يعود القاص اللبناني فؤاد كنعان الى المعترك الأدبي في مجموعة قصصية عنوانها "مديرية كان وأخواتها" دار النضال. وكنعان الذي قدّم مارون عبّود كتابه الأول "قرف" عام 1947 هو رائد من رواد القصة اللبنانية. "لماذا عناء الاجابة عن كل هذه الأمور ما دامت هذه كلّها تتناثر عبر قصصي، هنا وهناك"، أجاب فاء. كاف - اسمي كما في بعض مداعباتي يقول فؤاد كنعان - ردّاً على سؤالٍ حول سيرته. ولم يلبث أن وزّع عناوين جُل قصصه على مراحل في حياته المديدة بدءاً بالطفولة والحداثة وانتهاء ب"المقلب الأخير من العمر وحضوره الكسير في داخلي قبل المغيب...". "القصّ منسوبٌ الى هويّتي" قال. وهي هوية عبَّر عنها تماماً بقافَيْن تصدَّرتا مجموعته الأولى التي من خمسين سنة ونيف: القرف والقيء، هكذا دون أيّ تحفّظ حتى ولا الى ميلٍ اليه. المجموعة التي من ربع قرن أوّلاً وآخراً وبين بين صُنفت "على صعيد الصبا والشباب". وجزء كبير من التي من سبع كأن لم يكن صُنفت "على صعيد الوالدين والأسرة والبيت". وأما هذه التي تصدر لثمانيني لم يرتدّ عن "قافَيْه" مديرية كان وأخواتها فهي ليروي على طريقته "عالم الوظيفة التي ووريتُ في جدتها اثنتين وأربعين سنة... في قنّ منمّس مرؤوساً لرئيس هبنّقة من هبنّقات الأوراق والدبابيس". متفرِّغاً لتصفية حسابه مع "المديرية..." على صفاءٍ خالص من "القرف" العتيق، وإمعانٍ طربي باللغة الساخرة من كل ما يخرج عن "ملمس الإهاب"، وإيغال بقوّة اليقين الى قلب العدَم. ويُخلي ف.ك. مسرحه لأشخاص المديرية. يأخذهم وفق مزاجه في مشاهد تترى. ويحكي على ألسنتهم مجريات اللعبة الدائرة في مكاتب عُلِّقت "على الحائط منها خريطة نافرة تدبّ على بقاعها سقاطات ناس لأنها مكبّ بخمس نجوم ومنتجع ومرقد عنزة جربانة لكنّها حلوب". ومتقدّماً فوق شفا جرف "العودة الى الصفر، الى اللاوجود، الى معانقة البياض" - وهو معنى الموت عند كنعان، الهاجس الأعظم وفقاً لتعبيره - لا يطيب هذا القحْرُ عن عاداته الأولى، بل يمعنُ "كرّاً ووثباً" ملتذاً بمذهبين في الحياة وموغِلاً في استكناه مفاعيلهما في الحواس "الايدونيسم والسينيسم، قُل المتعة والعبث أو قُلْ ما يمكن أن يستغور معناهما الى الحدود القصوى في اللحم الحيّ الآيل الى سراب لا يتبقّى منه إلاّ "عظام نخِرة يعجّ فيها الدود، ويتآكلها، ويمتصها، ويُمزمز". "المديرية" نعم، لكنها تحمل وفقاً للصيغة الكنعانية في "اللعب" معنى الاجتماع البشري في مستوى، والنظام السياسي في آخَر، والوجود الطبيعي الذي هو عند ف. ك. الألفا والأوميغا أوّلاً وآخراً وبين بين واللاشيء قبلهما واللاشيء بعدهما. أكثر من نصف قرن بين مجموعتيه الأولى والأخيرة وهو راسخ في مذهبيه "يتآكلهما ويمتصهما ويمزمز". و"المديرية" ذريعةٌ مثلى لتصعيد الهزء والسخرية في كل المستويات كما لو أن الستارة تُرفع وتُسدل على "كوميديا أونطولوجية" لا يتوهّج فيها إلاّ عصب الجسد في غوايتين. غواية الكلمة و"ألذوذتها" ازاء غواية الشهوة و"العوبتها". غوايتان لفعلٍ واحد عند ف. ك هو فيهما ما بعد عبثي وما بعد شبقي، يريد أن يتخطاهما الى فعل وعيٍ خالص من معوقات الذهن. غوايتان اخترقتا الحسّ المشترك عنده وهما في حلولٍ "مُستطاب" في قعر "روحه" قُل غريزته. والأولى "لا شيء" عند فؤاد كنعان وأما الثانية ف"هللويا". ويلعب كنعان الغواية بأقصى المستطاع لديه. وتعِجّ نصوصه بالفخاخ ينصبها تحت ضوء الشمس، ذلك أنّها "حمّالة أوجُه" تحكي المبتَذل إنما لتعمّمه لاحقاً على الكنْه الإنساني والماورائي برمّته. وتذهب هذه الأوجُه دلالات شتّى ودائماً الى أكثر ما يعنيه ذو نيَّة مُزعزعة على أشدّ ما تتيحه "الألعبانية" من خِفّة. غوايةٌ "فاءْ كافيَّة" تسخّر المباشرة والتوريات والمقارنة الفظّة والنزوع الثعلباني الى النزق والمَسخرة واستلذاذ التهكُّم لا يلوي على أحد والمزيد أيضاً كي "أمارس إنسانيّتي لا أكثر". وأيّ إيمان يجتاح داخلها هو تعتيمٌ للعقل وركون الى "الظلام المطبق". وكلّ استبعاد لهذا العبث "القدّوس" يحيل النصّ الى "مجرَّد ذهنيات ذاهبة من الصفر الى الصفر". القناعة تامّة وراسخة ولزوم اللزوم عند كنعان ب"نعمة" الشبق والانشباق والتشابق يهلّل لها ويتهلّل مترنّماً كأنّها الشهادة تُتلى بحضور العدم. محض العدم الذي بات أقرب الى فاء. كاف منه الى الكينونة المنتمية الى الفعل الماضي الناقص الذي "كأنه لم يكن". ومقتلٌ لنص كنعان قراءته ببراءة الابتذال، فهو لا يمزح وإنما يتطلّع الى الوجود على ما وسعت عيناه المفتحتان ليعترف هاتِكاً أنه لا يرى إلاّ "صورة اللحم والدم". وحسبه - على ما يعتقد - أنه "ربيب القائلين بلا معنى الوجود حتّى يكون متميزاً بمزايا الفطنة والعمق". "لا معنى" ينسحبُ عنده على دُمية النّص التي يجبلها بغريزةِ ديمورج فان. والنص هنا "قصص في رواية أو رواية في قصص" عالمها المديرية - البائدة المنتمية الى الفعل الماضي الناقص إيّاه - وأشخاصها "الذين هم أقرب الى الرخويّات منهم الى سويّ البشر" ونزغاتهم الغريزية ومهزلة وجودهم في دائرة عملٍ همّها الأكبر تنظيم "المُستراح أو الكنيف" الذي يتبدّى عند الموظف القديم أنّه كناية عن واقع العيش في كلّ مستوياته طُرّاً. ويتصابى نصّ الثمانينيّ هنا دافعاً إيدونيسية الثلاثيني الى اختمار علّتها الوجودية في ما يبدو أنه تواطؤ الزمن مع حَمِيّةِ الصّبا من دون أن يعفّ عن هيكل الحمأ المسنون. هيكل يعي خطر تداعيه الماثل فيتمادى في تمتين عمارة "أدبيّة" - المفارَقة في ذروة عبثية - تمت صياغتها ب"ممارسة حبّ الكلمات" ليعود الكاتب الى "خوائه دوماً بخفي حُنين". عمارة واقعية طبيعية "هذا من صميم قناعاتي... كل ما تمليه الطبيعة هو طبيعي. وكل طبيعيّ هو الصواب بعينه"، يقول كنعان على مذهب السفسطائي كاليكليس يتشهّاهُ تشهياً "ليتني ليتني في خانة الأدب الطبيعي"، ويعبّره بسخريةٍ مارون - عبودية استأثرت بالموقع المؤنس لديّ إنما بغريزة هنري - ميللريّة قرأته، قال استباحية إنما منضبطة قياساً بالأخير. وبالتمام والكمال فاء. كاف. "انتي - اكليركي" على الضدّ تماماً من ادّعاء الفضيلة التي يعرّفها بأنها "ضمير جبان مذعور". وبالتمام والكمال فاء. كاف. "انتي - سعيد - عقليّ" على الضدّ تماماً من كل شوفينيّة بلدية لأبناء "حاضرةٍ فينيقية تبيع وتشتري وتمارس البغاء". والإطلاقيّة هنا معزّزة بعدم استكانة كنعان الى النبذ والتعارض وإنما هو لا يألو جهداً في دكّ دوغمائياتهما ومواضعاتهما دكّاً، بالتصريح والتلويح، بالفم الملآن والفم الموارِب، بإجهار العبارة وتلبيسها وبين بين تكاد الكتابة عنده أو تكون التعويض البخس ازاء الكينونة الآيلة الى "خيبة سراب". واللغة وسيلته يتنكّبها بتملُّكِ نِطاسيٍّ "حربوق" ليعمَل عملته بحرفةٍ أمين - نخليَّة على الضدّ تماماً من براءتها وريفيّتها وشبه "بيوريتانيّتها" الرومنسيّة. فاللغة هنا تتحاذق على اللغة كي تولّد من ازدواج أضدادها المتنافرة، وشرارات طباقاتها المتناقضة، واجتماع جناساتها المتخاصمة، إيحاءات لغوية أشبه ما تكون بلغةٍ فصيحة لا تتجسّد حروفاً وإنما تسكن اللغة المكتوبة ضمائر تعبيرية تشحن النصّ بطبقاتٍ من القراءات التي لا يصعب فكّ رموزها لشدّة ما تتوخّى صفاقة "لا تغضّ طرفها المخازي" حيث الحشمة في مذهبها "رياء وخبثنة". ويغزلُها غزلاً لغته فؤاد كنعان على ديدنه المعهود متلمساً عبرها "بعض العزاء ولا عزاء... حين أنظر في أن لا ترضية أتيحت لي، لا في ذاتي ولا في غير ذاتي، لا في تعبي ولا في جناي، لا مع الله ولا مع الشيطان..." فليس أمامه إلاّ المزيد من الغزْل إذاً بديلاً استعارياً لمعنى الوجود عينه مُستمداً هذه المرّة من استكناه الدوام العتيق في المديرية المسرح حيث تمضي الحياة التي هي "العبث بالذات". و"ذات الشيء" لغةً كما يُدرِك كنعان بملء وعيه وإدراكه واعتقاده الراسخ هو "نفسُه وعينُه وجوهرُه".