لم يكن هيرودوس يهودياً صليباً، بل ادومياً متهوداً. واذ نصبته روما ملكاً على اليهود، فإن هؤلاء لم يقبلوا به كاهناً اكبر، فظل هودكانوس الحشموني يشغل ذلك المنصب. ومن جانبه بنى هيرودوس لليهود هيكلاً فخماً، وحصر سلطة الحشمونيين وانصارهم فيه، مستبعداً اياهم عن السياسة ابداً. وهودكانوس الكاهن هو ابن الملك الحشموني الكسندر يناي 103-76 ق.م، الذي وسع حدود مملكته، واحتل أدوميا وأكره اهلها عى اعتناق الديانة اليهودية، كما فرض سلطته على عدد من المدن اليونانية بولس. وفي فترة الصراع بين ورثة يناي هذا، برز الادومي انتيباتر وولداه: فصائيل وهيرودوس. وتميزت فترة حكم الحشمونيين الاخيرة بصراع داخلي بين تيار الاصوليين اليهود الصدوقين والتيار الهليني الفريسيين من جهة، وآخر خارجي تمثل في حالات التمرد على الحكم اليوناني، من جهة اخرى. وفي عام 63 ق.م، احتل بومبي القدس ونزع عن الحشمونيين الملك، تاركاً لهم الكهانة الكبرى وذلك بوساطة انتيباتر الادومي. كما سلخ بومبي عن مملكتهم جميع الاراضي التي احتلها الكسندر يناي في مغامراته العسكرية. ولقاء خدماته، احتل انتيباتر موقعاً كبيراً في "يوديا" كما استطاع تعيين ولديه حاكمين: فصائيل على القدس، وهيرودوس على الجليل. ولكن الوضع في فلسطين لم يستقر، اذ تمرد اليهود على روما في اثناء الصراع بين قادة الجيوش الثلاثة بومبي، يوليوس قيصر، وانطونيوس الذي انتهى بهزيمة بومبي، وتولي يوليوس قيصر السلطة في روما. وعاد القيصر ورفع يوديا الى مقاطعة ذات حكم ذاتي اثنارخيا، وضم اليها ميناء يافا على البحر وسمح بإعادة بناء اسوار اورشليم لأن هودكانوس، بناء على نصيحة انتيباتر، وقف الى جانبه في الصراع مع بومبي، ودعا يهود مصر الى مساندته. لكن اليهود عادوا الى التمرد بعد اغتيال القيصر، واستطاعوا بالتحالف مع الفريقين الدخول الى القدس، وعزل الكاهن الاكبر هودكانوس واسر حاكمها فصائيل الذي انتحر في السجن بعد ان كان ابوه انتيباتر قد قتل عبر دس السم له في الشراب، وبذلك بقي هيرودوس وحده على قيد الحياة. وهرب هيرودوس الى روما حيث استقبل كحليف مخلص لروما، ومنحه اوكتافيوس وانطونيوس اللذان انتصرا على مدبري المؤامرة لاغتيال يوليوس قيصر لقب "ملك" و"حليف روما وصديقها"، بينما أُعلن خصمه وقاتل ابيه واخيه انطيخونيوس الحشموني "عدواً لروما". وكان على هيرودوس ان ينتزع الارض التي عين عليها حاكماً، بقرار من السينات الروماني، ففعل ذلك بمساعدة الفيالق الرومانية. وفي الصراع بين انطونيوس واكتافيوس تورط هيرودوس الى جانب ولي نعمته حاكم الشرق، انطونيوس. الاّ انه بعد معركة "اكتيوم" 31 ق.م، التي هُزم فيها انطونيوس سارع هيرودوس الى تقديم الطاعة والولاء للمنتصر اكتافيوس فقبلها القيصر منه وابقاه ملكاً على ولاية "يوديا". وكما استقر الحكم لاكتافيوس في روما، هكذا استتب لهيرودوس في فلسطين، فوسع حدود ملكه كثيراً. في الواقع، فإن هيرودوس وحكمه في فلسطين كانا من صناعة السياسة الرومانية في الشرق. ورأت فيه روما تابعاً مخلصاً، ورجلاً مناسباً لتجسيد سياستها، التي لم يتردد هيرودوس لحظة في العمل على تنفيذها بكفاءة عالية، سياسياً وعسكرياً. ومن خلال ملاءمة نشاطه شكلاً ومضموناً مع الاستراتيجية الرومانية في الشرق بنى هيرودوس ذاته وبلاطه وسلطانه. فجهد على الدوام في الحفاظ على علاقة متميزة مع روما العاصمة، كما مع الوالي ستراتيغوس الروماني في سورية. واذ تفانى في خدمة مصالحها اطلقت روما بدورها يده في ادارة شؤونه الداخلية. وذهب الى حد قتل زوجته مريم الحشمونية وولديه منها لارتيابه بانهم يتآمرون عليه ويحرضون ضد روما ويدعون لاعادة ملك الحشمونيين. وبصرف النظر عن التفاصيل في عقد المقارنة بين رئيس الوزراء الاسرائىلي ايهود باراك وهيرودوس، فلأسباب ذاتية وموضوعية، كان باراك المرشح المفضل لادارة الرئيس بيل كلنتون في انتخابات العام 1999 الاسرائيلية العامة كونه ربيب المؤسسة العسكرية، الاشد ارتباطاً بالاستراتيجية الاميركية تجاه المنطقة. وكان تأييد ادارة كلنتون لباراك في حملته الانتخابية واضحاً اذ قدمت له ما تستطيع من عون سواء لناحية رفد حملته بالمستشارين الدعاويين والانتخابيين او لتوفير قنوات تمويلية اميركية له. وفي حينه وصل رئيس طاقم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الانتخابي دافيد اليستور الى توجيه التهمة العلنية لادارة كلنتون بالتدخل بشؤون اسرائيل الداخلية. وقال: "تآمر الجميع على نتنياهو من كلنتون وحتى عامي ايالون" رئيس جهاز المخابرات الداخلية - الامن العام، واتهم ال "سي. آي. أي". بتقديم الدعم المالي لباراك مستشهداً بأن هذا الاخير لم يكن يملك ما يسدد به فواتير الهاتف لمكاتبه واذا به يتصرف بمبالغ طائلة في الحملة الانتخابية. ولا تزال هذه المسألة تتفاعل حيث تجري الشرطة تحقيقاً في ممارسات انصار باراك خلال تلك الحملة وذلك بعد تقرير مراقب الدولة الذي ادان تلك الممارسات واصدر حكماً على حزب العمل بدفع غرامة مالية تقرب من 14 مليون شيكل. ويتعرض باراك لحملة تنديد شديدة من خصومه في حزب الليكود، يقودها عضو الكنيست ميخائيل ايتان، الذي يتهمه مباشرة ب"الفساد" ويطالب بالتحقيق معه في هذه المسألة. وباراك لا يأنف "تهمة" انحياز ادارة كلنتون اليه بل يبدو وكأنه يتهافت على واشنطن، اسوة بما فعل هيرودوس يوم جثا امام القيصر اكتافيوس في رودوس معلناً انه سيبقى "عبد روما الامين" مادام حياً. وثبت على عهده. من الواضح ان باراك يسعى لاحتلال موقع رابين في واشنطن الامر الذي لم يتحقق لشمعون بيريز من قبله، وبالتأكيد ليس لبنيامين نتنياهو. وقد برز ذلك في اثناء زيارة باراك الاولى الى العاصمة الاميركية كرئىس لحكومة اسرائىل، حيث حظي باستقبال الفاتحين. ومنذ توليه السلطة، كان على رأس هموم باراك ترميم ما افسده نتنياهو في العلاقة مع واشنطن، لأنه اكثر من رابين حتى وعلى خلاف بيريز الى حد كبير، يرى ان العلاقة مع الولاياتالمتحدة هي الاهم بما لا يقاس في مرتكزات الامن الاستراتيجي الاعلى لاسرائىل. ولا غرو انه في ختام زيارته لواشنطن أعلن التوصل الى اتفاق مع الرئىس الاميركي على رفع مستوى التعاون الاستراتيجي الاميركي - الاسرائىلي، ولهذا السبب عيّن احد اكثر جنرالات الجيش السابقين تحمساً لهذا التعاون دافيد آفري قائد سلاح الجو السابق ورئىس "مجلس الامن القومي" سفيراً في واشنطن للعمل على تجسيد هذه السياسة. والظاهر ان هذا التعاون اصبح يتجاوز دول الطوق العربية الى الدائرة الأبعد المحيطة بالشرق الاوسط في اطار الاستراتيجية الاميركية في الخليج وآسيا الوسطى. لكن باراك يعي - الاكيد ان واشنطن اوضحت له ذلك - ان الانخراط الاعلى في الاستراتيجية الكونية الاميركية لا سيما ما يتعلق منها بالخليج وروسيا يستلزم منه انسجاماً اعلى معها في الشرق الاوسط، الامر الذي تعبر عنه في اصرارها على انجاز تسوية للصراع العربي الاسرائيلي. فهذا في نظرها يؤمّن حالة من الاستقرار في الشرق الادنى ويؤدي الى عزل العراق وايران تمهيداً لتطويعهما الخيار المزدوج. وباراك بلا شك يرى بانخراط اسرائيل في هذه الاستراتيجية فرصة ذهبية لاحياء دورها الوظيفي العسكري خلافاً لمنظور بيريز في ما اسماه "الشرق الاوسط الجديد" وبالتالي فهو مستعد للاستجابة للعرض الاميركي. ويظهر ذلك من تصريحات باراك وحركته السياسية قبل زيارته الاولى لواشنطن وبعدها. فقد تعهد بتنفيذ بروتوكول "واي بلانتيشن" والتقدم على المسار السوري - اللبناني وفقاًَ للمنظور الاميركي، كما اعلن نيته الانسحاب من الجنوب اللبناني خلال عام من توليه منصبه كرئيس للحكومة. وفي المحصلة فإن باراك خلافاً لنتنياهو يبدو متحمساًَ لتلبية رغبة واشنطن في التوصل الى تسوية للصراع العربي - الاسرائيلي في مقابل تعزيز واشنطن دور اسرائيل الوظيفي في الدائرة الاقليمية الاوسع. فهل يستطيع ذلك؟ ان نية باراك في تلبية الرغبة الاميركية على اهميتها لا تكفي لجعل التسوية التي تطالب بها واشنطن تحظى بتأييد واسع النطاق في اسرائىل خاصة في الاطار الزمني الذي يجري الحديث عنه من سنة الى 15 شهراً، منذ تولي باراك السلطة. واذ هو يتمتع بتأييد شعبي كبير، لم يتوفر من قبله لا لرابين ولا لبيريز، فإن هذا الواقع الشعبي لا ينعكس في المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة - الكنيست والحكومة. فترجمة نسبة الاصوات التي حاز عليها في الانتخابات لرئاسة الحكومة 6،55 في المئة تعني حصول حزبه في الكنيست على حوالي 70 مقعداً ولكنه حصل على 26 فقط. والخط السياسي الذي يتبناه لا ينعكس في الكنيست او في الحكومة، بسبب التفتت الحزبي، حيث يتشكل الائتلاف الحكومي من 8 أحزاب، وفي الكنيست 16 قائمة انتخابية، ويزداد هذا العدد جراء المزيد من الانقسام. ومن هنا وبصرف النظر عن نية باراك، وكذلك عن رؤيته لمرتكزات امن اسرائىل الاستراتيجية، فإنه لكي يستطيع تنفيذ سياسته عليه ان يبقى في السلطة، وليبقى في السلطة عليه ان يخضع حركته السياسية على صعيد مسارات التسوية لإملاءات موازين القوى الحزبية في الكنيست والحكومة. وهذه الموازين ليست في صالحه. فالكثير من الاعتبارات الداخلية يصطدم بمتطلبات التسوية وبرغبة واشنطن في تسريع المسارات المؤدية اليها. وباراك بخلفيته العسكرية وخاصة في مجال الاستخبارات يقدر عالياً العلاقة المتميزة مع الولاياتالمتحدة كركيزة رئيسية في امن اسرائيل الاستراتيجي. وهو عبر عن ذلك بكلام لا يحتمل التأويل على وجهين، من انه يريد تعزيز أمن اسرائيل من خلال التسوية التي تنشدها واشنطن. وهذا يعني ان باراك اسوة بسلفه بيريز اصبح يرى في التسوية ركيزة في تأمين دور اسرائيل الوظيفي في الاستراتيجية الكونية الاميركية الامر الذي يشكل بدوره ركيزة في امن اسرائيل الاستراتيجي. ومن هنا، فالظاهر ان باراك، على عكس نتنياهو، وربما اكثر من رابين وبيريز، سيعمل على تعزيز التعاون الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة الامر الذي يؤشر اليه تعيين دافيد آفري الجنرال احتياط سفيراً لاسرائىل في واشنطن. وهذا التعزيز في هذه المرحلة التاريخية يستلزم من وجهة نظر واشنطن خفض حدة التوتر مع دول الطوق العربية ليتسنى للأداة العسكرية الاسرائيلية التي ينوي باراك تطويرها لتصبح "جيشاً صغيراً وذكياً"، الانخراط في الاستراتيجية الاميركية ازاء الدائرة الاوسع المحيطة بالشرق الادنى وكأن الامور تعود الى ما يشبه العمل على اقامة "حلف بغداد" في حينه. ان ما يرشح من اخبار متفرقة ومجتزأة يعزز القول بأن الادارة الاميركية تميل الى رفع مستوى التعاون الاستراتيجي مع اسرائىل، خلافاً للتكهنات التي راجت بعد حرب العام1991. ويبدو ان واشنطن اصبحت تفكر في توسيع الدور الوظيفي لاسرائيل، ليطال الدائرة الخارجية للشرق الادنى. وهذا يعني تحديث الجيش الاسرائىلي واعداده للقيام بمهام جديدة ومتشعبة بكل ما يترتب على ذلك من تمليكه الادوات اللازمة لأداء دوره المستقبلي. وفي مقابل ذلك، يتوقع باراك ان تحصل اسرائيل على مساعدات مالية ضخمة قد تصل الى عشرات مليارات الدولارات، الامر الذي من شأنه ان يعينه على تذليل العقبات الداخلية باقناع جمهور المستوطنين وكذلك المؤسسة الحاكمة في اسرائيل بجدوى التسوية. كذلك فهو يتوقع من اطراف عربية مساعدته في ترويض الوضع الاسرائيلي الداخلي. ومن جانبه سيحاول، اذا وجد لذلك سبيلاً التقدم على المسارات الاسهل التي لا تولّد ردود فعل داخلية عنيفة والتي من شأنها ان تعطي مردوداً ايجابياً على صعيد الداخل الاسرائيلي وان تعزز قوته في المؤسسة الحاكمة تمهيداً للاستفتاء الشعبي على كل اتفاق يتم التوصل اليه. ومن هنا فسيعمد باراك الى ايجاد السبيل للخروج من لبنان، فيما هو يفاوض سورية على الانسحاب من الجولان، والسلطة الفلسطينية على الوضع النهائي. وبهذا الترتيب يرى تدرج التقدم على هذه المسارات، فقد التزم بتاريخ محدد للانسحاب من لبنان هو تموز يوليو 2000. وهو يراهن على التوصل الى اتفاق مبدئي مع سورية في وقت قريب. اما على المسار الفلسطيني فقد تراجع عن تنفيذ بروتوكول "واي بلانتيشن"، الاكيد انه يعي استحالة تلبية الحد الادنى من المطالب الفلسطينية المعلنة في اطار الوضع النهائي. ولذلك فقد يعمل على التوصل الى اتفاق مرحلي طويل الامد مع السلطة الفلسطينية، التي تعي بدورها استحالة قبولها بالشروط الاسرائيلية للتسوية النهائية. واضح ان الواقع الاسرائيلي الراهن لا يبيح لباراك التحرك بحرية كما يرغب، او بالسرعة التي تتوقعها منه واشنطن التي تريد ان تنجز التسوية في العام 2000 في ولاية كلنتون، كما صرحت وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت. من هنا، فإن موجة التفاؤل بالتسوية التي رافقت وصول باراك الى السلطة كان مبالغاً فيها جداً فهو بالتأكيد لا يستطيع تلبية ما كان متوقعاً منه لا فلسطينياً ولا سورياً او لبنانياً، ولا حتى اميركياً. ذلك لأنه يواجه مشاكل صعبة ومعقدة في حركته نحو انجاز التسوية الشاملة. وحتى في سعيه الى اعادة توضيب العلاقة مع واشنطن بل ورفع مستواها من خلال العودة الى التنسيق المسبق معها، الامر الذي يحتل رأس القائمة في اولوياته، يواجه باراك تعقيدات داخلية غير قليلة. وهو يرى ان رفع مستوى التعاون الاستراتيجي بين اسرائيل واميركا هو الكفيل بحلحلة ازمته الداخلية. لكن المسألة ليست سهلة في ظل الاوضاع القائمة داخل جمهور المستوطنين في اسرائىل حيث اصبح التنسيق المسبق مع اميركا يصطدم بنزعات متطرفة في اوساط ذلك الجمهور. فهناك طفرة من الرعونة غير المبررة في الجمهور الاسرائيلي، لا تقر بحيوية العلاقة مع اميركا بالنسبة الى وجود اسرائىل ومستقبلها ويدعو اصحابها الى توسيع هامش الاستقلالية عن واشنطن، بل تدّعي الفضل عليها في الخدمات التي قدمتها لصيانة المصالح الاميركية في المنطقة. في المقابل هناك تيار متنام يعبر عنه بيريز وشلومو بن - عامي، يطرح تطوير العلاقة مع اوروبا على حساب الارتباط الكلي بالولاياتالمتحدة. وواضح ان باراك ينتمي الى مدرسة أخرى، فهو يدعي انه تلميذ رابين ومكمل دربه. من هنا سيكون من الصعب عليه ترويض الجمهور الاسرائىلي في ظل التفتت السياسي والحزبي السائد في اوساطه راهناً. هذا الجمهور على قاعدة وعيه اليهودي الاستيطاني، يعطي الاولوية لأمن القاعدة الجغرافية للمستوطن أي السيطرة على الارض، على العلاقة المتميزة مع اميركا. وهذا الوعي لم يتغير بذهاب نتنياهو ومجيء باراك، وهو يكتسب في هذه المرحلة من تطور المستوطن الاسرائيلي بعداً استراتيجياً لا يسهل التعامل معه بحركات تكتيكية. ويرى قطاع واسع من النخبة الامنية والسياسية ومن المحللين الاستراتيجيين ان العلاقة مع اميركا راسخة الى الحد الذي لا تهدده الخلافات في وجهات النظر حول التسوية، وبالتالي فلا ضير في الخروج على الادارة الاميركية فيما يتعلق بالتسوية. العدالة والدائمية واكب سقوط نتنياهو من السلطة في اسرائيل وبالتالي صعود باراك اليها كثير من التفاؤل بأن انطلاقة جديدة فيما يسمى "عملية السلام" في الشرق الاوسط ستبدأ، وستحقق غاياتها خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. وعمت موجة التفاؤل هذه اطرافاً محلية واقليمية ودولية. ولكي يستقيم الكلام في هذا الموضوع لا بد اولاً من تحديد مصطلح "عملية السلام" الذي يفهم منه ايجاد حلول للتناقضات القائمة بين اطراف الصراع في المنطقة. الا ان ما يجري في الواقع هو "تسوية" للمشاكل بين الاطراف المنخرطة في المفاوضات، على ارضية المبادرة الاميركية التي على اساسها عقد "مؤتمر مدريد" في العام1991. ولم يكن صدفة ان يختار راعي المفاوضات الاميركي مصطلح "مسار السلام" بمثابة اسم علم، يطلق على حركة سياسية معينة وليس اسم صفة لما يجري في الواقع، وشتان ما بين الاثنين. واصبح "مسار السلام" يعني عملياً انجاز تسوية متفق عليها بين الاطراف المعنية، الامر الذي لا يعني بالضرورة التوصل الى حالة سلام بالمعنى المتعارف عليه. ولا يخفى ان الفرق بين التسوية والسلام كبير، فالسلام هو تجسير نقاط الخلاف بين الاطراف المعنية، وذلك يعني معالجة جذر التناقضات، بهدف التوصل الى حلول لها" اي ان الحل يعالج جوهر الصراع، فيما التسوية تتعاطى مع تجلياته. والصراع في المنطقة لم يكن نزوة، وانما نشب لاسباب موضوعية، والتناقضات التي يدور حولها لها اساسها في الواقع. فهل تغير هذا الواقع، او هل يتوقع ان يتغير جراء العملية الجارية، على الاقل بالحد الادنى الذي يوفر الارضية لانهاء هذا الصراع؟ كما هو معلوم، فإن هذا المسار التسووي ينطلق من قرارات مجلس الامن 242 و338 و 425، التي جاءت في اعقاب حرب حزيران يونيو 1967، وحرب تشرين الاول اكتوبر 1973 وعملية الليطاني 1978، على التوالي. وجاءت جميعها على ارضية ما كان مطروحاً في حينه، ولا يزال، شعار "ازالة آثار العدوان" بصرف النظر عن شعارات المرحلة السابقة. في هذا الاطار، وحتى لو تحقق ما يدور من كلام وهو ليس مؤكداً، وتمت شمولية الانخراط في العملية التسووية على جميع المسارات، فإن ذلك لا يغطي الا عنصراً واحداً من الشعار المطروح بأن يكون "الحل" التسوية شاملاً وعادلاً ونهائياً. فعلى اعتبار ان دخول الاطراف المعنية جميعاً في المفاوضات يلبي شرط "الشمولية"، فماذا عن الشرطين الآخرين: "العدالة" و"النهائية"؟ وفي الكلام عن العدالة، ما هو معيارها، ومن يحدده، واين هي حقوق الاطراف المعنية؟ وحتى لو افترضنا جدلاً ان معيار هذه العدالة هو قرارات "الشرعية" الدولية، فما هو الحال بالنسبة الى الالتزام بها؟ لقد عوقب العرب كثيراً على ما اتهموا به من رفض تلك القرارات، فهل ستعاقب اسرائيل على هذا الاساس ايضاً؟ هل ستتحمل المسؤولية عن نتائج الحروب التي شنتها على الدول العربية والتي دانتها الاممالمتحدة بالعدوان فيها، ام ان قرارات الشرعية الدولية ستبقى حبراً على ورق بالنسبة الى اسرائيل وملزمة تحت طائلة العقوبات بالنسبة الى العرب! لقد تم تجاهل قرار التقسيم للعام 1947 مثلاً لأن العرب رفضوه وعوقبوا على ارسال جيوشهم الى فلسطين 1948، مع ان تلك الجيوش دخلت في حينه لتنفيذ خطة التقسيم، كما اصبح معروفاً الآن. وفي الكلام عن "النهائىة"، فما عساه يعني؟ انه بالامكان استيعاب الضرورات السياسية، وما قد يترتب عليها من اجراءات، ولكن هل ينطبق ذلك على الشعوب وذاكرتها التاريخية، خاصة عندما يتعلق الامر بالقضايا الوطنية والقومية؟ * كاتب فلسطيني - دمشق.