في إحدى قصص يوسف إدريس، ربما كانت قاع المدينة، يمشي أولاد من القرية مسافات طويلة في رحلتهم قاصدين المدينة ربما كان قد انقضى عليهم في مشيهم نحو من نهار وليلة حين ظهرت لهم، هناك في البعيد، أضواء متلألئة، وحين جلسوا، عند ذلك المرتفع البعيد، جعلوا يقارنون أنفسهم بالنساء اللواتي هناك فرأوا أنهم غلاظ الأطراف مشقّقو الأرجل، فيما نساء المدينة طريات نظيفات، مثلهن مثل الأضواء التي يلتمعن تحتها. كان ذلك المشهد، الواصف المدينة من بعد، كأنما بالخيال لا بالنظر والرؤية، هو أول نص قصصي عربي أقرأه محتفلاً بها. صحيح أن ما أثار خيال الأولاد هو النساء المتهيّئات لتلبية الشهوة، لكن ذلك، في قصة إدريس، لم ينتهِ إلى رسم صورة ناجزة تامة لما هي عليه المدينة. أحسب أن مشهد الأولاد هذا، القادمين إلى المدينة أو النازلين إليها، هي الوجهة التي سلكتها الكتابات القصصية والروائية. في الكتابة اللبنانية، وهي محور ندوتنا، دائماً كانت المدينة هي المكان الذي يُنزل إليه، من خارجه ومن حوله. كأن من كتبوا، جميعهم، هم من أهل الأطراف أو هم من النازلين. والقارئ للأدب اللبناني، القصصي والروائي، ربما تأتيه الفطنة فيتساءل أين هم سكان المدن الأصليون؟ لماذا لا يكتب عن المدينة إلاّ الوافدون إليها؟ ذلك يشبه في ما أحسب عبور أهل التغريبة في المدينة وإقامتهم فيها إقامة موقتة، لكن، مهلاً، ربما كنت هنا أستعجل الوصول إلى النهايات. إذاً تبدو المدينة في الأدب اللبناني مرسومة بريشات الريفيين. في الأربعينات من هذا القرن بدا كأن عهد نزولهم قد انقضى وها أنهم باتوا هناك، في الداخل. لقد وصلوا، وهم بدأوا أولاً بفضح هذه الأضواء التي كانت تتراءى لهم من بعد، في المرحلة تلك من التماس مع المدينة بدا أن لا شيء يمكن أن يُعثر عليه هناك إلا الوسخ والدنس والقيء، أو إنه القرف بحسب ما سمّى فؤاد كنعان مجموعته الأولى، المتناولة المدينة. أذكر رواية لكاتب لبناني هو سمير الحاج شاهين، تأخرت في الصدور في الأربعينات والخمسينات، بدا بطن المدينة فيها وسخاً وشيطانياً. مارون عبود، الذي سبق الكاتبين وقدّم لأولهما، فؤاد كنعان، كتابه "قرف" آثر أن يظل هناك في الريف الذي منه أتى. روايتاه فارس آغا والأمير الأحمر جرت وقائعهما في الريف، وهما روايتاه الوحيدتان، لكنه، في قصصه، رسم صوراً لمن غادر من أبناء قومه الريفيين إلى المدينة، أولئك الذين، من فور أن قفلوا عائدين إلى قراهم، بدأوا يُظهرون عن الكذب والدجل الذي جلبوه معهم من هناك. في مرحلة تالية، في نحو أواسط الستينات وآخرها، طال هجاء المدينة الشعر فطارت شهرة القصائد التي وصفت المدينة بكونها سافكة للدم وأمّاً خائنة لأولادها. من بين مهرجانات الشعر التي كانت تقام في الجامعات لم يحظ موضوع آخر بالشهرة التي حظي بها هجاء المدينة. ونحن، حين كنا بعد طلاباً في الجامعات، كنا نحسب أن شتم المدينة وتقبيحها هو من تحصيل الحاصل. وكانت تلك صورة حظيت بيروت، من بين المدن، بنصيب كبير منها على وجه الخصوص. ذاك أن ما تخيّله النازلون من الأرياف كان في مخيّلات القادمين إليها من البلدان التي تجاورها، أكثرنا، ممن أتيح لهم العيش في زمن ما قبل الحرب ذاك، يذكرون ربما الأوصاف التي كانت تعطى لبيروت الغاوية أو الفاتنة لكن غواية وفتنة شيطانيتين. وفي ظني أن الحرب، حين اندلعت، كان بين وقودها تلك الرغبة في تحطيم ذلك الشيء أو في التشفّي منه على الأقل. قلت إن المدينة كانت تُرسم من مخيّلات النازلين إليها من خارجها، كما كانت مهددة، بوجودها، من تلك المخيّلة. المؤرخ العراقي الراحل علي الوردي لاحظ ذلك فيما كان يقرأ تاريخ بغداد، المدينة التي كانت، على مدى تاريخها، غير مستطيعة أن تستكمل مدنيّتها. وعلى العموم، في ما خصّ الجيل الذي تبع أهله في الإقامة بالمدينة، أقصد جيلنا، أحسب أن تلك الإقامة لم تكن مترافقة مع أي إدراك لمعنى المدينة، أو لمعنى الحيّز المديني. أقصد بذلك الإدراك الثقافي، ذلك الذي يمكنه أن ينظم المشاعر العميقة والمعقدة التي كانت تنتابنا إزاء المدينة. تلك كانت مشاعر وأحاسيس خالصة، وكانت فردية أيضاً، أي من تجارب الأفراد مع ذواتهم. لم يتأسس ذلك في وعي عام مشترك. وحين كتب وضاح شرارة في منتصف الثمانينات كتابه "المدينة الموقوفة" بدا لنا أن هناك مكان لكلام قد يساعد على فهم المدينة وعلى حبّها أيضاً. لكن لا أعرف إن كان حبّ المدينة هذا، المستجدّ علينا، قد تحصّل بسبب الحرب. الرؤية اللبنانية، إذ جعلت في نهضتها الأخيرة هذه تثير ذلك المقدار من الحنين إلى المدينة وإلى أهلها المدينيين، بدت كأنها شرعت بتأسيس فهم للحياة جديد، لكنه فهم قوامه الرثاء. الرثاء الذي حلّ محل الهجاء الآنف ذكره. لكن، أليس هذا ما يحدث عادة في المدن التاعسة، القليلة الحظوظ والأعمار؟ * ألقيت هذه الكلمة كمساهمة في التمهيد للنقاش حول الرواية اللبنانية الذي حمل عنوان "الريف، المدينة، الحرب"، والذي نظّمه في باريس معهد العالم العربي.