الرئيسي. وأن هذه التجمعات الشاملة منها والمتخصصة التي تقام على ارض عربية، مهما اعتورها من نواقص شكلية، تظل في غاية الاهمية، فمن خلال الفنون البصرية يمكن تحقيق ارقى اشكال الحوار بين الثقافات، وأبلغه لغة، وأكثره تحدياً.