يتوافق هذا الأسبوع مع الذكرى السنوية لحدثين تاريخيين تحكما في مصير المنطقة العربية على مدى عقود طويلة، وما زالا يمارسان تأثيراتهما السلبية الخطيرة على مستقبل الشعوب العربية قاطبة، وأقصد بهما: ذكرى التوقيع على اتفاقية سايكس- بيكو في 16 مايو 1916 التي تم بموجبها اتفاق بريطانياوفرنسا على تقسيم النفوذ بينهما في منطقة «الهلال الخصيب»، وذكرى النكبة التي حولت الشعب الفلسطيني إلى شعب من اللاجئين عقب إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 مايو من عام 1948. ولأن النكبة الفلسطينية لم تكن حدثا منفصلا قائما بذاته وإنما تعد احدى النتائج المترتبة على اتفاقية سايكس بيكو، فإن فهم ما جرى ويجري للعالم العربي منذ بدايات القرن الماضي يتطلب، في تقديري، قراءة جديدة وواعية لثلاثة ملفات مترابطة عضويا، عكست الأهداف والمصالح التي سعت بريطانيا لتحقيقها مع قوى عالمية وإقليمية متنوعة، مستغلة ظروف وملابسات اندلاع الحرب العالمية الأولى، والوسائل والآليات التي استخدمتها لتحقيق تلك المصالح والأهداف. وهذه الملفات هي: 1- الملف المتعلق بالسياسة البريطانية تجاه الحركة القومية العربية البازغة. ولأن هذه الحركة، والتي بدأت تظهر على ساحة المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، استهدفت فصل العالم العربي عن الامبراطورية العثمانية والعمل على تحقيق طموح الشعوب العربية في الاستقلال والوحدة، فقد كان من الطبيعي أن تسعى بريطانيا لاستمالتها إلى جانبها بعد اندلاع الحرب لارباك تركيا وفتح جبهات عسكرية جديدة في مواجهتها. وقد عكست المراسلات المتبادلة خلال الفترة الممتدة من 14 يوليو عام 1915وحتى 30 يناير عام 1916 بين الشريف حسين بن علي، أمير مكةالمكرمة، والسير آرثر هنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني في القاهرة، الطريقة التي تعاملت بها السياسة البريطانية مع هذا الملف. ومن المعروف أن هذه المراسلات بدأت عقب نجاح الشريف حسين في عقد اتفاق مع القوى الوطنية في سوريا لمساعدته في إشعال ثورة عربية كبرى ضد الحكم التركي، وهو ما كانت تهدف إليه بريطانيا، وبلغ مجموعها عشر رسائل. وقد حملت الرسالة الأولى التي بعث بها الشريف حسين مقترحات محددة بشأن حدود الدولة العربية التي طالب باستقلالها، وطلب موافقة بريطانيا على إعلان خليفة عربي للمسلمين، ورد عليه مكماهون مؤكدا موافقة بريطانيا على أن يكون الخليفة عربيًا، لكنه طلب إرجاء البحث في مسألة الحدود المقترحة، بحجة أنه موضوع سابق لأوانه، وهو ما ترك انطباعا سيئا لدى الشريف حسين، حاولت الرسائل التالية إزالته واختتمت برسالة مكماهون في 10 آذار/مارس 1916 متضمنة موافقة بريطانيا رسميا على جميع مطالب الشريف حسين عقب موافقة الأخير على استبعاد محمية عدن ومرسين وجنوب العراق وحمص، على أن يكون من حقه المطالبة بها بعد انتهاء الحرب. 2- الملف المتعلق بالسياسة البريطانية تجاه الحركة الصهيونية التي ولدت في مؤتمر بازل عام 1897 واستهدفت إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين التاريخية. وتعكس أوراق هذا الملف حصيلة التفاعلات الدولية والإقليمية والمحلية التي انتهت بإقدام بريطانيا على إصدار «وعد بلفور» في 2 نوفمبر عام 1917 والذي تعهدت بموجبه تقديم الدعم اللازم للجهود الرامية إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. 3- الملف المتعلق بالسياسة البريطانية والقوى الأوروبية المتحالفة معها في الحرب، خاصة فرنساوروسيا. وقد عكست اتفاقية سايكس- بيكو الموقعة في 16 مايو 1916, حصيلة ما توصلت إليه المفاوضات التي جرت بين بريطانياوفرنساوروسيا خلال الفترة من نوفمبر 1915 وحتى مارس 1916، طبيعة السياسة التي انتهجتها بريطانيا على هذا الصعيد، والتي استهدفت تحقيق حد أدنى من تماسك جبهة الحلفاء في مواجهة جبهة القوى المعادية لها في الحرب، خاصة تركيا. وقد ظلت هذه الاتفاقية سرية ولم تكشف إلا بعد أن نشر رجال الثورة البلشفية في روسيا نصوصها في نوفمبر 1917 بعد نجاحهم في إسقاط الامبراطورية القيصرية. ورغم أن هذه الاتفاقية تحمل اسم البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، إلا أن وزير الخارجية الروسي في ذلك الوقت، سيرغي سازونوف، كان مشاركا رئيسيا في بعض مراحل إعدادها. وبموجب هذه الاتفاقية تم تقسيم منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا التي حصلت على سوريا ولبنان و منطقة الموصل في العراق، وبريطانيا التي امتدت منطقة سيطرتها من الطرف الجنوبي لبلاد الشام مرورا ببغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا، كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانياوفرنساوروسيا. تتعامل الأدبيات العربية مع اتفاقية سايكس بيكو باعتبارها الدليل الأوضح على وقوع العالم العربي في براثن مؤامرة كبرى من جانب قوى الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية. غير أن المتأمل لتفاصيل الأوراق التي تحتوي عليها الملفات الثلاثة المشار إليها آنفا يرى أن بريطانيا تعاملت مع كل الأطراف بنفس المنطق ولم يكن لها سوى هدف واحد وهو كسب الحرب العالمية الأولى والحصول على أكبر غنيمة ممكنة من إرث الامبراطورية العثمانية. فبريطانيا كانت تشكل مركز الثقل الرئيسي في النظام الدولي ومحور التحالفات المحددة لمستقبل هذا النظام، وحين هبت رياح الحرب العالمية الأولى عام 1914 شرعت على الفور في رسم شبكة التحالفات التي تمكنها من الانتصار فيها أولا، ثم من توسيع حدود امبراطوريتها الاستعمارية إلى أوسع مدى تستطيع قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية أن تصل إليه بعد أن تتمكن من هزيمة القوى المعادية لها. وراحت الدبلوماسية البريطانية، انطلاقا من هذه الرؤية، تتحرك في كل اتجاه، مقدمة كل أنواع الوعود والإغراءات، بصرف النظر عما قد يكون بينها من تناقضات، ودون التزام بأي نوع من القيود أو المعايير الأخلاقية التي قد تعرقل مسيرتها نحو تحقيق الأهداف التي سعت إليها. فالحرص على تماسك تحالفها مع فرنسا دفعها إلى إبرام اتفاقية لاقتسام الأراضي التابعة للامبراطورية العثمانية في المشرق العربي «اتفاقية سايكس – بيكو: مايو 1916»، والحرص على كسب ود الحركة الصهيونية دفعها لإصدار تصريح تعبر فيه عن تعاطفها مع طموحات هذه الحركة وتعدها بتقديم كل عون ممكن لمساعدة اليهود «على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين» «وعد بلفور: 2 نوفمبر 1917», والحرص على إرباك الصفوف الخلفية للقوات التركية في الجزيرة العربية دفعها للتنسيق مع الشريف حسين بن علي، والي مكة المتحالف في ذلك الوقت مع التيار العروبي البازغ، في جهوده الرامية لإشعال ثورة عربية كبرى ضد حكم الأتراك في شبه الجزيرة العربية ومنطقة المشرق العربي، مقابل وعد بالمساعدة على إقامة دولة عربية موحدة تحت قيادته (مراسلات حسين – مكماهون: 1916). أصبحت فرنسا والحركة الصهيونية العالمية، بعد انتهاء الحرب وانهيار الامبراطورية العثمانية، في وضع يسمح لهما بإجبار بريطانيا على احترام وتنفيذ ما تعهدت لهما به في كل من اتفاقية «سايكس- بيكو» و «وعد بلفور». غير أن الوضع اختلف بالنسبة للشريف حسين بن علي الذي بدا واضحا أنه كان الضلع الأضعف في مثلث التحالفات التي نسجت إبان الحرب. ولأن الوعود التي قدمت له تناقضت في بعض جوانبها مع تلك التي قدمت لكل من فرنسا والحركة الصهيونية العالمية، فقد كان من الطبيعي أن يعاد تفسير هذه الوعود لغير صالحه، خصوصا وأن الأسرة الهاشمية التي يقودها خرجت من الحرب ضعيفة، بل وكانت على وشك خسارة دعائم سلطتها ونفوذها حتى داخل شبه الجزيرة العربية نفسها. لذا لم يكن غريبا أن تسفر رياح التغيير التي هبت على المنطقة في تلك المرحلة المفصلية من تاريخها عن نتائج كارثية بالنسبة لمستقبل العالم العربي، بصفة عامة، وفلسطين، بصفة خاصة، كان من أهمها: 1- إطلاق يد فرنسا في سوريا ولبنان، وإطلاق يد بريطانيا في فلسطين و شرق الأردنوالعراق. 2- إدراج «وعد بلفور»، الخاص بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، في صلب صك الانتداب الذي وقعته العصبة عام 1922مع بريطانيا، بوصفها الدولة المنتدبة على فلسطين، مما أضفى عليه طابعا دوليا لم يكن يحظى به من قبل. أما الحركة الصهيونية، والتي أسسها هرتزل في مؤتمر بازل عام 1897، فلم تنتظر صدور«وعد بلفور» كي تشرع في العمل على تحقيق حلمها بإقامة دولة لليهود في فلسطين. فالواقع أنها كانت قد بدأت فور انتهاء مؤتمرها التأسيسي في اتخاذ إجراءات عملية على طريق تحقيق هذا الهدف، وذلك بالعمل على ثلاثة محاور متوازية: 1- تدريب أكبر عدد ممكن من اليهود على أساليب الزراعة الحديثة، وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، والعمل على تذليل كل ما قد يصادفونه من عقبات تحول دون استقرارهم هناك. 2- تنمية الوعي القومي لدى اليهود المنتشرين في كافة أنحاء العالم وتلقينهم أسس ومقومات الثقافة اليهودية لتعميق مشاعر الانتماء لفلسطين عند اليهود باعتبارها وطنهم المفقود و «الأرض الموعودة». 3- استخدام كافة الوسائل المتاحة لإقناع القوى المهيمنة في النظام الدولي بأهمية وفوائد المشروع الصهيوني. وبنجاحها في استصدار«وعد بلفور» عام 1917، ثم في إقناع مؤتمر فرساي بضرورة إدماج هذا الوعد في صلب «صك الانتداب» على فلسطين، والذي أبرمته عصبة مع بريطانيا عام 1922، تمتعت الإجراءات الرامية لتأسيس «وطن قومي لليهود في فلسطين» بغطاء قانوني أضفي عليها «شرعية دولية» من نوع ما لم تكن لها من قبل. وبهذا أصبح للحركة الصهيونية ظهيرا دوليا جاهزا ومستعدا لحماية مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، ويملك من الإمكانات المادية والمعنوية ما يجعله قادرا على تذليل كافة العقبات التي تعترض تنفيذ هذا المشروع، بصرف النظر عن مدى ما يتمتع به من مشروعية فعلية. واليوم يكاد المشروع الصهيوني ينتهي من تحقيق أكثر أهدافه جنوحا، أما المشروع القومي العربي فقد أوشك على الانهيار تماما إن لم يكن قد انهار بالفعل. فهل كان هذا حقا نتاج مؤامرة ضد العرب أم مؤامرة من العرب على أنفسهم؟.