من المثير للفكر حقاً القول ان فلاسفة من مقام ابن سينا والغزالي وفخرالدين الرازي يمثلون نماذج تاريخية "لاستقالة العقل" كما انه من المستغرب اطلاق تعميمات مماثلة على اصحاب مدارس فكرية عريقة كتلك التي تمثلت بأعمال اخوان الصفاء او الاشاعرة من هل الكلام. وبعض الكتّاب العرب في مقام المفكر محمد عابد الجابري قدموا مثل هذه الطروحات من باب النقد الذي يمارس، على حد زعمهم، من اجل "التحرر" مما هو "ميت او متخشب في كياننا العقلي وارثنا الثقافي" 1 وانطلاقاً من هذه المعطيات النقدية تُصور فلسفة ابن سينا مثلاً على انها فلسفة "عقل" جعل منتهى طموحه تقديم استقالته، وان مثل هذه الحالة لم تكن نتاج الفكر السينوي عينه، بل كانت نتاج الثقافة العربية والاسلامية كلها، منذ انطلاقتها مع عصر التدوين الى زمن ابن سينا. واذا كان ابن سينا دفع بالعقل "البرهاني" DEMONSTRATIVE الى الاستقالة، فان الغزالي دفع بالعقل "البياني" RHETORICAL الى الاستقالة كما ان رسائل اخوان الصفاء تمثل عند الجابري نموذجاً عن "مدونة لحضور استقالة العقل" في الثقافة العربية والاسلامية. مثل هذه التعميمات فيها افتراء بيّن نتلمس فيه سمات العداوة لكل ما يمت الى الرياضات الروحية والى العرفان والى ما يمكن تسميته ب"الهرمسية" HERMETISM، وذلك انطلاقاً من الاستناد الى مقولات اختزالية في اعتمادها الاحادي على النظر في شؤون المنطق والبرهان والتجريب والاختبار المادي العيني، وذلك مع اغفال الدقة والتعقيد في تشابك هذه المنظومات المعرفية مع الاطر المعرفية ذات الطابع التأملي والميتافيزيقي METAPHTSICAL. ومثل هذا الاغفال يدلل على الطابع الاختزالي عند الناقد الذي لا يقدم بوضوح سمات اسسه المعرفية وأطره "الابيستمولوجية" EPISTEMIC عندما يسترسل في نقده لما يسميه ب"العقل العربي". الاستناد الى معطيات موسوعية وان كانت تدلل على سعة اطلاع صاحبها، لا يقدم الاطر المعرفية الكافية من المنطلق النقدي والفلسفي. فصاحب النقد هذا اي الجابري لا يبرز انحيازه المعرفي لمدرسة او اخرى من مدارس الفكر الفلسفي، بالاخص تلك المدارس ذات الطابع التجريبي "الأمبريقي" EMPIRICIST. فالأسلوب الاسقاطي في تصوير العقلانية المعاصرة من جهة، وتطبيق هذه التصورات كمعيار وميزان لنقد "العقل العربي" من جهة اخرى، لا يقدم تصوراً فلسفياً عميقاً وجديداً في معطياته "الابيستمولوجية" المعرفية. فليس هناك جدّة في اختزال العقلانية المعاصرة الى مجرد كونها عقلانية تجريبية تنقد وترفض العقلانية التأملية. كما انه ليس هناك ابداع فكري في علاقة التناقض والتجاذب بين اصحاب المذاهب العقلانية والمثالية من جهة واصحاب المذاهب التجريبية والواقعية من جهة اخرى. ولماذا اذاً تصور العقلانية عند الجابري على انها معنية فقط بالتحقق التجريبي وعلى انها ملازمة للنزعة الرياضية "الاكسيومية" AXIOMATIC ومترابطة مع الفرضية الاستنتاجية HYPOTHETICO DEDUCTIVE METHOD؟ ومثل هذه الطروحات تحمل اشكالات عميقة من منطلق فلسفة العلوم حتى عند اصحاب المذهب التحليلي المعاصر ANALYTIC PHILOSOPHY. لماذا لا يقدم الجابري مثل هذه الطروحات كمعايير اختزالية للعقلانية ويصور التراث عندنا من خلالها على انه تراث يدفع بالعقل الى الاستقالة؟ وما هي المرتكزات الفلسفية التي تقدم العقل عندنا على انه عقل غير قادر على استخلاص قواعد "غير متناهية" يعمل بها ويتكون ويتشكل في صيرورته التاريخية من خلالها، وبها تتجلى ممكنات ماهيته وكيفية تناوله لمختلف الظواهر بالدرس والتجريب والتأمل؟ ان النظر الى العقلانية من باب كونها معنية بالتحقق التجريبي EMPIRICAL VERIFICATION فيه اختزال واضح حتى من باب تناول ما يمكن وصفه بالقوانين الطبيعية وترابطها مع القوانين العلمية، فهذه ليست دائماً متلازمة مع متطلبات التجريب، بالاخص في اطرها النظرية. ان ربط العقلانية بالتحقق التجريبي مشروع المدرسة الوضعية POSITIVISM ورواد حلقة فيينا VIENNA CIRCLE واصحاب هذه النظرات الفلسفية لم يعد لهم مكان بين مدارس الفلسفة المعاصرة حتى عند المتشددين من اصحاب المدارس التحليلية ANALYTIC PHILOSOPHY او اتباع المدرسة التجريبية EMPIRICISM. كما ان الاعتماد على نظريات "المطابقة" في النظر الى شؤون الحقيقية CORRESPONDENCE THEORY OF TRUTH اصبح له نقاده الكثر في العديد من الدوائر الفلسفية. فكيف يمكن الاستناد الى مثل هذه المنظومات في اختزال ما يدخل او لا يدخل في دائرة العقل غير المستقيل وتصوراته؟ وكيف تستخدم مثل هذه التعيينات في نقد العقل العربي والنظر الى تاريخه؟ وهنالك معضلات فلسفية عميقة لا زالت تقدم اشكالات عدة لا حلول مقبولة لها، ومثل هذه الاشكالات نجدها في محاولات تبرير الاستقراء في البحث العلمي JUSTIFICATION OF INDUCTION وكذلك في النظر الى طبائع الشرح العلمي وعلاقته بقوانين الطبيعة من جهة وبنظريات السببية CAUSALITY من جهة اخرى. والاشكالات في هذا السياق عديدة، فكيف يمكن استخدام معايير منظومات معرفية غير ثابتة في عملية الافتراء النقدي على تراث حضاري وثقافي برمته؟ النقد الذي يقدمه الجابري ربما يكون له قيمته المعرفية من منطلق النظر الى تاريخ الافكار الفلسفية. ولكن الجابري يدفع بنقده الى مرتبة تجعله مُتَضَمناً ضمن هذا التاريخ في انحيازه الفكري الى طرف دون الآخر، وهذا يتجلى في معالجته للصراع التاريخي بين "المعقول الديني" من جهة و"اللامعقول العقلي" من جهة اخرى.2 والسؤال الذي يمكن ان يطرح في هذا السياق يشير الى تجذر الصراع بين "المعقول الديني" و"اللامعقول العقلي" في تكويننا الفكري والثقافي بحيث انه لا سبيل لنا لصد نزوع العقل عندنا الى الاستقالة، فان كانت مثل هذه الاستقالة متجذرة في تكوينا وصميمية في طبعنا الثقافي والفكري، فهل هذا يشير الى كونها حتمية، وغائية؟ وان كان الامر كذلك، فهل تسقط مقدمات النقد وتصبح مجرد "اكتشافات" تحليلية لمعضلاتنا الثقافية والحضارية؟ وان كانت مكونات العقل عندنا ما هي الا مكونات عقل مستقيل، فهل الدعوة الى الانفكاك عنها تغدو مجرد دعوة الى الاستلاب والاغتراب؟ المشكلة التي تواجهنا في مثل هذه التعميمات تدفع بنا الى النظر الى المرتكزات المعرفية التي تستمد معاييرها من منظومات مرجعية مبهورة بالعقلانية المعاصرة، وبإفرازات عصر الانوار الاوروبي، وعلاقته بالمركزية العقلانية LOGOCENTRICISM وما لهذه من ترابط بالحداثة او بتطورات فلسفية للحداثة تقدم العقل على انه عقل متشيء واختزالي ورياضي وتجريبي وبارد. ومثل هذه المنطلقات يمكن ان تتحول الى اطروحات ايديولوجية تمنع التدقيق العميق بمتغيرات الطروحات الفلسفية جاعلة من مرتكزاتها مجرد شعارات فارغة ومأدلجة. الانبهار السطحي بعصر الانوار، وببعض الطروحات حول الحداثة والبحث العلمي، يمكن ان يتحول الى طرح ايديولوجي غائي لا يترفع الى مرتبة البحث الفلسفي العميق. والنقد الذي يمارس من هذه المنطلقات انما يستمد معاييره المعرفية من نظرات متحجرة الى الحداثة لا تنفصل عن المركزية العقلانية الاوروبية والتى توصل الى تعميمات خطيرة في شموليتها، كتلك التي نجد بعضاً من سماتها في تصوير "العقل العربي" على انه عقل يكرس استقالة العقل. الدعوة الى البحث العلمي يجب ان تترفع عن كونها مجرد دعوة شعاراتية جذابة في اناقتها الفكرية و تقديماتها الاختزالية للحلول، بينما في صميمها تشير الى اشكالات فكرية اقل ما يقال فيها انها احادية واسقاطية وتعميمية في تحليلاتها. ومثل هذه الطروحات الجذابة تشد اليها من يطيب لهم تقديم الحلول الانيقة لمعضلات الحضارة والثقافة. وان ما يقال حول "العقل العربي" يمكن ان يسلط من باب النقد ليطاول تاريخ الفكر الفلسفي عموماً من افلاطون الى هايدغر ودريدا من بعده. فخطورة التعميمات تبرز من خلال عدم دقتها في تناول الشؤون الفلسفية والتي لها متطلبات معرفية تختلف عن متطلبات العمل الموسوعي، والتصنيفي، والتاريخي. فالبحث في شؤون الفلسفة لا يمكن ان يتحول الى بحث شعاراتي بل يجب ان يمر عبر مجالات عدة من البحث الفكري المعقد والدقيق والناظر الى شؤون اللغة وتصورات البحث العلمي وعلاقته الصميمية بتاريخ الفلسفة عموماً، وبتاريخ فلسفة ما بعد الطبيعة، خصوصاً. ان ما يشار اليه من باب النقد، الى "العقل العربي"، يمكن ان نتلمس سماته في كل نسق فلسفي وفي كل منظومة معرفية حتى تلك الابحاث الفلسفية المتعلقة بشؤون العلوم والمنطق. ومثل هذه السمات نجدها عند فيتغنشتاين WITTGENSTEIN وعند كورت كودل KURT GODEL وعند هايدغر HEIDEGGER وعند كانت KANT وديكارت DESCARTES وغيرهم من اصحاب الافلاطونية الجديدة NEOPLATONISM… في كل منظومة فكرية نجد ان المعضلات الفلسفية تدفع العقل في الكثير من الاحيان الى عدم استكمال بحثه والى الركون الى مواقف او طروحات او تساؤلات لا حلول مرضية لها ولا استنتاجات كاملة بصددها، فهل هذا يفيد ان مثل هذه المنظومات تدفع بالعقل الى الاستقالة؟ وهل هذا يشير الى ان العقل عينه له حدود متناهية في المجالات التي يخوض بها بحثه؟ وعن اي طبع من طباع العقل نتكلم هنا، واي عقل نحن بصدد النظر اليه؟ فهل معضلة الفلسفة عموماً انها منظومة معرفية تنقلب على ذاتها وعلى طروحاتها وتثقب ارضيتها عينها؟ فهل الفلسفة عينها منظومة معرفية تضع الأسس والمرتكزات المعرفية لتعود اليها مجدداً من باب زعزعتها وتفكيكها؟ وبذلك، هل الفلسفة عموماً تدفع بذاتها وبعقلها الى الاستقالة؟ من المستغرب حقاً الاشارة الى ان من يدعون اتباعهم الى تدبّر شؤون المنطق واموره، والى اتخاذه مدخلاً للعمل، على انهم في كل ذلك لا زالوا يمثلون نموذجاً من نماذج "استقالة العقل". فكيف نفيد بأن من يتخذون المنطق معياراً للعلم انما يكون العقل عندهم عقلاً مستقيلاً؟ فمن يتخذ المنطق سبيلاً لتفهيم طرق الفكر والنظر، وتنوير مسالك الاقيسة للتفريق بين فاسد الدليل وقويمه، وصحيح الدليل وسقيمه، انما يخرج عن دائرة استقالة العقل. والعديد من اعلام الحكمة والكلام والعرفان عندنا توافر على كتب المنطق وجعل من هذه الصناعة ميزاناً للنظر في العقليات والفقهيات والعلوم لتصويب الناظر عن خطئه. وهذه هي الحال عند امثال ابن سينا، والغزالي، والطوسي واخوان الصفاء وغيرهم من الاعلام كالأمدي والايجي وشراح "الرسالة الشمسية" الخ… فعند هؤلاء العديد من الشواهد التي يمكن الرجوع اليها والنظر في شؤونها وفي احتكامها الى صناعة المنطق كمعيار للبحث في شؤون الطبيعة والنفس والالاهيات. وفي محاولة تناول بعض الملاحظات حول علاقة المنطق بالعقل.، يمكن الرجوع الى "المعلم الاول" ارسطوطاليس في تناوله لشؤون "العقل". فالعقل عنده له صورة "لوغوس" LOGOS او له صورة ما يشار اليه بالاغريقية على انه "نوس" NOUS. والعقل من حيث انه "لوغوس" يتفتح على الدائرة الاوسع للعقل من حيث انه "نوس" NOUS. والمراوحة بين هذين المفهومين للعقل نجد سماتها عند اتباع الافلاطونية الجديدة وعند اتباع المدرسة المشائية وعند حكماء العرب والمسلمين واهل الكلام. كما ان لهذه المراوحة بين مفهومي العقل سماتها الدفينة في منطق هيغل HEGEL'S LOGIC وفي كتابات هايدغر الاخيرة. والتركيز على العقل من باب كونه "لوغوس" يدلل على المركزية العقلانية LOGOCENTRICISM، والتي لها نقادها الكثر من امثال اصحاب مدرسة التفكيك DECONSTRUCTION او التأويل HERMENEVTICS، او حتى المناطقة من امثال كورت غودل KURT GODEL وكواين QUINE الذين يشيرون الى ان تعيينات العقلانية والمنطق محدودة التطبيق. فالعقل ليس "لوغوس" محضاً ، فهو ليس عقلاً ادواتياً ومنطقياً بارداً فقط، بل هو عقل "حدسي" ايضاً. وعبارة "لوغوس" كانت لها ترجمات عديدة منها العبارة اللاتينية "RATIO" والتي شكلت لاحقاً جذور العبارة "RATIONALITY" اي العقلانية، وما لهذه من علاقة بالمركزية المعاصرة LOGOCENTRICISM. جذور كلمة "لوغوس" لها علاقة بمشتقات المنطقة LOGIC والقياس والاستنتاج DEDUCTION ولكن العقل لا يختزل الى مجرد كونه عقلاً برهانياً، فالعقل عقل حدسي وتأملي ايضاً، وله تفنيدات شديدة التعقيد في علاقته بملكات النفس من ادراك ووهم وخيال وحافظة، وتصور وتصديق ناتجين عن الحواس الظاهرة والباطنة. والعقل له دور علمي من ناحية البرهان والاستقراء، وله استكمال لهذا الدور من ناحية التأمل والنظر في الشؤون الجليلة التي تترفع عن الحسيات والتجريب. واللغة بشقها الشاعري قد يكون لها ابعادها الفلسفية، كما ان الاعمال الفنية قد يكون لها مراتبها المعرفية في اشارتها الى شؤون الوجود التي لا يمكن الاكتفاء بالنظر اليها من منطلق البرهان ومن منطلق العقل الحسابي والمنطقي التجريبي فقط. الفلسفة عينها تدفع بالاداري الحسي AISTHESIS الى الالتقاء بكل من العقل البرهاني LOGOS والعقل الحدس الكوني NOUS ومثل هذه المراوحة بين البرهان والحدس قد تتبدى للبعض كما لو كأنها تدفع بالعقل الى الاستقالة، ان الفلسفة عينها تصور "العقل" على ان منتهى طموحه "تقديم استقالته". ولكن مثل هذه السمات قد نجدها في معظم الانساق الفلسفية العالمية هذا اذا ما اردنا تناول هذه المسائل من باب التعميمات، فهل الفلسفة عينها تدفع بالعقل الى الاستقالة؟ وهل مثل هذه الحالة تحمل بعداً اممياً بحيث انها لا تنحصر في اطار حضارتنا وحدها؟ واذا كانت الفلسفة بتاريخها الطويل تزعزع اسسها عينها، واذا ما كان العقل الفردي حقاً يدفع بذاته الى الاستقالة، فهل يرتد النقد على الناقد وتكون كل فلسفة لا تزعزع اسسها فلسفة جامدة، ويكون كل عقل فردي لا يدفع بذاته الى الاستقالة مجرد "عقل" متحجر؟ مثل هذه المسائل تتطلب الدرس وذلك بسبب الخطورة الفكرية على المصلحة والمصير عندما تغدو "استقالة العقل" بنظر البعض منا، على انها حصراً سمة حضارتنا. * اكاديمي لبناني يُدرِّس في قسم تاريخ وفلسفة العلوم في جامعة كامبردج. 1 الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي 1: تكوين العقل العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984. انظر ص 7-8. 2 مثل هذا الامر يبدو جلياً في طروحات الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي" وفي المقدمة التي يبرزها في تحليله لكتاب "تهافت التهافت" بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998.