ساهم السفير الفرنسي، آلان دوجاميه، في صياغة الملف العراقي في مجلس الامن للسنوات الاربع الماضية وعُرف عنه عمق معرفته بالملف وصراحته عند الحديث عن تفاصيله. وعشية مغادرته منصب سفير فرنسا لدى الاممالمتحدة ليتسلم مهمات تمثيل بلاده لدى الفاتيكان، اجرت "الحياة" حواراً مع دوجاميه ركز حصراً على الملف العراقي بحاضره وآفاق مستقبله. وهنا نص الحديث: بعد تعاطيك مع ملف العراق في مجلس الامن لاربع سنوات، كيف تقوّم المرحلة المقبلة؟ هل سيستمر الوضع الراهن او ان نقلة ستحصل في الملف؟ - اخشى ان الوضع الراهن سيستمر الى امر بعيد. فالعراقيون ليسوا في مزاج الموافقة على تطبيق القرارات كما نعرفها، وهناك قدر كبير من الشكوك لدى بعض اعضاء المجلس. ولذلك، اخشى ان الوضع الراهن سيستمر. نحن، بالطبع نبذل الجهود لاقناع العراقيين بأن من مصلحة الجميع الاستفادة من القرار 1284 واستطلاع الاحتمالات الواردة فيه. لكن مهمتنا صعبة، وستبقى كذلك. يقول العراقيون ان القرار غامض وليس واضحاً لهم ما هي الخطوات التي تؤدي الى ماذا. يقولون ان النتيجة النهائية مجهولة، وان لا حوار بين المجلس والعراق وان السياسة الاميركية هي التي تهيمن على سياسة المجلس. اترى مبالغة في هذه المواقف؟ ام ان فيها منطقاً؟ - الحوار قائم بين بعض اعضاء المجلس والعراق، والامر عائد الى العراقيين في محاولة زيادة وتعزيز هذا الحوار. ادرك ان الامر ليس سهلاً على العراقيين لأن بعض اعضاء المجلس يتمسك بالعناد وليس راغباً في اقامة مثل هذا الحوار. الا ان اقامة الحوار يشكل مفتاحاً لتحسين الوضع، من ناحية امن المنطقة ومن ناحية الفائدة للشعب العراقي. ولذلك نحن نأمل ونتمنى التقاط اية فرصة كي يقام الحوار مع العراقيين. فالحوار ليس حصراً مسؤولية العراقيين، بل هو ايضاً عائد الى مجلس الامن الذي عليه ان يبذل جهداً. لماذا لم تبذلوا جهداً في هذا الاطار مع اصدقائكم في المجلس، البريطانيين مثلاً الذين لكم علاقة وثيقة معهم وعملتم معاً لتيسير تبني المجلس القرار 1284؟ - حاولنا ترغيبهم وحثهم على مثل هذه القراءة للقرار 1284 وللوضع في المنطقة. فنحن على اقتناع بأن مصلحة المنطقة ومصلحة الشعب العراقي تقتضي التغلب على الشكوك والدخول في حوار. حاولنا. وانت على حق في الاشارة الى البريطانيين بالذات نظراً لخبرتهم الطويلة في منطقة الخليج ومعرفتهم لمزاج المنطقة وشعوبها مما يمكنهم من فهم الوقائع والقيام بما نقوم به، واعني بذلك الحفاظ على الدرجة الضرورية من اليقظة في الناحية الامنية، ولكن مع الاهتمام في الوقت ذاته بالشعب العراقي. وعندنا امل في هذا المجال. ما الذي يجعلكم متفائلين؟ - لاننا نعتقد بأن البريطانيين منطقيون وهم يدركون، على رغم الخطاب التقليدي الذي يركز على الحاجة الى حماية الجميع من حروب وتهديدات القيادة العراقية، ان شعوب منطقة الخليج يهتمون في العمق باخوانهم في العراق. ما هي قراءتك لما يشكل خلاصة المواقف البريطانية من العراق. - انها التأكد القاطع من ان العراقيين لا يحاولون اعادة بناء امكاناتهم العسكرية. وهذا ممكن. اما اذا ارادوا العثور على المستحيل، مثل ضمانات مئة في المئة في شأن برامج التسلح السابقة، فهذا اصعب بكثير. واذا كانت خلاصة المواقف ان نحاول الا نسمح للعراق باعادة بناء ترسانة الاسلحة، فان ارضية التعاون مع البريطانيين موجودة. وهل هذا وارد، علماً ان المواقف البريطانية والاميركية بقيت متقاربة بينما يعرف ان خلاصة المواقف الاميركية مختلفة عن ما في ذهنكم؟ - هذا يشكل المشكلة في الوضع القائم. لكن البريطانيين، عند العمل على مشروع القرار 1284، اخذوا بكثير من مواقفنا ولكن، للأسف، ليس للدرجة التي تمكننا من دعم القرار فامتنعنا عن التصويت عليه بسبب انطوائه على الغموض في شأن ما هو المطلوب لتعليق العقوبات. ما هو افق التحرك في الملف العراقي امام المواقف الاميركية والعراقية؟ هل التحرك ممكن اذا ما بقيت المواقف على ما هي عليه؟ - صعب جداً هذه السنة لأن الولاياتالمتحدة في سنة انتخابية. انما في الوقت ذاته، وربما بسبب هذا الوضع، نرى اننا على حق كامل في اصرارنا على اهمية استمرار التعاون الفرنسي - البريطاني. فاذا قارنا بين المواقف الاميركية بداية السنة الماضية وبين النتيجة النهائية في كانون الاول ديسمبر، وجدنا ان تزحزحاً مهماً حدث في المواقف الاميركية. وهذا التزحزح لم يأت نتيجة الضغوط الفرنسية وانما جاء في معظمه بسبب الجهود والمواقف البريطانية. ولذلك، وعلى رغم ان من المستبعد ان تجد حركة رئيسية في الملف العراقي، سيما في هذه السنة الانتخابية، نأمل بأن يؤثر العمل المشترك بين فرنسا وبريطانيا تأثيراً منطقياً في المواقف الاميركية ليدرك الديبلوماسيون المعنيون ان الوقت حان لمواقف مختلفة. انظري الى تقرير البرلمانيين البريطانيين، الناقد للعقوبات الشاملة… لا بد له ان يترك اثراً على الديبلوماسية البريطانية. وربما ستترك مواقف اكثر من 60 عضواً في الكونغرس الاميركي من هذه المسألة اثراً. وفي اعتقادنا، هناك امكانية للتوعية في الساحتين البريطانية والاميركية. سمعتَ ما قاله نائب الرئيس العراقي، طه ياسين رمضان، من انكم تضحكون على انفسكم اذا اعتقدتم بأن العراق سيسمح بعودة المفتشين. رئيس لجنة التحقق والمراقبة والتفتيش انموفيك هانز بليكس يعد خطة العمل الآن. ماذا سيحصل اذا واصل العراقيون رفض عودة المفتشين؟ - الكثير من الادانة الشفوية وتعابير الاحباط من عدم فائدة البحث مع العراق. ولقد مررنا في مثل هذه المرحلة والاجواء عندما رفض العراقيون القرار 986، ثم بعد الاصرار والعمل لعدة اشهر، وافقوا ليس على القرار ذاته ولكن على تنفيذه. نوعيتا القرارين مختلفتان تماماً. فالقرار 986 تناول النواحي الانسانية اما القرار 1284 فيتحدث عن عودة عمليات المراقبة والتفتيش في برامج التسلح العراقي. هل سيؤدي ذلك الى اتخاذ اجراءات عسكرية؟ - معك الحق. ولذلك، ربما تكون ردة الفعل وانفجار الغضب والدعوة الى اتخاذ اجراءات اكثر حدة. انما في الوقت ذاته، لست متأكداً ان الفكرة هي التحرك فوراً الى اتخاذ اجراءات قسرية. سيكون هناك حاجة للتفكير العميق في كيفية ضمان عودة المفتشين الى العراق، وافضل الوسائل هي في القرار 1284. فاذا رفض العراقيون رفضاً قاطعاً تنفيذه، سيكون هناك بالتأكيد كثير من المشاورات بين العواصم، وكثير من الغضب، فيما سيحاول عدد من الدول المسؤولة ضمان استمرار عمليات التفتيش اولاً عبر الوسائل الديبلوماسية. قال وزير خارجية فرنسا قبل شهر تقريباً في الرياض، حسب ما اعتقد، ان منطقتي حظر الطيران المفروضتين في شمال وجنوب العراق ليست لهما قاعدة قانونية شرعية من مجلس الامن. هل تعملون على هذه المسألة مع البريطانيين والاميركيين أم اوزير الخارجية قال ما قاله واكتفى؟ - مسألة فرض حظر الطيران مسألة مختلفة لها علاقة بمعاملة قطاعات من الشعب العراقي وليست مرتبطة بهدفنا الاول وهو ضمان عدم امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل. منطقتا حظر الطيران فرضتا لاهداف مختلفة. اما هنا في الاممالمتحدة، فان اهتماماتنا لها اولويتان: ازالة اسلحة الدمار الشامل في المنطقة، ومصير الشعب العراقي. لو قلت لك ان قراءتي للاوضاع تجعلني اعتقد بأن الادارة الاميركية المقبلة، جمهورية كانت ام ديموقراطية، ستتخذ، ربما في غضون ستة اشهر، اجراءات التوقف عن فرض منطقتي حظر الطيران، هل توافق على قراءتي؟ - حقيقة الامر اني لا اعرف وقد لا احسن قراءة المزاج الاميركي وتوقعاته. هل زوال المنطقتين في رأيك سيساهم في كسب التعاون العراقي مع القرار 1284؟ - اعتقد بأن افضل الوسائل للحصول على التعاون العراقي المعقول هي اولاً في التركيز على وسائل تحسين لجنة العقوبات. فاذا وجد العراقيون ان اللجنة تتعاطى مع الطلبات والعقود بصورة اسرع سيشعرون بأن المزاج والاجواء تتبدل وتتغير في مجلس الامن، وسيكون افق التعاون اوسع وفي اعتقادي ان الموضوع الرئيسي ليس منطقتي فرض حظر الطيران وانما هو كيفية تعاطي لجنة العقوبات مع العقود. لنكن جديين بلا شك اننا عندما ندقق في بعض تفاصيل العقود وسياسة تعليقها نجد ان بعض قرارات التعليق لا تساهم الا في زيادة وتعزيز الاحباط لدى العراقيين. وهذا بدوره يؤثر سلباً في جهود التعامل العقلاني من جهة الذين يريدون مثل هذا التعامل من العراقيين. دعني اضع امامك طرحاً يقول ان المواقف الفرنسية من العراق ادت الى تشجيع المسؤولين العراقيين على العناد، وان فرنسا، ايضاً، متقلبة في مواقفها لا تماسك في سياساتها، وهذا يسيء الى الملف العراقي بدلاً من مساعدته. ما ردك على ذلك؟ - ما زلنا نعتقد بأن تنفيذ القرار 986 حسّن اوضاع الشعب العراقي فيما وفّر عناصر ابتدائية امنية في المنطقة. ونحن الطرف المسؤول في الدرجة الاولى عن تشجيع العراقيين على فهم وتنفيذ ذلك القرار. وهذا كان متماشياً تماماً مع موقفنا الدائم وهو الجدية الكاملة في شأن ازالة اسلحة الدمار الشامل، ولكن مع التعبير عن فهم للوضع في المنطقة. وهذا ليس سهلاً اذ ان هذين خطان منفصلان لكنهما متماشيان وهما: الحاجة الامنية والحاجة لتحسين وضع الشعب العراقي. نحن دافعنا عن هانز فان سبونيك، منسق برنام الاممالمتحدة الانساني في العراق، الذي استقال احتجاجاً على اثر العقوبات الشاملة على الشعب العراقي لاننا نعتقد بأنه قام بمهماته بصورة رائعة. لكن هذا لا يتنافى ابداً مع التزامنا بالاولوية الامنية. واكرر، الاولويتان هما الأمن ومصير الشعب العراقي. نحن لا ننسى ان العراق كان دولة ديناميكية حديثة ذات اكتفاء ذاتي، وما زال يمتلك امكانية استعادتها، ونحن نود ان يتمكن الشعب العراقي من الاستفادة من ثروته الوطنية. علاقة فرنساوالعراق الثنائية باردة نسبياً في هذه المرحلة، بلا زيارات ينقصها الدفء. لماذا؟ - لأننا نتحدث بصراحة كاملة مع العراقيين. وهم يدركون اننا، شأننا شأن اية دولة اخرى دائمة العضوية في مجلس الامن، حريصون على ضرورة تنفيذ العراق للقرارات. وفي بعض الاحيان نضطر الى التحدث بلغة قاسية. ولقد شعرنا بخيبة امل، منذ سنة ونصف سنة عندما رفض العراقيون رسالة بعث بها اليهم رئيس مجلس الامن في تشرين الاول اكتوبر 1998. وقد اوضحنا لهم اختلافنا معهم. ومن جهتنا نعتبر ان التحدث مع العراقيين بصراحة يعكس احترامنا لهم. ونحن نستمع الى وجهة نظرهم، وندخل في حوار معهم، ونصغي الى ما يقولونه، ونأخذ في الحساب مذكرة التفاهم التي وقعوها مع الامين العام والتي تنص على ضرورة احترام الشعب العراقي. ولذلك، نحن نتصارح معهم ولكن مع استمرار احترامنا للأمة العراقية. هانز بليكس مرشح فرنسا للمنصب. ماذا على بليكس ان يفعل، في رأيكم، كي يكسب الفرصة الاكبر لتعاون عراقي معه؟ - سيكون عليه ان يشرح اهداف القرار 1284 كاملة وان يقول لهم انه في حال تعليق العقوبات، كما نأمل، سيطرأ تغيير حقيقي على الوضع وقد يكون ذلك عبارة عن نهاية سياسة الشكوك. فتعليق العقوبات قد يكون نقطة التحول في الاجواء بين مجلس الامن والعراق. انظري الى ما حدث مع ليبيا التي كانت وُضِعت في خانة الدول المنبوذة. فمنذ تعليق العقوبات اختلفت الامور اختلافاً كبيراً جداً. السيد بليكس سيكرر للعراقيين ان عودة المفتشين اساسية. واذا تمكن في الوقت ذاته من اقناع العراقيين بأن تعليق العقوبات هو في مصلحتهم، فعندئذ يوجد امل بكسب تعاونهم. هل يعتمد الامر على ما سيفعله بليكس في 45 يوماً من تسلمه مهماته، ام ان الحسابات العملية تؤخر ساعة الحسم الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة؟ - ليس في غضون 45 يوماً. فالعملية ستكون عملية مطولة تستغرق اسابيع وشهوراً… الوضع الراهن ليس مطمئناً ولا هو وضع جيد، وعلينا ان نكون واقعيين ونتوقع استمراره لفترة. ولكن علينا ايضاً ان نبذل الجهود وندعم السيد بليكس في محاولات اقناع العراقيين بأن تعليق العقوبات طبقاً للقرار 1284 سيؤدي الى اجواء جديدة، مختلفة كلياً، لجهة العلاقة بين العراقوالاممالمتحدة. وتعليق العقوبات ممكن عبر هذا القرار الذي يشترط تعاون العراق مع لجنة انموفيك ورئيسها بلكيس. يقول بعض العراقيين ان مجلس الامن وعد ليبيا برفع العقوبات واكتفى بتعليقها، وان القرار 1284 لا ينص على ولا يشير الى رفع العقوبات في نهاية المطاف، ولهذا المخاوف منه. اترى مبرراً لهذا الطرح؟ - انظري الى نوعية العلاقة والتغيير في الاجواء بين ليبيا والاممالمتحدة، على رغم ان التعليق تم ورفع العقوبات لم يحصل بعد. اني اعتقد بأن الشيء نفسه سيحدث، لجهة النقلة في العلاقة، اذا وصلنا الى تعليق العقوبات المفروضة على العراق. فالتعليق من شأنه ان يؤدي الى رفع العقوبات اذا احسن العراقيون التصرف والسلوك. وماذا يعني "حسن السلوك"؟ تنفيذ المطلوب لجهة ملف التسلح والمراقبة الدائمة، ام هل يجب ان ينطوي على اجراءات اخرى كمعالجة ملف الاسرى والمفقودين والممتلكات؟ - على العراقيين ان يفعلوا شيئاً في صدد ملف المفقودين. المشكلة الاساسية تكمن في حجم الشكوك الضخمة، والشكوك لا بد لها ان تتعزز ما دام العنصر الانساني، مثل مصير المفقودين، لم يعالج. لذلك تفكيرنا في فرنسا هو اننا اذا تمكنا من ضمان قيام عمليات تفتيش عادلة في العراق، واقامة قنوات حوار مع العراقيين، ستتحسن الامور بصورة ملحوظة. والامر ليس سهلاً وقد يستغرق شهوراً. القرار 986 استغرق اكثر من سنة رفض قبل الموافقة على تنفيذه. نحن نفضل ان يتم تنفيذ 1284 بصورة اسرع وفي فترة زمنية اضيق واقصر. لكن العراقيل والمصاعب امامنا ليست ثانوية، انما لن تؤدي بنا الى الكف عن بذل الجهود الحثيثة وتكرار محاولات الاقناع.