الكتاب: سورية بلاد الشام - دراسة وملف وثائقي حول اتفاقات سايكس - بيكو المؤلف: الدكتور جوزيف حجار الناشر:دار طلاس - دمشق 1999 من المؤكد ان "التاريخ" لا يمكن استحضاره، فعلاً، الا اذا تمتع بأبعاد راهنية، اي بقدرته على تلمّس ذاته في طيوف معاصرة، ربما تكون نسخاً مكررة لذاتها على امتداد زمني يشكل عمرها ويرسّخ "اصلها" باعتباره "العلّة" المؤسسة والقابلة للاستمرار. وعلى ذلك يتناول الدكتور جوزيف حجّار اتفاقات سايكس - بيكو، انطلاقاً من كونها الاطار الذي ابتكر وصاغ الوجود الراهن لسورية بلاد الشام، على نحو نقلها من بلاد واحدة موحّدة الى بلاد مجزأة مقسّمة الى كيانات مع اصطناع كيان يهودي اسرائيل في جنوبهافلسطين وهو في الحالات كلها كيان غريب وشاذ ومضاد لها في ثقافتها العامة وروحها فضلاً عن وجودها. ويتبدى البعد الراهني للكتاب من السطور الاولى لمقدمته، عندما يماثل المؤلف بين المشهد الدولي الذي تأسس في مؤتمر مدريد للسلام 1991، وبين المشهد الدولي الذي ارتسم خلال وبعيد الحرب العالمية الاولى 1914 - 1918. وهذه المماثلة ليست شكلية في اية حالة، بل انها تحريضية للتأكيد بأن المشهد الاول الراهني انما هو نتيجة للاول التاريخي الذي يبقى "اصل الازمات المزمنة التي يعاني منها مشرقنا العربي، لا بل العالم العربي بأسره في وجوده المضطرب وفي نموه الهشّ". وما ينكشف عليه المشهد الراهن من اختلال في ميزان القوة مع "اسرائيل" انما يؤكد على نحو واضح ان اتفاقات سايكس - بيكو "لم تفقد بعد طبيعة اهدافها مع زوال حكم انتداب الدول الاستعمارية التي ابرمتها ونفّذت موادها. فهذه الاتفاقات ما زالت قائمة في مضمونها وفي ابعادها". ومن هنا يقودنا "الراهن" تجاه "التاريخي" الذي لا بد ان يكون مستمراً على نحو يجعل هذه المسيرة قابلة للانتاج النظري. على ان هذا الانتاج النظري اصبح معتاداً ومألوفاً في المرحلة الراهنة، حيث امتلأت مكتبتنا بأبحاث تؤسس نفسها على "ابعاد تاريخية" في مناقشة الراهن وتحدياته وتفكيك مشهده المعقّد. وربما يذهب بعض من هذه الابحاث الى المرحلة التي يبدو فيها استحضار التاريخ مصطنعاً ومفتعلاً على نحو يسمها بالابحاث الدعائية التي لا تخلو نهائياً من الحقائق، ولكنها تؤسس لخطاب تلفيقي قائم على هذه الحقائق ومستند اليها. غير ان الدكتور حجّار واحترازاً منه من الوقوع في فلك هذا الخطاب ومجاله، يعتبر انه يتميز عن الآخرين بوصوله الى الوثائق الاصلية كاملة غير مكتفٍ بتلك الخاصة بالمراسلات العربية البريطانية. وهكذا شكّل ارشيف وزارة الخارجية الفرنسية المصدر الرئيسي للبحث، الذي قارنه المؤلف مع ما توافر في ارشيف الخارجية البريطانية ليكتشف ان المصادر الفرنسية تحتوي على وثائق فريدة من نوعها وغنية في موادها… الامر الذي اتاح له رؤية صورة تكاد تكون كاملة لعناصر المباحثات بين فرنساوبريطانيا، ولمراحلها التاريخية وخواتيمها. وهكذا اعتبر المؤلف طريقه في البحث آمناً وفريداً وخاصاً، وقابلاً للوصول الى محطات او استنتاجات موثوقة وموثّقة، اي مستندة الى "الوثيقة التاريخية" باعتبارها المصدر الذي لا شك في صحة مضمونه، ومستولدة لخلاصات تشكل الملامح العامة للمرحلة التاريخية مدار البحث. الا ان الدقة الوثائقية لا تبدو الصفة الغالبة في منهج البحث ومميزة له على نحو اطلاقي، بل ان امتداد الاطار التاريخي - الزمني ابتداءً من القرن السابع عشر، وصولاً الى نهاية القرن العشرين، يبدو الميزة الاكثر بروزاً او اهمية في البحث. فلم تعد اتفاقات سايكس - بيكو والحالة هذه مجرد حادث محدود، بل حادث مندرج في مسار التاريخ ومسيرته. يتألف الكتاب من قسمين: اولهما يستند الى ثانيهما الذي يتشكل من مجموعة وثائق تاريخية خاصة باتفاقات سايكس - بيكو، وعائدة الى محفوظات وزارة الخارجية الفرنسية. واشهر هذه الوثائق تلك الرسائل المتبادلة بين رئيس الوزارة الفرنسية بريان والسفير الفرنسي في لندن بول كامبون، فضلاً عن المذكرة التي وقعت في 4 كانون الثاني يناير 1916 من قبل المفاوضين جورج بيكو ومارك سايكس وشكّلت النسخة الاولى للاتفاقات اللاحقة بينهما والتي وضعت في 9 و15 و18 ايار مايو 1916. كما يضم هذا القسم رسائل متبادلة بين كامبون والوزير الفرنسي بيشون، واخرى بين هذا الاخير وجورج بيكو، فضلاً عن وثائق اخرى عدة. اما القسم الاول من الكتاب فهو دراسة تناولت جذور الاتفاقات ومضمونها وابعادها. يوجز المؤلف الجذور التاريخية للاتفاقات في مراحل اربع: الاولى تبدأ من توقف الزحف العثماني في قلب اوروبا بعد رفع الحصار عن فيينا في 12 ايلول سبتمبر 1683، ما سيؤدي لاحقاً الى تحرير بلغراد العام 1718، وبالتالي تبدّل ميزان القوى، ودخول المسألة الشرقية في اطار مسار التاريخ الاوروبي ومجاله على نحو واضح، والثانية تبدأ مع الانحسار العثماني المتصل بعملية التوسع الروسي تجاه جنوب وشرق اوروبا ونحو اقاليم آسيا 1722 - 1779، والثالثة هي مرحلة الثورات والحروب النابوليونية الكبرى والاصلاحات العميقة في اوروبا 1790 - 1840. والرابعة والاخيرة تبدأ مع أفول شخصية محمد علي في مصر وصولاً الى بداية الحرب العالمية الاولى العام 1914. ومن الواضح ان المؤلف يعتمد في هذا التقسيم على كتابه الموسوعي الضخم الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان: L'EUROPE ET Les destine'e du Proche-Orient "اوروبا ومصير الشرق الادنى". على ان هذه الجذور التاريخية تجد اولى نتائجها المباشرة على صعيد الاتفاقات في ما يسميه الكاتب بالمبادرة الفرنسية العام 1915 المتمثلة باتجاه رؤية رئيس الوزارة بريان، الذي وجد ان الوضع يتطلب بحثاً وعملاً مشتركاً مع بريطانيا لتأمين المصالح الفرنسية في البلاد السورية خصوصاً والمشرق عموماً. وهكذا تؤرخ هذه المبادرة للبداية الحقيقية لقصة اتفاقات سايكس - بيكو. وفي الوقت الذي بدأت فرنسا مبادرتها مستندة الى هدف مبدأي وهو الحفاظ على وحدة البلاد السورية كاملة La Syrie inte'grale، الا ان هذا الهدف سرعان ما خضع لمبدأ المساومة مع بريطانيا وصولاً الى تحول الرؤية الفرنسية تجاه التطابق مع الرؤية البريطانية والاستسلام لها فعلياً، بما أدى الى ادراج القضية السورية ضمن اطار القضية العربية العامة "فارتبط المسير السوري الفرنسي الخاص بالمصير العربي البريطاني المتشعب النواحي". وهكذا انتفت المركزية السورية وانقلبت المعادلة التاريخية، حيث كان مصير الاقاليم العربية البعيدة والهامشية يتبع مصير الاقاليم السورية، باعتبار المسألة السورية تشكل جوهر المسألة الشرقية. وفي استقراء راهن يقول المؤلف ان هذا "التحول النوعي في طبيعته الجيوستراتيجية وفي الظروف التاريخية الراهنة هو الذي تتم فيه انعكاسات ومضاعفات في المسار التاريخي الجديد". ثم يستعرض المؤلف مراحل المفاوضات والمنهاج الذي ارتكزت اليه، وصولاً الى اطلاع روسيا عليها ابتداء من آذار مارس 1916 الى توقيع الاتفاقات الثنائية الروسية - الفرنسية، والروسية - الانكليزية، ومن ثم التوقيع على النسخة الاخيرة لاتفاقات سايكس - بيكو في 18 ايار 1916، وفي معرض استنتاجه للابعاد الناتجة من هذه الاتفاقات يعتبر المؤلف ان ثمة ابعاداً رئيسية، تبتدئ بكونها تشكل "اصلاً" لمصير المشرق العربي الراهن، وتتصل مباشرة بالفكر السياسي الامبريالي، وبالممارسات الخبيثة لبريطانيا من خلال اتصالها بالشريف حسين بما جعل الفرنسيين يصفونها بالماكرة La Perfide Albian، وكان ان عطّل الشريف حسين سير احد تيارات التاريخ الجامحة، باستخفافه او بجهله للتعامل الرصين المسؤول. ويصل المؤلف الى القول ان الثورة العربية الكبرى اصبحت آليتها شبيهة بحصان طراودة الذي مكّن فرنساوبريطانيا من غزو بلاد الشام وتمزيقها، بما ادى الى محو الذاتية الوطنية السورية اسماً وفعلاً وواقعاً، فتم القضاء على جوهر المسألة السورية التي تم تهميشها والعمل على نسف خصوصيتها واهميتها التاريخية.