عندما دعاني مركز القاهرة لحقوق الانسان للحديث عن القضية الفلسطينية، وقبلت دعوته، تملكني احساس غريب، وسألت نفسي: ما عساي ان أقوله وأضيفه بعد كل الذي قرأناه وسمعناه حول فلسطين الأرض، وفلسطين الحلم، وفلسطين الايديولوجيا والسياسة والمقاومة والتسوية. اعتقد انه لم يعد هيناً التحدث بجدية وعمق عن هذه القضية. فهي بقدر ما كانت مصدراً رئيسياً من مصادر تشكيل الخطاب السياسي العربي طيلة الحقبة الماضية، حيث كان الجميع - سياسيون ومثقفون واعلاميون وأدباء - يكتبون ويتحدثون عنها بيسر وسيولة خطابية و"وضوح" كبير، بقدر ما اصبح كل امرئ يحترم نفسه، ويعرف حدوده، ويشعر بمسؤولية الكلمة وهشاشة المرحلة، يتهيب من الخوض في هذه القضية بنفس اليقين والاندفاع السابقين. فقد خطاب المرحلة السابقة مصداقيته لأسباب ثلاثة على الأقل: 1 - كان الخطاب أشبه بالظاهرة اللغوية، يستمد قوته ومنطقه من مفردات وصيغ في التعبير وسلسلة من الشعارات القافزة فوق الواقع، تريد ان تلغيه دون تفكيك مكوناته او توفير الشروط الذاتية والموضوعية لتحقيق ذلك. اشترك في صياغة ذلك الخطاب المثقفون والأنظمة الثورية والحركات الايديولوجية. 2 - فقد الخطاب أيضاً مصداقيته نتيجة العجز الذي اصاب منتجيه، الذين توقفت قدراتهم على الاقناع والتبرير. فالفجوة بين ما ينطقون به وبين ما يمارس على الأرض جعلت الناس يعرضون عنهم وعن خطابهم. فهم بحكم تراجعاتهم التاريخية، واصطدامهم المتكرر بصخرة الواقع المرير، وعدم امتلاك الكثير منهم الشجاعة الادبية للاعتراف بمسؤولياتهم السياسية والفكرية عن مجموع الاخطاء التي قادت الى مزيد انخرام موازين القوى، وضياع مزيد من الحقوق. 3 - لم يعد الخطاب السابق يستجيب بكل المقاييس للأوضاع الراهنة عربياً ودولياً. اختلفت كل المعطيات المتعلقة بالقضية الفلسطينية اختلافاً كلياً عما كانت عليه طيلة الخمسين سنة الماضية. لهذا اصبحت الاصوات المرددة لأدبيات المرحلة السابقة عبارة عن نشاز او السير في طريق ذي اتجاه معاكس. اذا سلمنا بوجهة النظر هذه حول معظم مكونات الخطاب السياسي العربي في المرحلة السابقة، دون طمس او التقليل من أهمية بعض مفاصله ومحطاته، فإن الخطاب البديل الذي تتردد أصداؤه منذ سنوات قليلة، قد تبدو له صلة بخصائص الواقع الراهن، مستنداً على نقد المرحلة السابقة ومستمداً مشروعيته من التحولات التي حصلت، لكنه من شدة التصاقه السطحي بالواقع، وتأكيده المفرط على التقيد باللعب داخل المساحات المتاحة، فقد قدرته بسرعة عن التعبئة، وسقط في التبريرية المجحفة بالحقوق، وراهن على خيارات لا يملك من اوراقها وخيوطها الا الشيء اليسير. من "مرتكزات" هذا الخطاب "البديل" المقولات التالية: القضية الفلسطينية شأن فلسطيني بالدرجة الأولى. بناء عليه يختار الفلسطينيون ما يرونه صالحاً لهم، وعلى بقية العرب مساندتهم في ما يذهبون اليه، ولا يزايدون عليهم في دفاعهم عن ارضهم. فالمعركة من هذا المنظور اصبحت فلسطينية، بعد ان كانت عند البعض فلسطينية من منظور قومي، او من منظور اسلامي لدى البعض الآخر. المراهنة على "السلام"، وقبول المفاوضات المباشرة من اجل احراج اسرائيل امام الرأي العام الدولي، ووضعها امام اختيارين: التنازل عن جزء من الأرض التي تقام عليها "الدولة الفلسطينية"، او ظهورها امام العالم كطرف معتد ومعاد للسلام. مع التشديد في نفس السياق على تجانس مواقف السلطة الوطنية لتكتسب المصداقية على الساحة الدولية، حتى لو كلفها ذلك تعديل مواثيقها واللجوء الى القوة ضد بعض الفصائل المعارضة للتسوية. تقسيم الرأي العام الاسرائيلي الى جناحين متصارعين حول الخيار السلمي، والعمل على دعم الجناح "المعتدل" والتحالف معه من اجل كسبه، وتفعيل دوره بنية اضعاف ليكود وحلفائه. الاستعداد لقبول الحد الادنى، مقابل التنازل عن مطالب وثوابت كانت في ما قبل تعتبر من الثوابت الوطنية المقدسة. العبرة عند اصحاب هذا المنهج، ليس في الحفاظ على السقف الأعلى للواجبات الوطنية، وانما في الحصول على الجزء الذي يمكن استثماره سياسياً والانطلاق منه لتحقيق نتائج أفضل. المراهنة على الولاياتالمتحدة باعتبارها القوة الفعلية "الراعية للسلام"، دون التخلي عن اوروبا وروسيا كورقة للضغط وخلق رأي عام دولي لصالح "السلام". اخيراً اعتبار اقامة الدولة الفلسطينية هدفاً ممكناً تحقيقه، واعتباره المدخل الفعلي لاخراج القضية من النفق الذي دخلته منذ اكثر من نصف قرن. كمواطن عربي ينتمي الى بلد استعملت قيادته السياسية اثناء مرحلة النضال الوطني اجزاء عديدة من هذه الخطة، وتوصلت بفضلها وفضل نضال الشعب التونسي الى الحصول على الاستقلال وإقامة الدولة، قد لا تكون لي اعتراضات جوهرية على النهج السياسي في حد ذاته، لكن ما يقلق في هذا الخطاب الذي يبدو عملياً اكثر واقعية من غيره جوانبه التالية: 1 - هو أقرب الى التكتيك منه الى الخطاب/ المنظومة. تكتيك لا يملك خلفية ثقافية او عمقا نظرياً مؤسساً. هو توجه براغماتي مندفع الى حد الدوران في متاهات صغيرة. وهو ايضاً تجزيئي الى درجة الاخلال الكبير بشمولية القضية. لقد تخلص فعلاً من التضخم الايديولوجي، ليسقط في المقابل في السطحية التي تؤدي غالباً بحركات التحرر الوطني الى القطع مع القوى الشبابية والفئات المضطهدة. فعندما تنقلب البراغماتية من تكتيك الى استراتيجية، تفقد الثورات معناها ومبرراتها. 2 - "خطاب" يراهن على العوامل الخارجية اكثر من سعيه الحثيث على اعادة بناء فعاليات وطاقات الشعب الفلسطيني. لهذا عندما فشل او تراجع العامل الدولي في تعديل السياسة الاسرائيلية، انعكس ذلك بشكل خطير على الوضع الداخلي، وعلى علاقة الاطراف الوطنية بعضها ببعض. فالثورة تعني تنظيم وتعبئة طاقات شعب ثائر. والمفاوضات بدون ضغط ميداني قد تؤدي الى الانتحار السياسي. 3 - اقام هذا التكتيك فجوة، او بالأحرى انكساراً في بنية الخطاب العربي الذي كان يترع نحو تعميق الصلة بين تحرير فلسطين، وبين مختلف القضايا الجوهرية المطروحة على الأمة. ان الالحاح على قطرية القضية، وفصلها عن روافدها الفكرية والسياسية العربية والاسلامية زاد في ارباك الحالة الثقافية العربية. فالمثقف العربي الذي رجته الانتكاسات السياسية والانهيارات الايديولوجية وفشل مختلف الخطط التنموية، وأصابته ظاهرة "العولمة" بحالة الدوران خارج نطاق الجاذبية، اصبح مع المنعرج الذي سلكه الخطاب الفلسطيني الجديد غير قادر على اعادة ربط الصلة بطريقة فعالة مع هذه القضية التي كانت تسمى في وقت قريب القضية المركزية لكل العرب. لقد اكتفى هذا المثقف، في غالب الاحيان، بالجلوس امام التلفزيون يتابع الاحداث او يكتب مقالات ظرفية تحاول تعقب الوقائع الصغيرة التي تصيب المهتمين بالدوران والتذرر الفكري. في المقابل توهمت اقلية من المثقفين العرب انها باندفاعها نحو التطبيع الثقافي او التعاون مع الجهات الاسرائيلية المنادية بالسلام، قد تساعد على خلق حالة جديدة في المنطقة وداخل اسرائيل. فكانت النتيجة اندلاع صراع آخر بين المثقفين العرب، زاد في استنزاف طاقاتهم وتعميق ضياعهم الجماعي. فمعركة التطبيع من عدمه هي معركة لم تكن ضرورية في وضع لم تتحقق فيه اشياء ملموسة قد تبرر المغامرة واللجوء الى اشكال الاختراق السياسي والثقافي. 4 - مما زاد في هشاشة هذا المسعى المشروع نحو خطاب جديد انه، رغم اعتصامه بشعار الواقعية الا انه بدا منذ اكثر من سنتين مقطوع الصلة بالواقع الموضوعي المتميز بالانسداد والعدوانية من قبل العدو. فما يقال مناقض لما يمارس على الأرض. مرة اخرى يتعارض الدال مع المدلول، فالسلام يعني عملياً توسيع دائرة الاستيطان والاحتلال. 5 - يبقى التحدي الأكبر الذي واجهه الخطاب الرسمي الفلسطيني ولا يزال، لم يكمن في مدى قدرته على ترويض العدو وإدارة المفاوضات مع حكوماته، بقدر ما كان التحدي الأساسي في طبيعة العلاقة التي قامت بين السلطة والمجتمع المدني المحلي. فما يخشى ان ما حدث في تونس بعيد الاستقلال يتكرر في فلسطين. ان الحركة الوطنية التونسية كانت محصلة ولادة وصعود مجتمع مدني مناضل ضد الاستعمار الفرنسي. فيما بين الحربين اصبح الحزب الدستوري مع الاتحاد العام التونسي للشغل بمثابة العمود الفقري لهذا المجتمع المدني العمود، لكن بعد قيام الدولة تورط المجتمع المدني عندما ضحى باستقلاليته وبوجوده من دعم الدولة وتركيزها. لكن اذا كانت تونس قد خرجت من تلك التجربة بانتصاب دولة ومجتمع مدني ملحق بها، فإن الخطر يكمن في تفضي التجربة الفلسطينية الراهنة الى تصفية المجتمع المدني قبل تأسيس الدولة ودون الأمل في قيامها. خلاصة القول ان هناك مفارقة خطيرة نعيشها منذ اكثر من خمسين عاماً، فبقدر ما يكون الواقع خارجاً عن قدرتنا ومنفلتاً منا، نبني مقابل ذلك خطاباً وهمياً يشعرنا لفترة ان طريقنا واضح، ومستقبلنا بين ايدينا. لعل ما سبق عرضه يفسر - ولو جزئياً - حالة الارتباك التي أصابت الكثير منا في تحديد صلته بالقضية الفلسطينية. او ربما يساعدنا ذلك لفهم بعض الاسباب التي تجعل الكتابة حول الشأن الفلسطيني اصبحت من اقل النصوص اغراء بالقراءة. الثابت ان هذه القضية في حاجة الى اعادة تأسيسها من جديد في وعينا ووجداننا. أما لو سألتموني عن "البديل" لفاجأت البعض بالقول بأن "الحقيقة" الوحيدة الواضحة في ذهني هي المشاركة في تفعيل المجتمع المدني في بلادي. فهل يكون هذا مدخلاً من مداخل دعم القضية الفلسطينية؟... ربما. * كاتب وصحافي تونسي.