بعد 50 عاماً من قيام دولة إسرائيل، وبعد 60 عاماً من سقوط ألمانيا النازية، ما زالت إسرائيل تبتز ألمانيا وتفرض عليها تعويضات عن أعمال قامت بها النازية أيام حكم أدولف هتلر. ففي كانون الأول ديسمبر 1999 وقعت ألمانيا اتفاقاً تدفع بمقتضاه عشرة بلايين مارك ألماني تعادل 5،2 بليون دولار تعويضات لما يسمى بضحايا السخرة من العمال اليهود الذين استخدمتهم المصانع والشركات الألمانية، أثناء الحكم النازي، وقدر عددهم بنحو مليونين من اليهود الذين يعيشون الآن في إسرائيل. ومنذ شهور وافقت الحكومة السويسرية على أن تدفع 2،1 بليون دولار تعويضاً لأصحاب الحسابات المهملة التي لم يطالب بها أصحابها منذ الحرب. وفي الوقت نفسه تدفع الولاياتالمتحدة سنوياً لإسرائيل 3 بلايين دولار من المساعدات، معظمها أموال لا ترد. ومع كل ذلك فإن ديون إسرائيل الخارجية، حسب ما ورد في الميزان العسكري للمعهد الاستراتيجي في لندن العام 99/2000 تبلغ حوالي 55 بليون دولار، ونفقات الدفاع المعلنة 3،11 بليون دولار، ونسبة التضخم 7 في المئة، ونسبة النمو تراجعت من 4،2 في المئة عام 1997 الى 2 في المئة عام 1998. وتطالب إسرائيل الآن الولاياتالمتحدة بدفع 18 بليون دولار مساعدة منها في عملية إعادة انتشار قواتها إذا انسحبت من الجولان وجنوب لبنان في حال تم الاتفاق بينها وكل من سورية ولبنان على معاهدات سلام. يجب أن نأخذ المطالب الأخيرة مأخذ الجد، فقد حصلت إسرائيل من إدارة جيمي كارتر، نظير توقيعها على معاهدة كامب دافيد مع مصر عام 1979 على 9،3 بليون دولار، من اعتماد مبيعات الأسلحة، علاوة على 1،1 بليون دولار منحاً عسكرية واقتصادية، وقد اعطيت تلك المساعدة لبناء مطارين في النقب بواسطة سلاح الهندسة الاميركي ليعمل في كل منهما سربان اثناء العمليات. هذا، علاوة على المساعدة في إنشاءات لتعزيز البنية التحتية كقواعد بحرية وإنشاءات عسكرية وتسهيلات للحصول على معلومات وإنذار مبكر لتعويضها عما تفقده من عمق اثناء الانسحاب، إضافة الى بناء مدارس عسكرية ومراكز تدريب ومواصلات وثكنات لإقامة الجنود وإنشاءات لتعزيز كفاءتها الإدارية تقرير المحاسب العام الاميركي في 24/6/1982، وهذه مجرد أمثلة لبعض القنوات الخلفية التي تصب في الخزانة الإسرائيلية لتدفعها إلى المستوى الاقتصادي الكاذب الذي تظهر به. بدأت محاولات الابتزاز بعد إنشاء الدولة اليهودية مباشرة، بل وقبل ذلك إذا أردنا الدقة. إذ قام المؤتمر اليهودي العالمي خلال الحرب العالمية الثانية بإنشاء معهد للشؤون اليهودية لدراسة موضوعين على جانب كبير من الأهمية بالنسبة إلى الحركة الصهيونية: أولهما معاقبة النازيين، بعد انتهاء الحرب، الذين قاموا بعمليات اضطهادية لليهود وكيف يتم ذلك، وكان هذا هو أساس محاكمات نورمبرغ الشهيرة بعد ذلك. وثانيهما كيف يمكن الحصول على أكبر قدر من التعويضات من ألمانيا بعد هزيمتها لمصلحة اليهود وحركتهم. وبهذا الخصوص طالب المعهد بإقرار مبدأ التعويض بالنسبة إلى أي يهودي أضير من الحكم النازي وكذلك التعويض الجماعي للمجتمع اليهودي ككل. وإقرار هذا المبدأ الأخير ليس له سابقة في التاريخ العالمي، إذ لم تعرف سابقة تحمّل دولة ذات سيادة المسؤولية الأدبية، بل دفع تعويضات ضخمة، عن جرائم ارتكبت ضد جماعة من جنس واحد. ولذلك فإن هذا الطلب كان اتجاهاً جديداً يخرج عن كل عرف متبع. صحيح، ليس جديداً أن تدفع الدولة المنهزمة تعويضات للدولة المنتصرة، ولكن الجديد هو إقرار مبدأ دفع دولة ذات سيادة تعويضات لأقلية لا يجمعها أي إطار قانوني! وتحرك الموضوع - كما يذكر ناحوم غولدمان في مذكراته، وكما أوردته في كتابي "كيف يفكر زعماء الصهيونية" - بصفة رسمية في أوائل 1951، عندما أرسلت إسرائيل - بعد إنشائها - مذكرة الى الحلفاء الأربعة - بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي - تطالب فيها بتعويض قدره 5،1 بليون دولار تدفع فيها ألمانيا الغربية بليون دولار وألمانياالشرقية - إذ ان ألمانيا قُسمت بعد الحرب - باقي المبلغ. وقدر هذا المبلغ على أساس أن إسرائيل استوعبت حوالي نصف مليون يهودي تكلف كل منهم 3000 دولار حتى تم استيعابه. ولما كانت إسرائيل تحملت هذا المبلغ من موازنتها فإنها "تصبح صاحبة الحق في تقديم هذه المطالب باسم الشعب اليهودي". ولم يرد الاتحاد السوفياتي على المذكرة، أما باقي دول الحلفاء فنصحوا إسرائيل بالاتصال المباشر مع ألمانيا الغربية للوقوف على رأيها. والشيء الغريب هو أن جزءاً كبيراً من اليهود داخل إسرائيل وخارجها عارض أي مفاوضات مع ألمانيا، بل اعتبر بعضهم أن الحصول على تعويضات من الدول التي شنت عليهم حرب إبادة - كما يقولون - يعتبر عاراً. وللتخفيف من حدة هذه المعارضة عُقد مؤتمر للمنظمات الصهيونية الكبرى في نيويورك، ووافق المؤتمر على مبدأ التفاوض مع ألمانيا وعلى تفويض إسرائيل المطالبة بالتعويضات باسم الشعب اليهودي، كما عرض الموضوع على الكنيست لأخذ موافقتها. وكان "الصهيونيون العموميون"، و"المابام" و"حيروت" يعارضون الاتجاه كله، ووقف مناحم بيغين رئيس حزب "حيروت" يخطب في جمهور غفير في أحد شوارع القدس محرضا إياهم على استخدام العنف قائلاً "عندما اطلقوا علينا النيران في حادث الباخرة "ألتالينا" لم نرد، أما اليوم فسنرد، لأن المسألة هي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلينا"، وكان يقصد الباخرة "ألتالينا" التي كانت تحمل أسلحة وذخيرة لحساب عصابته قبل حرب 1948 ضد اتفاق بن غوريون مع العصابات الصهيونية على إدماجها في جيش الدفاع الإسرائيلي حتى يكون للدولة المنتظرة جيش واحد، ووافق الجميع على ذلك بمن فيهم عصابة "الأرغون" التي كان يقودها بيغين، إلا أنه كعادته خرج على الاتفاق، فقام بن غوريون بإغراق السفينة وهي تفرغ حمولتها في ميناء حيفا. وواصل الرجل المتطرف معارضته أثناء مناقشة الكنيست القضية، وكان يخطب ثائراً أثناء هجوم الجماهير على المبنى ملقين عليه وعلى من فيه بالحجارة قائلاً: "لقد حرصت الجماهير على تحطيم الكنيست وقلت لهم اني سأواجه معهم الموت فلن تكون هناك تعويضات من ألمانيا". إلا أن الكنيست وافقت على مبدأ قبول التعويضات وأوقف بيغين عن ممارسة نشاطه في الكنيست لمدة ثلاثة شهور لسوء السلوك. وفي أواخر العام 1951 أرسل أديناور، مستشار ألمانيا، عن طريق بلانكهورن، مدير القسم السياسي في الخارجية الألمانية رسالة إلى غولدمان بصفته رئيساًَ للمؤتمر اليهودي العالمي يبدي فيها استعداده للدخول مع إسرائيل في محادثات تمهيداً للوصول إلى تسوية. إلا أن غولدمان رفض العرض وأبلغ بلانكهورن أنه "لن يبدأ أي اتصال مع المستشار الألماني إلا إذا أصدر بيانا رسميا يعلن فيه مسؤولية جمهورية ألمانيا الاتحادية عن كل الجرائم التي ارتكبها النازي في حق اليهود، علاوة على تقديم دعوة رسمية لإسرائيل ويهود العالم للبدء في المفاوضات لإقرار التعويضات اللازمة". ورضخ أديناور لشروط غولدمان وأذاع البيان المطلوب في البرلمان الألماني في 27/9/1951 بعد اطلاع غولدمان عليه وإدخال بعض التعديلات، وتمت الموافقة على البيان بالإجماع. وعلى رغم ذلك رفض غولدمان الذهاب إلى ألمانيا للاجتماع مع المستشار الألماني في بون، كما طالب أن تتم الاجتماعات بصفة سرية. وفي 6/12/1951 تمت مقابلة سرية بين الرجلين في فندق كلاريدج في لندن واشترط غولدمان في المقابلة أن يتعهد أديناور كتابة قبل الدخول في أي مفاوضات بدفع بليون دولار لإسرائيل من التعويضات التي سيتم الاتفاق عليها، وأخبره أيضاً بأنه اتفق مع بن غوريون على ألا يطلب من الكنيست الموافقة على بدء المفاوضات الرسمية إلا بعد صدور بيان من المانيا الغربية بقبول ذلك. ووافق أديناور على كل ما طلبه بن غوريون، بل طلب منه كتابة صيغة التعهد الذي يريده لتوقيعه في اليوم نفسه. فكتب غولدمان مسودة التعهد في الحجرة المجاورة لحجرة المستشار الألماني وتلقى بعد ظهر اليوم نفسه التعهد وعليه توقيع المستشار الألماني وهو لا يصدق نفسه! وفي الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة من يوم 10/9/1952، وقعت اتفاقية التعويضات في لوكسمبورغ. وقد وقعها عن ألمانيا الاتحادية المستشار أديناور وعن إسرائيل وزير الخارجية موشيه شاريت وعن اليهود ناحوم غولدمان. وعلق بن غوريون على الاتفاقية لدى مقابلته غولدمان بعد توقيعها قائلاً: "أتاح الحظ السعيد لي ولك أن نشهد مولد معجزتين: الأولى هي قيام الدولة وكنت مسؤولاً عنها، والثانية هي اتفاقية التعويضات الألمانية، وكنت أنت وراءها. ومشاعري مختلفة بالنسبة إلى المعجزتين. فبينما كانت الثقة تملأ نفسي في إمكان تحقيق المعجزة الأولى، إلا أنني لم أكن أصدق تحقيق المعجزة الثانية حتى آخر دقيقة". وأما ناحوم غولدمان فقال: "عندما بدأت المفاوضات كان فريتز شايغر وزير المال الألماني يعتقد أن مجموع التعويضات سيصل إلى 8 بلايين مارك وكنت أقدرها بما لا يزيد على 6 بلايين مارك. والآن ونحن في العام 1968 أصبح واضحاً أن المبلغ النهائي الذي صبّ في الخزينة الإسرائيلية وفي جيوب اليهود من ضحايا النازي بلغ 60 بليون مارك، علاوة على 450 مليون مارك لإعادة بناء المدارس اليهودية والمعابد والمنظمات الثقافية، وبذلك كانت هذه الاتفاقية عاملاً حاسماً في تنمية إسرائيل". وعلينا أن نقدر قيمة هذه الاتفاقية لبلد كإسرائيل كان كل انتاجها في ذلك الوقت يعتمد فقط على زراعة وتصدير الحمضيات واستخراج بعض المواد الكيماوية من البحر الميت وعلى المعونات الاميركية التي كانت لا تتجاوز في الفترة من 1947 إلى 1953 مبلغ 70 مليون دولار في العام، علاوة على ما قيمته 20 مليون دولار مواد غذائية. وكان هذا يشكل 93 في المئة من مجموع الإعانات التي كانت ترسل إلى منطقة الشرق الأوسط في ذلك الوقت. كانت الاتفاقية معجزة بحق جعلت "تايمز" تعلق عليها: "يعتقد الاسرائيليون اليوم أن معجزة ما تنقذهم في الوقت المناسب". ويذكر ستيفن غرين في كتابه "الانحياز للأطراف - العلاقات السرية بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل المقاتلة"، أن "دوايت دافيد إيزنهاور وجون فوستر دالاس كانا على علم بهذه الحائق". وكانا بالقطع وراءها. ويقال دائماً في الأحداث المهمة "ابحث عن المرأة" وفي منطقة الشرق الأوسط يجب أن نقول "ابحث عن الولاياتالمتحدة"، فقد كانت وراء الاتفاقية الأخيرة التي تم بموجبها إقرار التعويضات الألمانية لضحايا السخرة من العمال اليهود الذين استخدمتهم حكومة ألمانيا النازية منذ 60 عاماً. فقد كان ستيوارت إيزنشتات وكيل وزارة الخزانة الاميركية هو المحرك الأساسي للصفقة. ما قلناه ليس مجرد تاريخ ولكنه يصلح كمستند في يد الفلسطينيين والعرب إذا استخاروا الله وطالبوا بتعويضات من إسرائيل على أساس المعاملة بالمثل. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق