نهاية آب اغسطس 1995 تسلم ايهود باراك منصبه وزيراً للداخلية في حكومة رابين. وبعد أسابيع قليلة كان عليه أن يحدد رسمياً موقفه من اتفاق طابا. وقبل التصويت في مجلس الوزراء "عاش باراك ليلة صعبة للغاية"، حسب ما رواه لمؤلفي كتاب "باراك... الجندي الأول". وكان يدرك ان التصويت حسب قناعته سيزعج رابين وبيريز اللذان ادخلاه الحكومة. ولم يخف باراك رأيه خلال الاجتماعات المغلقة، وأبدى معارضة شديدة لأسلوب الانسحابات السريعة، وقال: "إن تسليم الفلسطينيين غالبية المناطق الضفة والقطاع قبل بدء مناقشة القضايا الصعبة مثل القدس واللاجئين والحدود... الخ يعتبر خطأ تكتيكياً جسيماً. فالمناطق أفضل ورقة مساومة في أيدينا، وتسليمها للفلسطينيين يعني فقدانها قبل أن تبدأ المساومة الحقيقية". واقترح تقديم مفاوضات التسوية الدائمة، أو إطالة مدة الانسحابات ونشرها على المدة الفاصلة حتى الانتهاء من نقاش قضاياها الأساسية. بحيث يتم الاتفاق حولها في الوقت نفسه الذي ستسلم فيه أو خلال زمن قريب منه". وحينما حانت لحظة التصويت وامتنع عن تأييد الاتفاق وتوترت علاقته برابين وبيريز لفترة، وأشارت وسائل الاعلام إلى أن بارك يعارض اتفاقيات أوسلو. أظن أن هذه الفقرة المقتبسة من أقوال باراك كافية لفهم خلفيات موقفه الحالي واللاحق من عملية السلام على مسارها الفلسطيني، وتوضح دوافع وأبعاد مماطلته في تنفيذ اتفاق واي ريفر الذي وقعه نتانياهو. وترسم ملامح موقفه في المفاوضات حول الانسحاب الثالث الذي نص عليه اتفاق أوسلو، وتبين ملامح موقفه في المفاوضات حول قضايا الحل النهائي. وانسجاماً مع قناعاته الأصلية طلب باراك، في تموز يوليو الماضي، من الإدارة الأميركية منحه بعض الوقت قبل الشروع في تنفيذ واي ريفر، وتمنى عليها تأجيل زيارة وزيرة الخارجية أولبرايت، وعدم ارسال مبعوثيها دنيس روس ومارتن انديك للمنطقة. وحاول اقناع القيادة المصرية ببراءة موقفه من اتفاق واي وبصدق نواياه، وكان يخطط للاستفراد بالقيادة الفلسطينية وانتزاع موافقتها على تعديل واي، والشروع فوراً في مفاوضات الحل النهائي، ودمج المرحلة الثالثة من اتفاق واي بها، ووضع جدول زمني مديد لتنفيذ الاستحقاقات الأخرى، وهي "الانسحاب الثاني، اطلاق سراح الأسرى والمعتقلين الأمنيين، فتح الممرين الآمنين الجنوبي والشمالي بين الضفة والقطاع، وبناء الميناء وفتح شارع الشهداء في الخليل". إلى ذلك، اعتقد باراك ان حديثه العلني وبصوت مرتفع عن السلام واستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، واجراؤه اتصالات تمهيدية سرية وعلنية مع القيادة السورية، يعوض إدارة كلينتون عن تأخير زيارة أولبرايت، وتقليص دورها في المفاوضات، وتجميد دور روس وانديك والCIA في تسوية الخلافات ومراقبة تنفيذ الاتفاقات، ويخفي حقيقة دوافعه في تأخير تنفيذ واي ريفر، ويخلق تنافساً قوياً بين المسارين السوري والفلسطيني، ويبتز الفلسطينيين ويفرض عليهم الدخول في مساومة جديدة تمكنه من منعهم من تعزيز أوضاعهم على الأرض وتعزيز موقفهم في مفاوضات الحل النهائي. وتجنباً لأي سوء تفاهم ارسل الوزير يوسي بيلن، أكثر الإسرائيليين حماساً لاستمرار التركيز على المسار الفلسطيني، إلى واشنطن لاقناع أركان الإدارة الأميركية بقيمة توجهاته وبأهمية تبنيها، وطالبها بيلين بالضغط على القيادة الفلسطينية لقبول أفكار باراك "باعتبارها لصالحهم"...! وتختزل زمن الوصول معهم إلى سلام شامل. وسعياً لكسب ود باراك عزف بيلين الحاناً عنجهية دغدغ بها رغبات رئيسه، وهدد الفلسطينيين إذا استمروا في رفض اقتراحاته، وحذرهم من "ارتكاب خطأ قاتل إذا اضاعوا الوقت في الركض وراء مسائل تفصيلية صغيرة وردت في اتفاق واي". ويسجل لإدارة الرئيس كلينتون أنها في الوقت الذي منحت باراك بعض الوقت ليجرب أفكاره، وأجلت زيارة أولبرايت للمنطقة حتى مطلع أيلول سبتمبر، لم تتفاعل مع اطروحاته على رغم تحالفهما الاستراتيجي. ولم تتبنَ تنظيرات بيلين الانتهازية البائسة، والمتعاكسة مع اطروحته الطويلة حول أهمية المرحلة الانتقالية، ومع قناعته الحقيقية وقناعة مكتشفه وملهمة بيريز. وتمسكت بموقفها الداعي إلى التزام الطرفين باتفاق واي ريفر. وربطت جهودها، التي لا غنى عنها لاستئناف المفاوضات السورية - اللبنانية - الإسرائيلية، باتفاق حكومة باراك مع السلطة الفلسطينية على جدول زمني محدد لتنفيذه بأسرع وأقصر وقت ممكن. وطلبت من الفلسطينيين مواصلة اللقاءات مع الإسرائيليين، ولم تمارس ضغطاً قوياً عليهم، وتركت لهم علناً حرية القرار بشأن دعوة باراك تسريع مفاوضات الحل النهائي ودمج بعض بنود واي ريفر فيها. ووجهت دعوة رسمية لوفد من السلطة لسماع وجهة نظرها مساواة بزيارة بيلين. ولم يستطع باراك كتم انزعاجه من الموقف الأميركي ودعوة أبو مازن لزيارة واشنطن، وكلّف وزير خارجيته ديفيد ليفي بشن هجوم على الزيارة، وذكر الفلسطينيين بأن الثنائية الإسرائيلية - الفلسطينية هي أقصر الطرق لمعالجة الخلافات ولتفاهم حول تنفيذ الاتفاقات. إلى ذلك، فهم باراك مغزى الموقف الأميركي، وشعر بتحفظ موقف القيادة المصرية على اطروحاته وفتور علاقتها معه وشرع في التراجع عن موقفه، وأوعز لمفاوضه المحامي المهذب جلعاد شير تسريع مفاوضاته مع صائب عريقات. وبصرف النظر عن تفاصيل جولات المفاوضات الماراثونية وعن نصوص الاتفاق الجديد بين الطرفين، والدرس الذي سيستخلصه باراك من فشله الأول، وفقدانه بعض مصداقيته، تصل وزيرة الخارجية الأميركية أولبرايت مطلع هذا الشهر إلى المنطقة لوضع لمساتها على نصوص الاتفاق الجديد، وإقامة احتفال مهم بمناسبة توقيع باراك ورئيس السلطة الفلسطينية على بروتوكول تنفيذ بروتوكول واي ريفير لتنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية. وتدشين، مرة أخرى، مفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني التي دشنت أول مرة في عهد بيريز قبل انتخابات الكنيست، وعقدت لها جولة يتيمة في 4 أيار مايو 1996. وعلى رغم الخلاف الأميركي - الاسرائيلي الودي الهادئ والمستور، ستشيد الوزيرة اولبرايت بحكمة باراك وحرصه على صنع سلام ثابت في المنطقة، وستدعو الدول العربية الى التفاعل مع الخطوة الاسرائيلية "العظيمة" التي اقدمت عليها حكومة باراك، وملاقاتها بخطوة تطبيع "حرزانة". وأظن ان حكومات عربية كثيرة ستشيد بجهود باراك من اجل صنع السلام، و"تكرمه" بتنفيذ اتفاق واي. وستتجاوب مع دعوة اولبرايت وتتعامل مع متطلباتها بسرعة مذهلة بما فيها تحضير اوضاعها لاستئناف مفاوضات متعددة الأطراف قبل تنفيذ واي ريفر، وقبل ظهور حقيقة مواقف باراك من المطالب السورية المحقة والمشروعة. الى ذلك ستنصرف الوزيرة اولبرايت بعد الاحتفال بما تحقق على المسار الفلسطيني، الى مهمتها الرئيسية المتمثلة في احياء المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وستقوم بالحركة المكوكية المطلوبة بين دمشق وتل ابيب لوضوع الرتوش الاخيرة. وتأمل النجاح في انجازها قبل مغادرتها المنطقة. وأظن انها تواجه صعوبة كبيرة في الاتفاق مع الطرفين على استئناف مفاوضاتهما، وتدشينها مطلع تشرين الاول اكتوبر بعد انتهاء القيادة الاسرئيلية من الاحتفال بالأعياد اليهودية. وستتفق معهما بسرعة على دور اميركي نشط وفعال فيها خاصة ان لا خلاف بينهما على مثل هذا الدور، واستئناف المفاوضات بات هدفاً مشتركاً يخدم المصالح التكتيكية والاستراتيجية للطرفين، والاتصالات التمهيدية، السرية والعلنية، انضجت مواقفهما وضيقت رقعة خلافاتهما حول اسس استئنافها. وبتدشين المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وبدء مفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني مترافقة مع تنفيذ واي ريفر، تنتقل المفاوضات العربية - الاسرائيلية الى مرحلة نوعية جديدة. وبصرف النظر عن رأي المتفائلين المتشائمين بمستقبل المفاوضات على المسار السوري فالثابت ان مجرد استئنافها يساعد باراك على التشدد في تنفيذ بروتوكول تنفيذ اتفاق واي ريفر، وقد يتحمس ويتلاعب بتوقيت الانسحاب الثالث. ولا حاجة لأن يكون الانسان ذكياً حتى يقول ان مفاهيم باراك الأمنية، وأوضاع ائتلافه الحكومي، وأوضاع اسرائيل الداخلية تؤكد استحالة التوصل، خلال فترة حكم باراك الحالية، الى حلين شاملين للصراع الاسرائيلي - الفلسطيني والسوري - الاسرائيلي. وتوقيع اتفاقين استراتيجيين حول الانسحاب من الجولان وجنوب لبنان، وآخر يعالج قضايا القدس واللاجئين والحدود والاستيطان والأمن. وأقصى ما يطمح ا باراك في ولايته الاولى هو توقيع اتفاق مع الرئيس الأسد حول تطبيع العلاقات السورية - الاسرائيلية، والانسحاب من الجولان. ووضع الترتيبات الأمنية اللازمة لضمان استقرار الوضع على حدود اسرائيل الشمالية بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من جوب لبنان. وسيعمل بكل السبل ويستخدم كل الاوراق المتوفرة للضغط على رئيس السلطة الفلسطينية لتوقيع "اتفاق اعلان مبادئ" عام وفضفاض جداً حول قضايا الحل النهائي، يعتمد كأساس لمفاوضات تستغرق سنوات طويلة، والايحاء للعالم بانتهاء الصراع مع الفلسطينيين. لا شك في ان انسحاب اسرائيل من الجولان وجنوب لبنان يخدم المصالح الوطنية السورية واللبنانية، مثله مثل الانسحاب من اجزاء اضافية من الضفة الغربية. واذا كانت المصلحة القومية المشتركة تفرض على الطرفين التساند في المفاوضات وتنسيق مواقفهما قبلها وخلالها. فالمصلحة الوطنية تفرض على القيادة الفلسطينية ليس فقط تعطيل امكانية استغلال المفاوضات الاتفاقات في ابتزاز الموقف السوري، بل وايضا تأخير التوصل الى "اعلان مبادئ الحل النهائي" الى ما بعد الاتفاق السوري - الاسرائيلي، واستثمار الاسبقيتين الهامتين، اللتين سيتضمنهما، في مفاوضاتها حول قضايا الحل النهائي: الاولى اعتماد قرارات الشرعية الدولية 242 و338 كقاعدة لحل النزاع حول الارض والحدود. والثانية رسم نموذج لمعالجة وضع المستوطنات والمستوطنين. وايضاً بعد التيقن من تنفيذ الاتفاق الجديد على الارض. فقناعات باراك الأساسية لم تتغير، ويخطئ من يعتقد انه سينفذه باستقامة. وتجربة شهرين من المفاوضات تفرض رفع درجة الحذر، وقديماً قالوا "الطبع غلب التطبّع". * كاتب سياسي فلسطيني