استقبل العرب أو الكثير منهم، كما استقبلت قطاعات واسعة من الإعلام الدولي، نتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة - لمجلس الشورى "البرلمان" - التي أفرزت البرلمان الإيراني السادس بكثير من الترحاب، على أنها خاتمة المطاف والقول الفصل في الحوار المحتدم في مناطقنا على أي السبل تحقق التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية. ولا اعتراض على هذا الترحاب من حيث المبدأ، إلا أن الاعتراض على ما اعتقد البعض أنه نجاح نهائي لفلسفة في الحكم يمكن أن تؤدي، في أماكن أخرى، الى النتائج نفسها. ذلك خطأ مزدوج، وجهه الأول تأكيد أن التجربة الإيرانية يمكن أن تتكرر في بلدان عربية وإسلامية أخرى، والثاني أنها قد حلت، أو يمكن أن تحل، معضلات اجتماعية وسياسية يواجهها المجتمع الإيراني المعاصر، أو المجتمعات ذات الثقل التراثي المشابه. وكلا الافتراضين في رأيي متسرع، ان لم نستعمل التعبير الأشد بالقول إنه خاطئ. والأسباب في الركون الى هذا التفسير كثيرة، وأضع بين يدي القارئ بعضها. وأبدأ بالحديث الذي يدور حول تعميم نقل عن المصلح العربي محمد عبده، إذ قيل انه عندما ذهب الى أوروبا لاحظ أن هناك إسلاماً ولم يجد مسلمين، بمثل ما وجد في الشرق مسلمين ولم يجد إسلاماً. تلك مقولة نقلناها وتوارثناها كي يؤكد مستخدمها أن الإسلام قادر على أن يقدم حلولاً عصرية لمشكلات عصرية، ولكن المسلمين المعاصرين غير قادرين، أو بالأحرى ان بعض البيئات المسلمة غير قادرة. ويذهب البعض الذي يدافع عن هذا القول بتأكيد أن إيران المعاصرة تقدم هذه الحلول باجتهاد ايراني. وقد يكون ذلك القول صحيحاً جزئياً، لأن الاختبار المعمق لما يحدث في إيران يقول لنا إن نتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة قد شاركت فيها الثقافة الإيرانية، بمعنى ان تطبيق مبادئ الإسلام يأخذ أشكالاً مختلفة في بيئات مختلفة، مثل اختلاف التطبيق الإيراني مثلاً عن التطبيق الأفغاني، وكلاهما يقول بالإسلام، ان أردنا بيان تطبيقات تكاد تكون متناقضة. وعندما أشير الى الثقافة الإيرانية فإني أقصد ذلك الكم الكبير والمتوارث من تجارب الشعوب الإيرانية ونظرتها الى الحياة. فالاصلاحيون في ايران الذين حققوا النتيجة الباهرة في الانتخابات الأخيرة هم تحالف يتكون من فئات مختلفة، وقد يكون هذا التحالف موقتاً. ينقسم هذا التحالف الكبير الى ثلاثة تيارات على الأقل: الأول الاصلاحيون السياسيون، والثاني الاصلاحيون الاقتصاديون، والثالث الاصلاحيون الاجتماعيون. وكل من هذه التيارات له أولويات مختلفة عن التيار الآخر، ولكنهم اجتمعوا كحزمة سياسية ثقافية في الانتخابات الأخيرة، ليحققوا في المرحلة الأولى نصراً على خصومهم التقليديين، أو المتمسكين بالنصوص من دون تأويل يتقارب مع العصر ويتصالح معه. لذا، ليس من المنتظر أن تبقى الأجندة السياسية بين هذه التيارات الثلاثة متقاربة أو منسجمة لفترة طويلة. فالاصلاحيون السياسيون يرغبون في أن يحققوا في ايران انجازاً أكبر مما تم حتى الآن في النظام السياسي الإيراني، ويجعلوه في نهاية المطاف نظاماً يماثل الأنظمة الغربية على غرار أحزاب "الديموقراطيين المسيحيين" في أوروبا، ولا أقصد هنا محتوى تلك الأحزاب الحاكمة، ولكن الفكرة العامة منها، بمعنى أن يكون هناك نظام ليبرالي له علاقة بالأخلاق العامة والثقافة العامة، ولكن اتكاءه الرئيسي يكون على تصويت حر للشعب من دون حاجز أو رقيب، لا لجان فرز أو مرجعيات تستمد سلطاتها من غير الشعب. ولب الصراع هنا هو ولاية الفقيه، بين تجاوزها أو حصرها في الشؤون "الروحية" وترك السلطة الدنيوية لمن ينتخبهم الشعب. أقول إن هؤلاء يريدون تحقيق ذلك الهدف البعيد، وهو هدف كانت تسعى إليه الحركة القومية الإيرانية منذ مطلع القرن الماضي "العشرين" على الأقل. ولكن هل يتحقق ذلك الهدف في ضوء التغيرات الهيكلية التي أحدثتها الثورة الإيرانية منذ تفجرها؟ هنا بيت القصيد، فالحوار الواسع بين رموز الاصلاحيين، ومن ضمنهم بعض رجال الدين، وبين الآخرين هو هذا الأمر المركزي: ولاية الفقيه وتفرعاتها، حق الناس جميعاً في الاجتهاد من خلال مؤسسات منتخبة لتقرير شؤون حياتهم العامة من دون مرجعية. حتى الآن هذا الهدف البعيد تقف أمامه عقبات كؤود، إلا أن الحوار دائر لتفكيك المرجعية بأشكالها المختلفة والوصاية أياً كان مستواها. هذا ما يظهر من أدبيات إيرانية حديثة يشارك فيها أساتذة جامعات وفلاسفة ورجال دين أيضاً. اما الاصلاحيون الاقتصاديون، فهم يرون أن الأولوية للاقتصاد. وليس الاقتصاد الإيراني بعد الثورة إلا نسخة تشابه بشكل ما الاقتصاد الاشتراكي، خاصة بعد التأميمات في بداية الثورة والسنوات اللاحقة لها، وهو اقتصاد لا يلبي المتطلبات الواسعة للشعوب الإيرانية، لا من حيث الهياكل والقوانين الحاكمة ولا من حيث الفلسفة. إلا أن اصلاح الاقتصاد يقود إما الى اصلاح سياسي سابق له أو متزامن معه، وهو بالتأكيد يحتاج الى تغيير في الفلسفة العامة للدولة وعلاقتها بالخارج أيضاً. الموضوع الاجتماعي ينصب على حقوق المرأة والعلاقات الاجتماعية والحريات العامة، وللمرأة الإيرانية ودورها في المجتمع وتأثيرها فيه مسار تجدر ملاحظته. فما حدث في إيران في العشرين سنة الأخيرة وفي هذا القطاع يستحق الذكر. لقد قررت الثورة في بداياتها اطلاق النمو الديموغرافي من دون تحديد، فحصل الانفجار السكاني الكبير الذي تصاعد من الثلاثين مليوناً الى الخمسين مليوناً، ثم الى سبعين مليون نسمة، وهو في ازدياد، ما جعل السلطات الإيرانية تعود من جديد لاستخدام الأدوات المتاحة، وهي الفتوى الدينية، للحث على تحديد النسل، فأصبح هناك استقرار في النمو السكاني، وحافظت الخصوبة على استقرار معقول، ولكن مع زيادة عدد الشباب من الجنسين خاصة من النساء، الى جانب تعليمهن الذي حققت فيه الثورة الإيرانية نجاحاً كبيراً، ازداد الطلب على العمل للمرأة خارج المنزل، وقلت أيضاً التزاماتها في داخله نتيجة تحديد النسل، فتفرغت للعمل السياسي، وكانت النتيجة أن الشباب من الجنسين، وخاصة المرأة، هم الذين حققوا أولاً انتصار محمد خاتمي قبل أربع سنوات تقريباً، ثم انتصار الاصلاحيين في الأسابيع الماضية، من خلال صناديق الاقتراع. نتائج الانتخابات الإيرانية لن تظهر الآن ولا في المدى القريب، بل المتوسط، فإن استطاعت القوى الجديدة تقديم حلول سياسية واقتصادية واجتماعية معقولة تحقق فيها طموحات الأغلبية الإيرانية، استطاعت ايران ان تحقق تقدماً على الصعيد الخارجي، عامة، لا سيما العلاقات بالغرب، وخاصة العلاقات بالولايات المتحدة الأميركية. واذا تم ذلك فمن المتوقع أن تلعب ايران دوراً معتدلاً في السياسة الاقليمية والدولية، وهو دور من شأنه أن يخفف، ثم يزيل، الاحتقان في الخليج، لأن العقدة الأكبر في العلاقات الإيرانية مع الخليج هي موضوع الجزر العربية. وايران، حتى وقت قريب، لا تريد أن تلجأ الى التحكيم الدولي انطلاقاً من شكوكها في موقف الدول الكبرى الذي قد لا يكون مواتياً لها. ولكن بعد علاقات عادية مع هذه الدول، يمكن تحقيق ما يسمى بناء "الثقة" التي ترجح الاتجاه للمؤسسات الدولية من دون حرج ومن دون تخوف، وبالتالي الوصول الى حل سلمي مع الجيران. السيناريو الآخر بالطبع هو أن تفشل قوى الاصلاح التي نجحت في تحقيق أغلبية برلمانية في تقديم حلول سياسية اقتصادية اجتماعية مقنعة تحقق البرامج الداخلية لايران، كما ترغب القطاعات الشبابية والاصلاحية، وقد يقود هذا الموقف الى ثلاثة احتمالات: الأول، ان يقود الفشل الى تشدد خارجي يوتر العلاقات الاقليمية والدولية، إن لم يكن لسبب مباشر، فقد يكون بسبب الرغبة في لوم الآخر، وإرجاع أسباب الفشل إليه وتحميله كل الأخطاء وتوجيه كل الطاقة الى عدو خارجي. والاحتمال الثاني أن يقود الفشل الى استفادة تيار المحافظين بتحميل الاصلاحيين أمام الناس أسباب الفشل الاقتصادي أولاً، ثم السياسي بعد ذلك، مما يسهل الانقلاب عليه. وأما الاحتمال الثالث فهو أن "يكفر" الشعب الإيراني بجملة الفلسفة العامة التي قامت عليها "الثورة الإسلامية" وبالتالي تجاوز الاصلاحيين والمحافظين - على السواء - الى شكل جديد بعيد عن كل الاطارات السابقة، أي بثورة جديدة لها نكهة ليبرالية وغطاء قومي. النتائج غير المنظورة لتطورات إيران السياسية هي: كيف ستنظر القوى الإسلامية السياسية في المنطقة الى النتائج الانتخابية الأخيرة؟ وهل سوف تغير من مواقفها التي ذهب بعضها الى التشدد السياسي والفقهي؟ أم أن النتيجة التي وصلت إليها ايران اليوم سوف تؤكد لهذه القوى أهمية السير في طريق الديموقراطية، ولو كان طويلاً، لأن النتائج واحدة؟ في الذهن بالطبع قوى الإسلام السياسي في العراق، وقوى الإسلام السياسي في بعض البلاد العربية التي قد توفر لها تجربة إيران بعض الدروس. أما العلاقات مع القوى الشعبية في الجانب الغربي ذات المنحى التراثي والتي كانت لايران علاقات بها، فهي سوف تخضع برامجها للمراجعة وإعادة النظر، كما صرح الاصلاحيون بأن أمر هذه القوى تحت المراجعة. في المدى المنظور، وقبل اصدار الأحكام النهائية على ما يمكن أن تحققه وما لا يمكن أن تحققه الديموقراطية على الطريقة الإيرانية، من أهداف، نحتاج الى أن نتوقف عن كثب لنرى ما يجري في ايران، ومن دون أن نصدر التعميمات المتسرعة أو المواقف المسبقة. أما الذي لا نختلف عليه، فهو أن ما يرجوه المخلصون أن تسير الديموقراطية الإيرانية في طريق الحريات الى آخره، لأنه - هو وحده - طريق بناء الحضارات. * كاتب كويتي