"ربى نجد" كانت الكلمتان تترددان في داخلي بلا ارادية، والسيارة تسير جنوباً، من الخرج في المملكة العربية السعودية الى حوطة بني تميم، تحيط بنا اراض منبسطة وهضاب ورواب، كل صخرة فيها تتحدث عن تاريخ موغل في القدم. رسمت مخيلتي منذ الطفولة لوحة لنجد، ابعد ما تكون عما اراه، لا تعدو مكوناتها المغروسة في ذهني سوى صحراء ورمال كئيبة، وهياكل عظمية لجمال، وبدو حفاة هم اقرب الى البربرية. وبينما كنت في بهو فندق فخم في الرياض - قبل الرحلة - كنت اقارن ما اراه من حداثة وسلوك "جنتلمان"، بالصورة المطبوعة في ذهني عن حوطة بني تميم، التي كانت رغبة خفية تدفعني منذ سنوات طويلة لزيارتها، لكن كابحاً آخر كان يمنعني، يشدني للخلف كي اتراجع. كان قراري لهذه الرحلة اشبه بقراري الانتحاري عندما صممت وأنا في سن السابعة على القفز من المنصة العالية لحوض السباحة، وكان ذلك قراراً مصيرياً لا رجعة عنه، لكنه شكل نقطة تحول نفسية كبيرة في داخلي، اصبحت اتمثلها في كل امور حياتي في الاربعين عاماً التي تلتها. لم يكن هناك شيء ينتهك تلك البراري الرائعة والاصيلة غير آلات ضخمة، تعبد طريقاً حديثاً بين مدينة الرياض وحوطة بني تميم، كانت الجمال باحجامها المختلفة والوان وبرها، تسير بتؤدة وكأن شيئاً لم يتغير منذ آلاف السنين. شعرت بصفاء وراحة، كمن يفك ربطة عنقه، او ينزع ملابسه الرسمية، ولأني اعلم ان مضيفي الكريم وأهل الحوطة يكرهون التدخين، استأذنت منه كي ادخن فرد مبتسماً: "لا بأس سنجاملك بصفتك ضيفاً لكنني اكره التدخين". وتلك كانت الملحوظة الاولى التي دونتها حول سلوك النجدي الاصيل: لا ينافق لكنه على استعداد لقتل نفسه من اجل راحة ضيفه. انزلت زجاج النافذة ونفخت دخان السيجارة، ثم استنشقت الهواء بعمق، وقلت لنفسي: "هواء نجد"، ورميت بقية السيجارة التي لم آخذ غير نفس واحد منها. لحوطة بني تميم مدخل واحد، ولامخرج لها. ولذا وصفت للظاهر بيبرس على انها "امنع بلاد الله"، وذلك عندما كان اسمها لآلاف السنين "المجازة"، قبل ان يسميها الفارس والشاعر محمد بن سعود بن مانع بن عثمان الملقب ب"هميلان" حوطة بني تميم، لأنها محاطة بالجبال، وكل سكانها من بني العنبر بن عمرو بن تميم منذ ما قبل الاسلام، ظلوا محافظين على اصولهم تلك منذ اقدم الازمان، ولم تتأثر الحوطة بأية فتوحات او غزوات، بل يذكر التاريخ ان اكبر الهزائم التي مني بها محمد علي باشا اثناء غزوه الجزيرة العربية كانت في الحوطة، وفي ذلك المكان هزم اتراك الدولة العثمانية ايضاً، ولذا تحتفظ الحوطة وسكانها بمكانة مميزة في شبه الجزيرة العربية، فجبالها المنيعة حفظت بكارتها العربية الاصيلة، ولا عجب ان الرحالة الاجانب الى الجزيرة العربية في القرون الثلاثة الماضية، كان هدفهم الاقصى هو نجد، باعتبار انها الموطن العربي الاصيل، الذي لم يترك الزمن آثاره عليه، وبقي موطن الخيول الاصيلة والاخلاق العربية. عندما انعكست شمس العصر على صفحة الجبال الوعرة، وعلى النخيل السامق، انتابني شعور قوي بأنني سبق ان عشت في هذه البقعة من الارض، واختبرت نفسي بتوقع ما سأراه، ورأيت ما كنت اتوقعه، فعند أطلال المنازل القديمة الطينية المدعمة بصخور الجبل الحادة، رأيت حواري ضيقة عشت فيها يوماً، او هكذا تراءى لي، فهل كنت مدفوعاً لهذه الزيارة، بقوة لا اعرف كنهها؟ بينما ظل مضيفي الكريم يسألني عن سبب صمتي ووجومي. طلبت ان ارى اماكن المعارك، والاماكن الاثرية، اذ لحسن الحظ ان اهل الحوطة لا يهدمون منازلهم القديمة، لكنهم يتركونها ويبنون منازلهم الجديدة في مكان آخر. وتلك فضيلة لا توجد في مدننا الخليجية الحديثة التي تفضل مجمعاً تجارياً حديثاً على اثر قديم، لذا ترتكب جرائم في حق تاريخنا وتراثنا باسم المدنية. لذلك ترى في الحوطة التاريخ ماثلاً امام عينيك، فمن منا اكثر تحضراً وأصالة؟ نحن المخدوعين ببريق المدينة والاستهلاك الفج، أم العربي الذي يعيش في قاع نجد؟ من منا اكثر بربرية؟ وفي رحلة وعرة وصلنا الى اطلال تشغل مساحة واسعة عند الجبال، وهي عبارة عن حوائط وبقايا منازل وابراج تسمى "قصور خويطر"، لا احد يعلم كم عمرها: "قد تكون بقايا سوق اليمامة" قال مضيفي معلقاً على تساؤلي. وعندما اقتربت من شجرة ضخمة، لاحظت ان جذعها شبه متحجر، وسألته: "ألم تطلبوا من الحكومة الاعتناء بهذه الآثار؟" اجاب وهو يتلمس الجدران القديمة: "اخشى ان تتدخل الحكومة فتذهب هذه الآثار بلا رجعة"، استدرت متطلعاً الى بكارة الارض العربية. كان في حوطة بني تميم مظهر غريب، كان عدد المقابر وحجمها في هذا المكان اكبر بكثير من نسبة عدد السكان على مر العصور، فاضافة الى الامراض والاوبئة، كان ذلك يعكس ايضاً عمق التاريخ الذي مر على هذه الارض، وكثرة المعارك، وحجم الغزاة الذين دفنوا فيها. وعندما دلفنا الى مجلس رجل فاضل من اهل الحوطة، اسمه موسى بن سعد العنبري العمروي التميمي، غمرنا الرجل بكرم عربي اصيل، وبأخلاق لم اجدها في اي مكان، لم يكن سلوكاً بدوياً فطرياً، لكنه كان ايضاً سلوكاً حضارياً رائعاً، وادركت بعد الحديث معه انني كنت اعيش في وهم زائف، وانني انسقت من دون وعي الى رؤية الاجنبي لي انا، والى رؤية العربي الذي يعيش في المدن الكبرى للنجدي، تلك الرؤية التي كانت تصور النجدي صلفاً فظاً اقرب الى البربري، واستعدت ما كنت اراه في بهو الفندق الفخم بالرياض، وفي الكافتيريات الراقية التي تبعد 150 كلم فقط عن الحوطة، والذي كنت اعتبره سلوك جنتلمان، استعدت برودة المكان والهمجية المستترة لسلوكنا، استعدت مانشيتات الصحف في الصباح، الابتسامات الباهتة والعيون المثقلة بالهم، والنفاق الذي نتقبله يومياً من دون احتجاج، والكاتبات اللواتي يكتب لهن بالدولار، ومثقفي الشنطة والترانزيت، والسرقات المشروعة التي يدافع عنها القانون، والرصاصة الاخيرة على التاريخ والحقيقة، والحروب في البرلمانات والانخاب في كواليسها، زنزاناتنا اللامعة والراقية، اجفاننا التي لا تغمض خوفاً من ذبح ينتظرنا على يد اخ او جار يبتسم كل يوم في وجوهنا، والذعر الذي يعترينا في المكاتب والدوائر الحكومية والشوارع وامام شاشات التلفزيون. عانقني الرجل عند باب بيته مودعاً، على رغم انه يراني للمرة الاولى، وعندما خرجنا من مدخل حوطة بني تميم، كانت اشعة الشمس خلف الجبال ترسل خيوطاً بين الصخور الى السماء تشبه خيوط الشمس التي كنا نرسمها ونحن في الصف الاول الابتدائي، عندما ادركت انني قفزت من اعلى منصة في حوض السباحة. * كاتب كويتي.