لا نغالي إذا قلنا إن التداعيات المستقبلية على "النظام العربي" بل، على "العرب" أنفسهم، هي جد متباينة، خصوصاً اذا ما اقتربنا من الخطوات السريعة والمتلاحقة التي تتم على أرض الواقع، في منطقة المشرق العربي عموماً، وفي داخل المثلث "الاردني - الفلسطيني - الاسرائيلي" خصوصاً. ففي داخل هذا "المثلث" يبدو بوضوح أن "العمل" قائم على قدم وساق من أجل تنفيذ خيار "البينيلوكس" الذي أكدت عليه معظم المشاريع الغربية، والاميركية تحديداً، للتعاون الاقليمي في الشرق الأوسط على غرار الاتحاد الاقتصادي القائم بين دول "البينيلوكس" الاوروبية "بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ"، وذلك رغم ما يبدو على السطح من ظواهر - ربما - لا تؤكده. وبصرف النظر عن المدى الزمني المقرر لهذا "الخيار - الهدف"، الذي يبدو أنه ليس بالقصير الأجل، وبصرف النظر عن المراحل المتتالية التي يمكن ان يحتويها السيناريو المرسوم لتحقيقه، إلا أنه تجدر الاشارة الى ان النواة الصلبة له، او ما يسمى "سلام الشرق الاوسط"، تتكون من شطرين: اسرائيل، والكيان الفلسطيني الوليد لنقل: "القدس" التي تعبر عن ذلك بامتياز، وحول هذه النواة تأتي محاولة ترسيم اثنين من الدوائر. الدائرة الأولى الأساسية: وتشمل "القدس/ غزة/ عمان" وهي الدائرة التي توشك أن تقوم بأداء عملها، بعد أن تم بناء الأوتار الأساسية داخلها الاتفاق "الفلسطيني - الاسرائيلي" والمعاهدة "الاردنية - الاسرائيلية" وعلى ما يبدو فإن القدس سواء بقيت عاصمة موحدة، أو انقسمت - وهذا مستبعد، على الأقل في المرحلة الراهنة - إنما ستظل نقطة ارتكاز لكل من عمانوغزة، إذ أن هاتين الاخيرتين، لن يكون بإمكانهما التعاون من دون المرور بالقدس، ومن الملاحظ هنا، أن الشكل التنظيمي الذي تختاره هذه الدوائر، لن يهم كثيراً سوق صغيرة مشتركة، كونفيدرالية، أو ما شابه، ذلك ان الهموم الأمنية والاقتصادية والاجتماعية ستكون لها الأولوية، بما يدعم أو "يؤسس" للدائرة التالية. الدائرة الثانية الدافعة: وتشمل "القدس/غزة/ دمشق" وهي الدائرة التي تملك الدفع في ماكينة السلام القادم، ومهما يكن الآن، فلا شيء سيأخذ طريقه للعمل من دون أن تبدأ هذه الدائرة في التحرك، وعلى ما يبدو، فإن هذه الدائرة كان يمكن ان تكون أكثر سهولة في التحرك، لولا أن المنهجية الزمنية تصادمت مع المنهجية التاريخية، بحيث أخذت القاهرة الأسبقية على دمشق، وهو أمر كان لا بد منه لكي تتقدم دمشق نحو التركيبة الجديدة ل"سلام الشرق الأوسط"، والملاحظ هنا، ان بيروت وإن كانت تغيب عن هاتين الدائرتين، إلا أنها ستظل دائماً نقطة التقائهما الممتازة، وربما تتمكن من ان تستعيد حيويتها السابقة، إذ تمتاز على الآخرين بالتشريعات والتنوع، واذا كانت بيروت - منذ أمد بعيد - نقطة عبور للسلع والحروب، فإن ما يراد لها أن تلعبه الآن، هو أن تكون نقطة مرور "السلام" وهو ما يمكن ان يتحقق اذا ما تم تحريك القاطرة السورية بسرعة أكبر. وبالنظر الى الدائرة التي تشمل هاتين الدائرتين المتتاليتين، يمكن ملاحظة أنها سوف تشكل منظومة اقتصادية وسياسية وأمنية قائمة بذاتها وسوف تشمل: فلسطين والاردن واسرائيل وسورية ولبنان، ومن ثم، فإن هذه الدائرة سوف تمثل من الناحية الجغرافية منطقة سورية الكبرى "أو: الهلال الخصيب" كما انها سوف تمثل من الناحية الاقتصادية منطقة "السوق الشرق أوسطية" التي يتحدث الكثيرون عنها وعن تداعياتها من دون تحديد اين توحد"؟!"، كما انها سوف تمثل من الناحية العملية الهدف الصهيوني المتمثل في "اسرائيل.. الكبرى" وبخاصة في سياق محاولات ربط بلدان الشام مستقبلاً بعجلة الاقتصاد "الاسرائيلي" وفصم العراق عن الهلال الخصيب اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وبالتالي تصفية أي مشروع وحدوي بين سورية والعراق ومصر بالتبعية. وفي ما يبدو، هكذا، فإن سيناريو الدائرتين المتقاطعتين هذا، الذي أشرنا إليه في كتابنا - المشترك مع أمين أسكندر - "عبور الهزيمة، 1997" واستشهد به بعض الباحثين: مستقبل العالم الاسلامي، خريف 1998 هذا السيناريو، ومحاولات تحقيقه، لا يعني سوى ان الوطن العربي يتعرض في المرحلة الراهنة، وللمرة الثالثة خلال هذا القرن، لصياغة جديدة، سوف يتقرر الى حد كبير بناء على نتائجها وعلى شكل التعامل معها سلباً أو إيجاباً، مستقبل هذا الوطن للعقود القليلة المقبلة. جرت منذ مطلع هذا القرن صياغتان للوطن العربي، ويمثل مشروع "التسوية" الراهن بظروفه وملابساته كافة، المحاولة الثالثة لصوغ الخارطة "الجغراسية" له، فقد تمت الصياغة الاولى، عقب انتهاء الحرب الأوروبية الأولى 1914 - 1918، إذ تم إخضاع المنطقة العربية لنظام "الانتداب" الذي ترافق مع وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، أما المحاولة الثانية، فقد تمت بعد انتهاء الحرب الأوروبية الثانية 1939-1945 اذ خضعت المنطقة لنظام "التجزئية" ونجحت الدول الغربية الكبرى - حينئذ - في زرع "اسرائيل" في فلسطين. وعلى ما يبدو، ففي كلتا المحاولتين - وبحسب ما يرى بعض الباحثين العرب، شكل "واقع" التجزئة ووجود الدولة العبرية في فلسطين، الركيزتين الاساسيتين لسيطرة القوى الكبرى على الوطن العربي عموماً، وعلى مشرق هذا الوطن على وجه الخصوص، وبهذا المعنى، فإن "المحاولة - الصياغة" التي تمرر، في هذه المرحلة، تحت يافطة محادثات السلام، والمحادثات متعددة الاطراف، لا تقل خطورة عن سابقتيها، إن لم تتجاوزهما في الخطورة. ذلك أن "النجاح" خصوصاً من جانب الولاياتالمتحدة الاميركية - في اقامة "النظام: الاقليمي- اللاقومي" المقترح، أي النظام الذي كثيراً ما يتم التعبير عنه ب"النظام الشرق أوسطي" لا يهدد المستقبل العربي، فحسب، وإنما يقوض - حتى - السيادة الوطنية للأنظمةالسائدة في معظم البلدان العربية. الصياغة الجديدة، التي بدأت ملامحها الاولى في أعقاب أفول الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي فعلياً في العام 1989، رسمياً في العام 1991 ومع انطلاق مؤتمر مدريد في العام 1991 لا تقل خطورة عن المحاولتين السابقتين إن لم تتجاوزهما، ذلك ان النظام الاقليمي المقترح سيخضع للتنميط الذي يتناسب مع النموذج السائد، عالمياً، النموذج الذي تتنافس كل من الولاياتالمتحدة الاميركية واوروبا تعميمه على الصعيد الدولي باسم الحداثة والعصرنة والحريات وحقوق الانسان واقتصاد السوق والانسان العالمي والاعتماد المتبادل. وعلى ما يبدو فإن عملية "الفك" و"إعادة التركيب" للمنطقة العربية، سوف تعتمد على منظور الهندسة "الجغرافية - الاقتصادية" والتي سوف تساهم ولا شك في إعادة صوغ الخارطة "الجغرا - سياسية" للمنطقة، بل وفي نقلها من هذا المفهوم الاخير الى المنظور الخادم لترتيبات الساحة الدولية، أي المنظور "الجغرا - استراتيجي". وهنا يمكن توقع أن تقوم التجزئة الثالثة على أربعة محاور: أولاً: محور بلدان شمال افريقيا العربية، أو تحديداً المغرب العربي، الذي ينظر إليه على أنه تابع من توابع أوروبا، دون أن تكون هذه التبعية مؤدية الى انضمام المنطقة الى "السوق الأوروبية الموحدة"، ولعل هذه الدائرة، دائرة شمال افريقيا، خاصة بعد الخطوة المصرية الاخيرة في الانضمام الى الاتحاد المغاربي، تمثل، أو سوف تمثل "الدائرة الأساسية ل"المتوسطية"، ولعل الملاحظ هنا، ان مصر مرشحة لأداء دور نقطة التماس بين "الشرق أوسطية" و"المتوسطية". ثانياً: محور بلدان الجزيرة العربية ما عدا اليمن، أو تحديداً الخليج العربي، الذي يقع في إطار الاستراتيجية العسكرية الاميركية المباشرة، ولعل هذه الدائرة، دائرة النفط، تزداد أهميتها "الجيو- استراتيجية" في إطار ما تدل عليه الابحاث من حاجة القوى الاقتصادية الكبرى ومايحيط بها من تكتلات، اليها وبخاصة ان الابحاث تشير إلى ان النفط يشكل 40 في المئة من مصادر الطاقة بجميع انواعها في العالم، وأن 65 في المئة من المخزون النفطي القابل للاستغلال في العالم يقع في منطقة الخليج مقابل 6،2 في المئة فقط في الولاياتالمتحدة، ولا نجاوز الحقيقة هنا اذا قلنا إن هذه المنطقة ستظل اهميتها ممتدة الى ما يقارب منتصف القرن المقبل، أو الى أن تفتح الثورة التقنية والعلمية "الثورة الثالثة" الراهنة، آفاقاً جديدة لاكتشاف مصادر طاقة بديلة. ثالثاً: محور بلدان المشرق العربي ما عدا العراق، او تحديداً المنطقة التي ساهم الاتفاق "الفلسطيني - الاسرائيلي"، وكذا المعاهدة "الاردنية - الاسرائيلية" في خلق النواة الاقتصادية لها، وهي المنطقة التي تمثل الدائرة الاساسية ل"السوق الشرق أوسطية" خاصة عندما يضاف الى نواتها فيما بعد كل من سورية ولبنان. رابعاً: محور البلدان العربية المتبقية، أو تحديداً: العراق الذي يمكن ان يكون مستقبلاً جزءاً من نظام فرعي اقتصادي وأمين ليشمل الدائرة النفطية وايران، واليمن الذي يمكن ان يلحق على الدائرة الطرفية، في افريقيا، والتي بدأ الترتيب لها من خلال ما حدث في حنيش، وما يحدث في السودان الآن. بيد أن الملاحظة التي نود ان نسوق في هذا المجال، ان هذه المحاور الاربعة، وما سوف تمثله من مناطق، لن تنفصل عن بعضها البعض، ولكن من المرجح ان شكلاً من أشكال التعاون والتبادل سيجمع بينها، وكذا بينها وبين قوى اقليمية اخرى"، مثل تركيا "صاحبة الدور الارتكازي في ترتيبات المنطقة" وايران والعراق "فيما بعد" وفي إطار ظروف اكثر استقراراً، وعلى ما يبدو، فإن "النظام" المقترح يستند الى إرساء شبكة عميقة ومعقدة من علاقات "الاعتماد المتبادل" بين دول المنطقة كافة، وخصوصاً في مجالات البنية الأساسية التي جرى التخطيط لها على أساس إقليمي، سواء بالنسبة الى ربط شبكات المواصلات والاتصالات والكهرباء، أو بالنسبة الى مصادر المياه والطاقة وكذلك التقديمات الخدماتية والسياحية والمصرفية والإعلامية. وليس من المبالغة ان نؤكد انه يمكن من خلال هذه الارتباطات، التحكم في مختلف التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، خصوصا في سياق معرفة ان تنمية شبكة واسعة ومتنامية من التشابكات الاقتصادية بين "اسرائيل" والبلدان العربية من شأنه ان يجعل "كلفة الانفصال" عالية جدا بالنسبة الى الاطراف العربية التي تود "الفكاك" من إسار تلك الترتيبات الاقليمية الجديدة، وهي الأرضية التي يقوم عليها "المنطق الاستراتيجي الاسرائيلي". وهكذا، لعله يبدو بوضوح ملامح النظام الاقليمي المقترح، والترتيبات الاقليمية في منطقة "الشرق الاوسط" بل ومحاولة نقل هذه المنطقة من العالم من المفهوم "الجغراسي" Geopolitical إلى المنظور "الجغراستي" Geostregical الذي يتلاءم مع المتغيرات الراهنة على الساحة الدولية، وذلك من خلال الدوائر الاقتصادية التي تتقاطع مع بعضها البعض على الارض العربية، حيث التصميمات جاهزة والرؤى متكاملة والتنفيذ على وشك أن يبدأ إن لم يكن قد بدأ بالفعل. وهكذا، ومن خلال الدوائر المتقاطعة "الدائرة المتوسطية والدوائر النفطية، والدائرة الشرق أوسطية"، فإن الهدف يتجاوز مجرد انشاء سوق شرق أوسطية تلك الفكرة التي طفت على سطح الانتاج الاعلامي قبل وصول نتانياهو الى الحكم، الى ترتيبات اقليمية متكاملة، ومن ثم فنحن العرب على أبواب مرحلة جديدة لا تقوم فقط على "التجزئية الثالثة" للوطن العربي خلال هذا القرن العشرين، بل تعتمد ايضاً على قاعدة التوظيف الاتجاهي بين كل من "العرب.. واسرائيل"، وبينهما معاً وبين استراتيجيات القوى الكبرى وخاصة الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي خلال العقود الاولى من القرن المقبل، القرن الحادي والعشرين. "التوظيف" الأخير يعتمد - في المنظور الغربي العام - على التحكم في افق وتوجهات النظام الدولي "قيد التكوين" في مرحلة ولادة القرن الحادي والعشرين وهي التوجهات التي تتنافس الولاياتالمتحدة واوروبا على التحكم بها قبل ان تتأسس على "أرض الواقع الدولي". أما التوظيف الاول فيعتمد - من وجهة النظر الاميركية، خاصة - على إحلال علاقات "تكامل" بين مشترين وباعة محل علاقات "العداء" التي أفرزها الصراع على "أرض فلسطين"، وهو ما يكشف عن معضلة اساسية تتمثل في قدرة كل من الطرفين "العرب.. واسرائيل"، على توظيف الآخر. * كاتب مصري.