يبدو المخرج والمنتج العراقي سمير الذي يكتفي باسمه وبات معروفاً به فخوراً بعراقيته. وهذا الانطباع لم يكن وليد لقائي العابر به، وانما عززته قناعات كل من عرفه واشتغل معه عن قرب. فهو وان شب وكبر في سويسرا، الا انه لم ينس جذوره وحبله السري المدفون هناك. فقد هاجر هذا الصبي مع عائلته الى وطن والدته وهو لم يكمل بعد سنواته الست. لكن صدى تلك السنوات المترعة بالغليان والمفاجآت، ابان تأسيس جمهورية فتية دشنتها ثورة 14 تموز يوليو 1958، ظل عالقاً في ذهنه. كنت احدثه وهو لا يكف عن تذكيري بمفردات جدته. ويعيد معي تشكيل نغمة كلمات تلك السيدة المتواريه خلف النسيان الا من ذاكرته. كان احساسنا بالقرب والتعلق بعضنا بعض شيئاً غريباً، وهو يسرد لي بعاداً قارب أربعة عقود. ومع هذا، لم يقتل الحزن سعادته الداخلية ولم يدعُه الى الإنكفاء على سره. اذ يشرف حالياً على شركة انتاج سينمائية ويعمل مع مجموعة أصدقاء عرب وأجانب متقاربين في التجربة والافكار، وعبر التركيز على فكرة التزاوج الحضاري بين الشعوب. وكان من ثماره المشاركة في نتاجات عدة حازت على ثناء وتقدير في المهرجانات والتلفزة الأوروبية. "فالشركة الخاصة التي أسستها في بداية التسعينات، هي في حقيقتها تنسجم مع بقايا شخصيتي العربية في تكوين عائلة كبيرة"، كما يقول. قصة سمير، بما فيها الاكتفاء باسمه الأول من دون ذكر اسم والده او عائلته، تفتح باب التساؤل ومعه تستحضر زمناً شخصياً ربما بدا طويلاً، وآخر غير شخصي هو تاريخ العراق بتقلباته وانعطافاته وانفلاتاته الحادة على كل الجهات. بعد سنوات من العمل في مجال السينما والفيديو، وقع عليه اختيار اللجنة المنظمة لمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي الأخير ليصبح عضواً في لجنة التحكيم لأفلام المسابقة الرسمية. وبذلك سجل سابقتين في آن: لبلده من دون معرفة ما سيترتب على معنى هذا الخيار، وثانية تنضاف الى مسيرته الفنية. التقيناه صدفة ودار بيننا الحوار التالي: كم بقى من عراقيتك بعد كل هذه السنين؟ - ربما بعد كل هذه السنين، أجد نفسي في موقع يسمح لي بالقول أن ما بقي من عراقيتي هو الشيء العزيز والغالي. فهي بمثابة اليد او الساق التي لا يمكن الاستغناء عنها. ولدت وعشت سنواتي الأولى في العراق، وكانت طيوف تلك الفترة أجمل ما أحمل حتى الآن. ما زال صوت جدتي ببحته طرياً يرن في ذاكرتي، ولعليّ عبر ذلك الصوت والنبرة والكلمات المستعملة أستعيد بعضاً من اجواء الخمسينات وحميميتها. وماذا عن ذاكرة سنوات الطفولة التي عشتها هناك؟ - فتحت عيني على الإنفجار العظيم والمتمثل بثورة 14 تموز 1958 . كانت تلك الفترة زاخرة بأحداث كبيرة لم أكن أفهمها في وقتها، لكن صورها المختلطة بقت عالقة في ذهني. اليوم لا أستطيع ان أسرد أو أتذكر تلك الأحداث على شكل قصة. لكني أقول ان تلك الفترة لها رائحة شبيهه بعبق الورد الذي يبقى عبيره خالداً مهما طال البعاد واختلفت الطرق. اعتقد ان لوالدي التأثير الكبير عليّ وعلى العائلة في توجهاتنا العامة وشم رائحة تلك الوردة، اذ عبره تلمست خطواتي الأولى وما أعرفه عن العالم. كل ما أقوله هو قلبي على العراق على رغم كل هذه السنين وانا أعيش في بلدي الجديد. وكم وظفت تلك الذكريات وذلك الشوق في اعمالك السينمائية؟ - المشاهد هنا سيدرك مباشرة ان أفلامي ليست سويسرية، وفي الوقت نفسه لا يمكن وضعها ضمن مواصفات الفيلم العربي التقليدية. ربما هذا عائد الى ان أستجابتي لما يجري في العالم العربي تبدو قليلة. وعلى رغم شحة التمويل وصعوبته، الا انني كتبت أكثر من سيناريو يعالج موضوع بناء الجسور الثقافية بين الغرب وبيننا. وكنت أفعل ذلك، ربما بدافع شخصي، يحمل رسالة مفادها البحث عن ممكنات تصالح وتفاهم داخل وجداني ونفسي. كيف طرقت باب السينما، هل درستها واين؟ - لم ادرس السينما بسبب عدم وجود معاهد سينمائية في سويسرا وقتذاك، الا انني خلال فترة السبعينات أقتربت منها عبر الكاميرا من خلال عملي في قسم التصوير وهو ما أكسبني خبرة عملية جيدة، ومن ثم انتقلت الى أقسام الانتاج والمختبرات الى بداية الثمانينات. أي انني خلال ست سنوات تراكمت لدي معارف تقنية توازي ما يحصل عليه الطالب عبر الدراسة النظرية، وهو ما شجعني للعمل مصوراً حراً. خلال تلك الفترة شاع استعمال الفيديو، وكانت قناعتي الشخصية مبنية على ان شيوعه هو موت للسينما. لكنني كنت مدفوعاً بقناعة أخرى وهي ان كل شىء تكرهه عليك ان تتعلمه باتقان. وبعد فترة قصيرة استحوذ عليّ واصبحت متخصصاً به، وبدأت أخلط بين الفيديو والشريط السينمائي، اي الاستفادة من الممكنات الالكترونية المتوفرة وتوظيفها في السينما. لكن هذا العمل بدا لي مملاً بعد فترة ففكرت بكسر الطوق الذهبي الذي أحطت به نفسي، أي كسر العمل في تلك الورشة الفنية. لذا قررت السفر الى المانيا والعمل في التلفزيون. وكان من ثمار تلك التجربة عدد من الافلام التلفزيونية. طموحي كان أكبر من العمل في مؤسسة واحدة، فقررت تأسيس شركتي الخاصة مع مجموعة من الشباب، وجلهم من الأصدقاء، ووضعنا الخطوط العامة لعملنا الجماعي، وكانت هناك فكرة واحدة تشغلنا، الا وهي التزاوج الحضاري. ومن خلال عملنا وجدنا ان جيل الشباب القادم الى هذا البلد هو المعني بهذه الفكرة كون مفرداتها تمثل حقيقته الوجودية واليومية. هل هناك نتاجات لشركتكم تعنى بهذا الموضوع؟ - نعم هناك نتاجات صورت في سويسرا ومرسيليا وكندا وتونس والقاهرة. ولا بد لي من توضيح فكرة ان كل هذه الاشتغالات يجمعها خيط سياسي يدور حول الهجرة والتأقلم والتلاقح الحضاري. هناك، مثلاً، عمل المصرية نادية فارس، الذي اشتركت به في مهرجان لوكارنو قبل ثلاث سنوات. ويدور حول ثلاث نساء يبحثن عن حريتهن في مجتمع ذكوري ذي صبغة تقليدية. وتمكنا من بيعه للتلفزيون الالماني والسويسري والبلجيكي. وآخر "كلاندستاين" عن ستة مهاجرين غايتهم الوصول الى كندا، وهي قصة حقيقة، إلا انهم أكتشفوا بعد حين انهم ضلوا طريقهم في وسط البحر. ثم جاء "الهوية السويسرية"، وهو عبارة عن كولاج شكّله قلق وجودي لسبعة مخرجين شباب يحملون الهوية السويسرية إلا انهم وجدوا بحكم العيش في هذا البلد المنظم، ان لهم ملاحظات تشمل أسس تأقلمهم مع شروط ومسبقات لم تكن في حسبان أحدهم. ما دام للمكان الجديد شروط يتوجب على القادم الجديد التأقلم معها، كيف تسنى لك كفنان وشخص قادم من ثقافة أخرى التصالح مع هذه المفردة؟ - ما ان يطأ المهاجر الأرض الجديدة حتى يصطدم بمشكلتين. تأخذه الأولى في مسارب التعامل مع شروط ومستلزمات حياتية. بينما تقوده الثانية الى حل أشكالية ذاكرته التي تقاسمها مع أبناء بلده الأول. وإذ تبدو هاتان المشكلتان مترابطتين شكلياً، الا انهما متنافرتان في آن. فتناقض الذاكرة مع شروط اليوم هو في حقيقته عذاب شخصي يدفع في أحيان كثيرة الى الإنكفاء والانسحاب داخل النفس. فكلما كانت الذاكرة قريبة من اليوميات الحياتية تسهل إمكانات التأقلم، وما عداها فهو عذاب. أعتقد ان الرأسمالية تمكنت من تأسيس مجتمع قوي، عبر أجبار الناس على القيام باعمال لا يقدمون عليها في الظروف العادية مما أعطى معنى للحياة هنا على خلاف توقعات القادم الجديد. وفي هذا السياق لا يمكنني الأجابة بشكل قطعي عن التصالح مع المكان، فقد صعب عليّ مثلاً تناسي ذاكرة طفولتي التي عشتها في العراق. أعتقد ان البيئة الجديدة تفرض عليك ان تكون شخصية قوية، بمعنى وضع حدود خالية من الرومانسية وتقترب من واقعية التعاطي مع المكان ومن دون التخلي عن الذاكرة الشخصية. ترى كم وظفت مثل هذه القناعات في اعمالك السينمائية؟ - تراها مبثوثة في اعمالي ونتاجات أصدقائي التي وقفت وراءها شركتي وخرجت للنور. لكنني معني بخلق فضاء صوري تنحسر فيه الكلمة والحوار الى حدود التكثيف. فالفضاء الأقرب الى ذائقتي هو الذي يتشكل من عناصر ثلاثة" الأضاءة والصوت والموسيقى. فالأضاءة بأمكانها خلق معادل رمزي لحقيقة الأشياء الصغيرة، بينما يمنح الصوت مناخ الصورة الفني. اما الموسيقى فهي التي تنفخ في الصورة شحنات العاطفة المطلوبة. وذائقتي هذه مؤسسة على ان المشاهد يصعب عليه تذكر حوارات الأفلام، أذ بامكانه أقتفاؤها في الكتب. لذا أعتبر هذه العناصر أكثر أهمية وصعوبة في إنجاز الصورة، فالشريط السينمائي هو ماكنة أكثر عاطفية مما هو حوار غبي لأستدرار العواطف وقتل الوقت. عودة على بدء، كيف تتلقى وبعد كل هذه السنوات أخبار بلدك؟ - الأخبار القادمة من هناك تشي ان الحصار المضروب حول العراق أنتفت قيمته العملية، فهو يحصد حياة الأبرياء من الناس من دون مبررات ومسوغات أنسانية. أنه، أي الحصار، يغلب منطق المصالح الأقتصادية والسياسية على عذابات الشعوب التي لم تستشر في أمورها، وبالتالي وقعت ضحية أطراف تتناطح بحجج عدة ومستقبل البلد يدفع ثمنها.