ظن ان الكاتب الذي يملك فكرة لكتاب لا يمكن ان يموت، وكانت لديه فكرتان: دراسة عن ادب جوزف كونراد السياسي، ورواية قصيرة تدور في الشرق الاقصى اراد ان يعنونها "قصة لغرفة التدخين". وكان جورج اورويل ينظر ايضاً الى صنارة الصيد التي اهداه اياها صديق ويقول انه سيكون لديه متسع من الوقت ليذهب الى النهر ايضاً. لكنه توفي في كانون الثاني يناير 1950 عندما كانت عروسه الشابة سونيا في ملهى برفقة صديقها لوسيان فرويد، حفيد سيغموند فرويد وهو سيصبح في ما بعد احد ابرز الرسامين البريطانيين. كان تزوج سونيا براونل قبل اربعة اشهر وهو على سرير المستشفى حيث كان يعالج من السل. زواجه من الصبية الجميلة التي صغرته ستة عشر عاماً رفع معنوياته لكن الجميع رأى تدهوره ما عداه. احب زيارات طفله بالتبني لكنه لم يسمح له بلمسه خشية ان ينقل اليه العدوى. كتابه الاخير "1984" اعطاه المزيد من الشهرة والمال بعد "مزرعة الحيوانات" الذي بدأت معه شهرته واحساسه بالبحبوحة. واراد طبيبه ارساله الى مصح في جبال الألب السويسرية "لكن رائحة الموت كانت في الهواء كالخريف في الحديقة" بحسب صديقه مالكولم مغريدج. اريك آرثر بلير 1903 - 1950 اختار اسم جورج اورويل ليطمس انتماءه الى طبقة دنيا من الارستقراطيين، واستقال من الشرطة الامبريالية الهندية في بورما لخجله من كونه ضابطاً استعمارياً. خضع للقيود الطبقية والعرقية اثناء خدمته، ودفعه شعوره بالذنب الى التطهر من "إثمه" بارتداء ملابس بالية والعيش في منطقة شرق لندن الفقيرة بين المتسولين وصغار العمال. غسل الصحون في فنادق فرنسا ومطاعمها، وعاش بين عمال المناجم المعوزين والمتبطلين في شمال انكلترا، ونقل خبراته في مؤلفات سياسية وروائية. لكن الحرب الاهلية الاسبانية هي التي منحته فرصة التعويض العملي عن اشتراكه في استعمار الآخرين. قاتل مع الجمهوريين واصيب بجروح اثرت بشكل دائم على حنجرته وصوته، وناضل في برشلونة ضد الشيوعيين الذين كانوا يقمعون معارضيهم، واضطره امر للهرب من اسبانيا وهو يحمل خوفاً دائماً منهم. هجا الشيوعيين في "مزرعة الحيوانات" وحقق منها ربحاً سمح له بشراء جزيرة اسكوتلندية، وفي "1984" تخيل خضوع العالم لثلاث دول توتاليتارية تتجسس على الافراد وتشوه الحقائق وتعيد كتابة التاريخ كما يلائمها. في الذكرى الخمسين لوفاته نعود لنسأل: لماذا اختار اورويل العام 1984؟ انهى الرواية في 1948 فقال البعض انه عكس الرقمين الاولين. آخرون رأوا انه كان في السادسة والثلاثين عندما نشبت الحرب العالمية الثانية، واذ اراد ان يتنبأ ببداية الحرب العالمية الثالثة اختار السنة التي سيكون ابنه ريتشارد في السادسة والثلاثين. لكن احد الغاز الادب الانكليزي لم يزدد وضوحاً مع اكتشاف قصيدة "نهاية القرن 1984" التي كتبتها زوجة اورويل الاولى، الشاعرة آيلين اوشونيسي، في 1934 في الذكرى الخمسين لتأسيس مدرستها التي كانت ستبلغ المئة في 1984. آيلين توفيت في 1944 وربما كان اورويل يرسل لها تحية باختيار العام نفسه لكتابه. "بوهاوس" التي كانت تجاوز تأثير مدرسة ال"بوهاوس" عمرها القصير بكثير، ولمناسبة مرور ثمانين عاماً على تأسيسها يقام لها معرض في "ديزاين ميوزيوم"، لندن، في شباط فبراير الجاري حتى الرابع من حزيران يونيو المقبل. بدايتها الخفرة في 1919 في بلدة فايمار المحافظة لم تنبئ بانتشارها الآني وجذبها فنانين كباراً مثل بول كلي وفاسيلي كادينسكي. في بيان تأسيسها قال المهندس والتر غروبيوس ان "الهدف النهائي لكل النشاط الابداعي هو العمارة". كلمة بوهاوس تعني "بناء بيت" لكن المهندسين كانوا عاطلين عن العمل بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الاولى. الرسامون ايضاً كانوا من "الكماليات" لكنهم علموا النسج وتجليد الكتب وصنع الفخاريات والرسم على الزجاج وحفر الخشب، وكان الهدف الجمع بين الجودة والعصرنة. ظهر تأثير كادينسكي التجريدي في الأثاث والنسيج عدا الرسم، وهو رأى ان الخطوط والالوان قد تنقل المشاعر وان لم تبرز اي شكل. تعليمه في مشغل "بوهاوس" اثر ايجاباً على عمله الحركة والتناسق معاً عبر الاشكال الهندسية. وامتد تأثير المشغل الى كل ما في النشاط الانساني من الاجهزة السمعية الى ادوات المطبخ والتصوير والرسم والتصميم الداخلي، وما زالت المنتوجات المتعلقة بالمجال الاخير تصنع حتى اليوم. المعرض يركز على سنوات الازدهار في ديساو بعد المرحلة الصعبة في فايمار التي نظرت سلطتها المحلية بعداء الى المشغل "المتطرف". ومن اهم المعروضات صور لمبنى "بوهاوس" في ديساو الذي صممه غروبيوس وجعل جدران المشغل فيه من الزجاج وحده محققاً آية في العمارة العصرية. النازيون الذين سيطروا على المدينة في 1931 لم يعجبوا بروح المدرسة الحرة واغلقوها فانتقلت فترة الى برلين قبل ان تغلق نهائياً. المانيا حاولت بعد الحرب اعادة فتحها، وشاءت الولاياتالمتحدة ان تقلدها لكن محاولاتهما فشلت. كانت مدرسة فريدة لم يسلفها او يخلفها اي مثيل. سترافنسكي بقي روسياً لم يشبه اي عمل له عملاً آخر، وبلغ اعجابه بنفسه حداً قال معه انه يبدع كل مرة من العدم. قال انه حاول دائماً ان ينسى كل ما يعرفه عن الموسيقى عندما يؤلف لكي يكون ما ينتجه جديداً حقاً. وعندما سئل ايغور سترافنسكي عن تأثر عمله الباكر "شرزو فانتاستيك" بكتاب موريس مترلينك الرائج "حياة النحل" نفى ذلك تماماً. لكنه ما لبث ان عبّر عن اعجابه الحار بمؤلف مترلينك في رسالة الى استاذه نيكولاس ريمسكي - كورساكوف قائلاً ان المقطوعة كلها بنيت عليه. في كتابه "سترافنسكي - ربيع مبدع: روسياوفرنسا 1882 - 1934" الصادر عن دار جوناثان كيب، يضيء ستيفن وولش الجانبين الشخصي والفني من حياة الموسيقي الروسي الذي فضّل العيش في فرنسا وجمعته ببلاده علاقة حب ممزوج بالكراهية. كان الباحث الاميركي ريتشارد تاروسكين نشر في 1996 كتاباً في جزءين "سترافنسكي والتقاليد الروسية" ذكر فيه انه بقي متجذراً في الموسيقى الروسية التي عرفها شاباً. وولش بروفسور الموسيقى في جامعة كارديف، ويلز، وهو يحلل اعمال سترافنسكي ويذكر خياناته المتعددة لزوجته الاولى، كاتيا، التي كانت ابنة عمه، وافتتانه بفيرا التي اتقنت لغات اوروبية عدة وبدا انها تعرف كل الاشخاص الذين تفيده معرفتهم. مصممة الازياء كوكو شانيل كانت صاحبة الشقة التي عاش فيها الموسقي، وسجل كل منهما اسم الآخر في لائحة علاقاته الكثيرة. يدين سترافنسكي 1882 - 1971 ببدايته الى مواطن له، سيرغي دياغيليف الذي عرّف الغرب الى وجهي الحضارة الروسية: الامبريالي الفخم والاختباري الجديد عبر فرقة "باليه روس". في 1910 كلّف سترافنسكي بتأليف موسيقى لعرض جديد فكانت تحفته الاولى "طير النار" التي شهدت بداية تعاون طويل. "بتروشكا" و"الزواج" اعتمدتا اسلوباً تكعيبياً لم يغب عنه التأثير الروسي. وصفت "بتروشكا" بأنها فودكا روسية مزجت بالعطر الفرنسي، و"تراتيل الجناز" تستعيد صوت جوقة في كاتدرائية روسية كبيرة. لم يكن سترافنسكي تلميذاً نجيباً لريمسكي - كورساكوف واذهل نجاحه من عرفه في المدرسة. ومع انه كان مديناً لاستاذه ولدياغيليف، سعى الى التحرر منهما في ما بعد انسجاماً مع ايمانه بأنه صانع نفسه بنفسه، ونفوره من ان يذكّره قربه منهما بفضلهما عليه. كان يسيء معاملة الوكلاء الفنيين ويكذب على الصحافيين، لكن السؤال الذي ينهي شكوانا من المبدعين يتكرر معه. هل كان على الابداع نفسه لو كان شخصاً لطيفاً؟ سارتر يعود من العدم كان قد نُحّي جانباً في اوائل الستينات ليعود نجماً في اواخرها بفضل حركة الطلاب في ايار مايو، باريس 1968. مشى جان بول سارتر 1905 - 1980 مع المتظاهرين الذين اقتلعوا بلاط الشوارع ليرموه على الشرطة، وخطب في عمال مصانع السيارات المذهولين في شمال باريس. عاد الى الظل ثانية بعدما تحدت حركة "الفلاسفة الجدد" سارتر وغيره من المفكرين اليساريين، وها هو برنار - هنري ليفي يعيد الاعتبار بقوة الى زعيم الوجوديين في كتابه الضخم "قرن سارتر". عبر سارتر وحده، يقول ليفي، يمكن فهم شيء من المغامرة الهائلة في القرن العشرين. كان يؤدي الخدمة العسكرية عندما اسره الالمان في باريس في 1940 وبقي فيها بعد اطلاقه. تأفف في اعماله الفلسفية ورواياته من التنازلات التي قدمها جيل لم يستطع ان يؤمن بشيء. جلس في كافيه دي فلور في سان جرمان مع سيمون دوبوفوار ومريديه، وتأمل في عبث الوجود وسط الغيوم الكثيفة لسجائر المفكرين والطامحين بتقليدهم. ليفي يمدح طاقته الفريدة التي لن تظهر في احد سواه، ويقول انه سبق ميشال فوكو وجاك لاكان الى نظريات كثيرة لكنه توصل الى الاستنتاجات الخطأ. كيف استطاع هذا "الفيلسوف الرائع ومعلم التفكير الحر" ان يكون شيوعياً مثيراً للشفقة؟ بعض شعاراته لطّخته ببذاءة كان في غنى عنها: "من ضد الشيوعية كلاب". لكنه هو ايضاً من قال ان "الجحيم هو الآخرون" و"المثقف هو الذي يتدخل في ما لا يعنيه" اشارة الى ضرورة ربط التنظير بالعمل. كره العرب سارتر عندما ايد حق اسرائيل في الوجود، وعجب الانكليز من قدرة رجل غير وسيم مثله على جذب النساء، وتساءلوا اذا هو استطاع ان يفهم نظرياته الغامضة. برنار ليفي يقول ان عمل سارتر اعتبر في آخر الستينات نزوة، وان كتابه "الوجود والعدم" كان آخر محاولة في الفلسفة المعاصرة وسعياً الى الهروب من الهغلية. ليفي مثقف ملتزم ايضاً ضد "البربرية التوتاليتارية" ومع الشعوب المهددة بالحرب والتنظيف العرقي كالبوسنيين، ونضاله جلب له شهرة اكثر مما فعلت كتبه. يرى ان اعمال سارتر الروائية ستعود لتجذب الاهتمام كما فعلت مسرحياته التي تقدم اليوم في باريسوبرلين. و"الغثيان" آية فنية، يقول، ولا تزال شابة ومفعمة بالحياة.