قلنا في آخر الحلقة الماضية أن مخطوطة "كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" تكشف عن التجارب الغنيّة لأحمد بن ماجد في البحار والمحيطات، نظرياً وعملياً، وأن الكتاب قد أفاض في الحديث عن الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي وأرخبيل جزر الهندالشرقيةوالبحر الأحمر، ونوّهنا بإشارته الحاذقة الى أن البحر الأحمر هو امتداد للبحر الأبيض المتوسط، وأنه أوطأ منه قليلاً وأعمق منه، وأن الفاصل البرّي بينهما يمكن أن يُفتح ليلتقي البحران تسهيلاً للملاحة بدلا ًمن الدوران حول رأس الرجاء الصالح الذي كانوا يسمّونه "الجبال القُمْر"، وهي الرؤية التي تحققت بعد زمن طويل بافتتاح قناة السويس، ولكن ليس على أيدي العرب. وإضافة الى ذلك فان هذا الكتاب مقسّم الى اثنتي عشرة "فائدة" وتمثّل كلّ فائدة قسماً أو فصلاً أو باباً في الكتاب، بحسب مصطلحات اليوم. * الفائدة الأولى في تاريخ الملاحة البحريّة، وتطوّر آلاتها بما فيها الإبرة الممغنطة. * الفائدة الثانية في ما يجب معرفته على المعلِّم الأصيل من الشؤون البحريّة التي يطلق عليها ابن ماجد أحياناً "طبائع البحار" وكأنها كائنات حيّة، أو كأنّه من شدّة حبه لها يتصوّرها كائنات حيّة لكل منها "طبائعها" الخاصّة التي يجب التلاؤم معها أو ملاعبتها. فالمخاطر البحريّة عنده ليست أكثر من مداراة البحار ومداورتها. * الفائدة الثالثة في تحديد منازل القمر، وابن ماجد يراقب تحوّلات القمر منطلقاً من قوله تعالى "والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم"1. وتتضمن هذه الفائدة أيضاً، أو قل هذا الفصل، ما يرافق التغيّرات التي تطرأ على منازل القمر من رياح وأنواء وتغيّر طبيعة البحر، فكأن ابن ماجد قد حدّد العلاقة بين الظواهر الطبيعيّة وترابط بعضها ببعض. وإذا كان الانسان قد اكتشف أن ظاهرة المدّ والجزر لها علاقة بظهور القمر، فانّ تفسيراً علميّاً لتأثيرات القمر على الماء وطريقة التجاذب أو التنافر بينهما لم يظهر الى الآن. ومثل هذا بقيّة الظواهر التي رصدها ابن ماجد والتي لم يُشر اليها أحد قبله، كالعلاقة بين القمر والرياح في هبوبها أو في سكونها، والتغيرات التي تطرأ على سرعتها من منطقة الى أخرى، وعلاقة تلك التغيرات بطبيعة المناطق ذاتها، ما قد يشير ربما الى تفاوت القوى المغناطيسيّة لقيعان البحار أو الشواطئ من مكان لآخر، وعلاقة ذلك بما لاحظه ابن ماجد من أنّ تلك التبدلات تتزامن مع تغيّر منازل القمر، مما يستدعي مزيداً من الاهتمام بهذه القضايا العلميّة التي مرت على رصدها قرون وما زالت من غير تفسير كافٍ. * الفائدة الرابعة: وهي التي تتحدّث عن الرياح تفصيلاً، بأنواعها واتجاهات هبوبها، وأوقات هيجانها وسكونها، ومتى تردّ على أعقابها بتغيّر مفاجئ لمسارها، مع التذكير ببعض ما مرّ في الفائدة الثالثة. واذا كان ابن ماجد قد ركّز في الفائدة الثالثة على تأثير منازل القمر في ظواهر الطبيعة، فهو هنا يستوفي تلك الظواهر وتغيّراتها، ويضع للبحّارة طرق تعاملهم مع تلك التغيّرات، راسماً لهم الطرق البحريّة التي تقلّ فيها المخاطر، مع الافاضة في تحديد منازل الرياح الاثنين والثلاثين التي تظهر على البوصلة الخاصة بها، والتي هي مرتبطة لا بحركة القمر فحسب بل أيضاً بحركة النجوم طلوعاً ومغيباً ترصدها تلك البوصلة. وتسمّى كل منزلة خُنّاً، وجمعها الأخنان. وهذه الطريقة في القياس ما زالت مستعملة في أرجاء واسعة من العالم. * الفائدة الخامسة يؤرخ فيها المؤلّف للجغرافيين القدماء بمختلف اختصاصاتهم الجغرافيّة، بما في ذلك علم الفلك. ونتبيّن من مراجعة هذه الفائدة أنّ ابن ماجد كان على معرفة جيّدة بتاريخ الجغرافيين والفلكيين، غير أنّ معلوماته عن اليونانيين قليلة ومضطربة، مما يؤكد أنّه لم يكن على اتّصال وثيق بتلك الثقافة. كما انّ ما ذكره عن الجغرافيين غير العرب لا يرقى الى ما تحدّث عنه من إنجازات البحارة العرب. * الفائدة السادسة تشبع نهم البحّار الى معرفة الطرق البحريّة، والموانئ التي ترسو فيها السفن، وطبيعة سكّان كل ميناء منها، وما يُمكن أن يحمل اليه من بضاعة أو يُشترى فيه. بمعنى أن المؤلف دخل الى التجارة من باب الجغرافية، فانتقل من البحار الى الجغرافية الاقتصادية، بحيث يمكن أن يتعمّق الموضوع الى طبيعة تربة الميناء والمناطق الملحقة به، وما فيها من نباتات ومعادن وثروة حيوانيّة. * الفائدة السابعة: وقد خصصها ابن ماجد للأرصاد الفلكيّة وكيفيّة قياسها، اعتماداً منه على قياس المسافات بين النجم القطبي واثنين من نجوم الدب الأصغر وهما "الفرقدان" إضافة الى "النعش" من نجوم الدبّ الأكبر، وهي المصطلحات التي حفل بها الشعر العربي كثيراً، إذ وردت في عديد من القصائد، لا العباسيّة فحسب بل والجاهليّة أيضاً، ما يجعلنا ندرك أن المعلومات التي أوردها ابن ماجد بطريقته العلميّة كان العرب قد عرفوها منذ أزمنة قديمة. وهذا يؤكد مرة أخرى ما قلناه من سبق العرب غيرهم من الأقوام في ريادة العلوم الجغرافيّة. ومن الجدير بالذكر أن طرق القياس عند ابن ماجد تختلف تماماً عن الطرق التي كانت معروفة لدى اليونان والهنود، فهم كانوا يستعملون مصطلح الدرجة، ولكن هذا المصطلح مولَّد قياساً على المصطلح الأساس الذي وضعه العرب القدماء وسار عليه ابن ماجد، وهو قياس "الإصبع". وحين وضع اليونانيون نظام القياس بالدرجات، جعلوا كل إصبع مساوياً لدرجة واحدة وسبع وثلاثين دقيقة، ويعود الفضل في اكتشاف هذه الحقيقة العلميّة الى العالم السويسري Leopold de Saussure وهو أخو عالم اللغويات الشهير فردينان دي سوسير2 الذي قرّر أيضاً انّ أقدم الاصطرلابات في العالم كانت مقسّمة بهذه الطريقة وليس بطريقة الدرجات التي وضعت في ما بعد. وفي هذا التقرير تأكيد إضافي على السبق العربي لنظام القياس الغربي، وهو النظام المصمّم أساساً على الطريقة العربيّة التي حفظها كتاب ابن ماجد، هذا على رغم أنّ بعض الباحثين الغربيين حاول أن يشكّك في هذه النتائج من خلال تأكيده على انّ من الصعب اكتشاف أوليّات تلك الطريقة في القياس وما إذا كانت عربيّة أم غير عربيّة. غير انّه اعترف بعدم وجود آثار لها يمكن أن تكون سابقة على ما لدى العرب 3. وفي طريقة القياس أيضاً نرى انّ ابن ماجد لم يتأثّر أبداً بطريقة بطليموس في تقسيم خطي الاستواء والزوال الى ثلاثمئة وستين درجة، وهو في ما نعلم الجغرافي الوحيد في العالم الذي لم يتّبع تلك الطريقة، بل واصل الاعتماد على طريقة القياس بالإصبع بدلاً من الدرجة، وبذلك فقد رأى انّه يوجد مئتان وأربعون إصبعاً بين خطّي الاستواء والزوال. ويمكن أن نعلّل لهذا التفرّد بواحد من عاملين، أو بهما معاً: أ- أنّ ابن ماجد لم يكن مطّلعاً بشكل كافٍ على ثقافات الأمم الأخرى في هذا الميدان، فلا يكفي أن يكون بطليموس قد ألف كتاباً في الملاحة أو الجغرافية، أو القياس وفق الدرجات، لنفترض أنّه لا بد لابن ماجد أن يطّلع عليه. إذ لا بد من أن يكون ذلك الكتاب قد انتقل من بيئته الأصلية، أولاً، ثم أن يكون قد وصل الى ابن ماجد ثانياً، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن شيوع الكتب وانتشارها في ذلك الزمن ليس كمثل شيوعها وانتشارها في هذا الزمن. ب- أن ابن ماجد فضّل الطريقة الأصليّة، وعزف عن طريقة التقسيم وفق الدرجات لأنّه رأى أنّ الأصلّ أحق أن يُتّبع باعتباره أكثر دقّة في تحديد المسارات والاتجاهات وقياس الأبعاد. ويبدو أن الحق كان الى جانبه في هذه المسألة أيضاً، فانّ قياس المسافات بين بيوت "وردة الرياح" بالإصبع يبقي الأرقام صحيحة من غير كسور عشريّة، فكل بيت من تلك البيوت يحتوي على سبعة أصابع، وكلّ منزلة من منازل القمر الثماني والعشرين تحتوي على ثمانية أصابع. وكيفما يكن الأمر، فانّ ابن ماجد وبعد أن انتهى من سرد الفوائد المشار اليها، انتقل الى الجانب العملي والتطبيقي من كتابه "كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" ورتّبها أيضاً على أساس الفصول، وسمّى كلّ فصل ب"الفائدة" تلاؤماً مع عنوان الكتاب ذاته. * فيتحدّث في الفائدة الثامنة عن العلامات التي تنبئ بالوصول الى اليابسة، وكيفيّة توجيه السفينة وقيادتها في كل ميناء من الموانئ التي اختبرها هو بنفسه في رحلاته العديدة، لأن لكل ميناء طبيعته الخاصة ما بين الأرض الرملية أو الصخريّة، وما بين مياه عميقة ومياه ضحلة، وما بين شعب مرجانيّة أو نتوءات صخرية بارزة وغير بارزة، ولذلك تختلف قيادة السفينة وتوجيهها من ميناء الى آخر. وبهذا قدّم ابن ماجد دليلاً لا يستغني عنه أيّ بحّار لأنّ عملية الدخول الى الميناء ما زالت الى اليوم تشكّل عقبة أمام السفن، لذلك تلجأ الحكومات وشركات الملاحة الكبرى الى استئجار أدلاء يقومون بقيادة السفن أو إرشادها الى أسلم طرق الدخول الى الميناء، هذا على رغم تطور علوم البحار، وتوافّر الخارطات والأجهزة الدقيقة في السفن الحديثة والموانئ التي تستقبلها. * أما الفائدة التاسعة، بحسب تقسيمه للكتاب، فتصف جغرافية سواحل جميع الموانئ الواقعة على شواطئ أفريقيا وآسيا وصولاً الى شواطئ الصين. وكان بعض الباحثين يعتقد بأن ابن ماجد لم يصل الى ما هو أبعد من الهند، غير انّ المعلومات المثبّتة في هذا الجزء من الكتاب، وفي غيره أيضاً، تؤكد أنه قد وصل الى شواطئ الصين وأندونيسيا والجزر الأخرى المحاذية اليها من الشرق، ثم الى الشواطئ الغربية لأفريقي. غير انّ معلوماته عن الشواطئ الغربية لأفريقية أقل من معرفته ببقيّة الموانئ مما يشير الى انّه لم يكن كثير الترحال الى شواطئ المحيط الأطلسي. وسيظهر من بعده تلميذه سليمان المهري الذي سيملأ هذا النقص في مؤلفات ابن ماجد، وكأن سليمان المهري في كتابه "كتاب المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر" أراد أن يكمل مسيرة أستاذه وابن منطقته أحمد بن ماجد. * وفي الفائدة العاشرة يتكلّم ابن ماجد على الثروة البحرية واختلاف أنواعها باختلاف البحار، بل يتعرّض الى الفوائد الصحيّة التي تختلف من مكان لآخر. فأسماك الخليج لها طعم وفائدة يختلفان عن أسماك المحيط الهندي، وفي البحر الأحمر نباتات سامّة ولكنّها غير سامّة على شواطئ الخليج، وهكذا يبتكر ابن ماجد الجغرافية الاقتصادية للبحار، للمرة الاولى في تاريخ البحريّة العالميّة، التي عادة ما تترك تلك المسألة للأطبّاء أو التجّار أو علماء الأحياء، وهو النمط المعمول به الى الآن. فليس من مهمّة البحّار المعاصر أن يعرف تلك المعلومات بمقدار معرفته بطبيعة البحار والأمواج والأنواء وحالات الطقس والمناخ، أما ابن ماجد فقد جمع الفائدتين معاً. * وفي الفائدة الحادية عشرة يرشدنا ابن ماجد الى مواسم السفر في البحر، وأفضل الأوقات في كل بحر من البحار أو محيط من المحيطات. وهو لا يعتمد على الخرافات والأساطير أو التفاؤل والتشاؤم في تحديد تلك المواسم والأوقات، فليس يعنيه أن يكون دخول البحر الأحمر مثلاً في يوم السبت أو الاثنين، بل يعنيه أن يبيّن طبيعة البحر في أيام الأسبوع، أو في شهور السنة وفصولها. فثمة بحار تهدأ شتاء لتهيج أمواجها ربيعاً أو صيفاً، على عكس غيرها من بحار تشهد مياهها هدوءاً في الصيف لتهيج في فصل آخر، أو تكون هائجة طيلة شهور السنة تقريباً. وقد أثبتت الملاحظات التي دوّنها الملاحون الى وقتنا الحاضر صدق ما نقله أحمد بن ماجد ودقتّه الكبيرة في وصف حالات تلك البحار. * وينقلنا ابن ماجد في الفائدة الثانية عشرة من كتابه الى بحر "القلّزم" وهو البحر الأحمر، فيصفه بدقّة كبيرة وكأنّه يتابعه عقدة عقدة وميلاً ميلاً، من شواطئ الجزيرة العربية والى الشواطئ الأفريقية التي تقابلها، شمالاً وجنوباً، واضعاً بذلك خير مرشد لهذا البحر، بدقّة لم يتغيّر منها شيء يُذكر حتى بعد تطوّر العلوم البحريّة التي نلاحظها اليوم. وثمة آخرون غير أحمد بن ماجد كان لهم دورهم الكبير في تطوير العلوم البحرية، إضافة الى مجهودات كبيرة بذلها الجغرافيّون العرب الآخرون في وصف الطرق البريّة بين البلدان، وفي وصف تلك البلدان، كما نظروا الى السماء ورسموا مسارات النجوم والأفلاك وحركات الشمس، بحيث نستطيع أن نقرّر أن الخلاف الذي نجم في أوروبا بين القائلين بأن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس هي التي تدور حولها، والقائلين، في ما بعد، بأن الشمس ثابتة لا تتحرّك وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس، لم يكن معروفاً لدى الشرقيين. فكتب الجغرافيين العرب كالمسعودي 4 وأبي الحسن الصدفي 5 وأبي العباس اليعقوبي 6 وغيرهم تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن في المجموعة الشمسية حركات متفاوتة سرعة وبطئاً، وأن الشمس تدور حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، وأنها تدور حول الشمس مرة كل عام، كما انّ الشمس تتحرك أيضاً ضمن حركة المجموعة الشمسية كلها. وصحيح أنّ الجغرافيين العرب القدامى لم يسمّوا الأشياء بأسمائها المعروفة اليوم، فانّهم كشفوا عن رؤيتهم الى المجموعة الشمسيّة بشكل علميّ موضوعيّ بحسب ما كانت تسمح به عصورهم. ويبدو أنّ نجاحهم في تحديد تلك الرؤى العلميّة التي أثبت العلم الحديث صوابها يعود الى انطلاقهم من الآية القرآنيّة الكريمة التي تقول: "والشمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم"7، ثم انصرفوا الى تلك الحقائق يستجلونها ويصرفون همّتهم اليها... وذاك هو طريق التطور اليوم وغداً وما بعد غد. 1- سورة يس 39. 2- يراجع Saussure في كتابه Introduction 152. 3- يراجع كراتشكوفسكي 2/575. 4- توفي المسعودي في سنة 956م. 5- وهو المعروف بالفلكي توفي في سنة 1594م. 6- توفي أبو العباس اليعقوبي في أواخر القرن التاسع الميلادي. 7- سورة يس 38-39.