وصول اليمين المتطرف او الشعبوي الى سدة الحكم، او دخوله حكومة ما، قلما يشكل نبأ ساراً لوسائل الاعلام، حتى اليميني منها. ففكرة الاعلام الموجه التي تغذيها هذه الاحزاب تتعارض مع الحد الادنى من حرية الرأي والتعبير. هكذا كان استقبال الصحافة الايطالية لجيانفرانكو فيني لدى دخوله الحكومة، وهكذا وقفت الصحافة الفرنسية، رغم رسائل القراء العديدة التي كانت احيانا تدين خطها، ضد نجاحات جان ماري لوبن السياسية واستيلائه على بعض المقاعد في المجلس النيابي، او سيطرته على بعض البلديات. في النمسا، تختلف الامور بعض الشيء: فهذا البلد، الذي أراد لنفسه ولادة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، لم يشأ ان يبني صحافة جدية، على غرار الاخ الاكبر الالماني، تقوم بنبش الماضي النمسوي بعيوبه وجبنه واعجابه بالنازية... فقبل ايام قليلة على دخول حزب يورغ هايدر، "حزب الحرية"، الحكومة الجديدة نشرت مجلة "فورمات"، التي ظهرت سنة 1998 كوسيلة اعلام مسؤولة وعصرية، مقالة فحواها ان هناك حسنات لوصول هايدر الى منصب وزير في الحكومة الجديدة. ماذا كتبت "فورمات"؟ هناك، في رأيها، "شلل في الحياة السياسية النمسوية نتيجة عجز الحزبين الرئيسيين: المحافظين والاشتراكيين الديموقراطيين، عن القيام بعملية تجديد للافكار وللطاقم السياسي. فكل ما يجمعهما هو الخوف من هايدر الذي يظهر اليوم كسياسي عصري قادر على تغيير المعطيات بهدوء وبراغماتية...". ثم تتابع المجلة بالتلميح معتبرة انْ ليس معظم افكاره خاطئة وان "البعض منها يستحق بعض التفكير والامعان فيها...". اما الخلاصة فأن دخول حزب هايدر الى الحكومة "هو الوسيلة الوحيدة امام النمسا للتقدم". هذا المنطق في معالجة الازمة يُظهر كم ان فيينا رافضة لأية اعادة لقراءة التاريخ الحديث، او الربط بين ظاهرة هايدر ووصول هتلر في الثلاثينات الى الحكم في المانيا. فمهما اختلفت التحليلات حول ظاهرة هايدر: على هو فقط ديموغاجي، او شعبوي، او قومي - شعبوي؟ ومهما كثرت الفوارق بين حزبه والحزب النازي، وبين المرحلتين التاريخيتين، فان التغييب الكامل لأي تلميح الى الحقبة القومية - الاشتراكية يظهر كم ان هذا الموقف شعبي لدى كثيرين من النمسويين على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم السياسية والفلسفية. هكذا قوبل وصول حزب هايدر الى الحكومة بشيء من العبثية في صحافة فيينا. فبالنسبة الى صحيفة "در ستاندرد" اليسارية "العصرية"، التي ارادها برونو كرايسكي وجها جديدا في الاعلام النمسوي، اي صحيفة رأي غير محافظة، تبدو كل السيناريوهات سيئة: ف"حتى لو قام تحالف جديد بين المحافظين والاشتراكيين لكان فوز هايدر الساحق تثبت في انتخابات قادمة". اما صحيفة "دي برس" المحافظة والقريبة من الكنيسة، والتي احتفلت في السنة الماضية بعيدها المئة والخمسين كدليل على عراقتها الاعلامية في دولة جديدة نسبياً بحجمها الحالي وصغيرة في آفاقها، فاغتنمت الفرصة لتُظهر لحمتها التي تشدّها الى قرّائها والرأي العام لجهة شجب... المقاطعة الاوروبية لفيينا، وكأنما هذه المقاطعة هي الحدث الرئيسي في ما يجري في البلاد. وقد تكون مجلة "بروفيل" الليبرالية الوحيدة بين وسائل اعلام النمسا الاساسية التي لم تشجب الموقف الاوروبي من الحكومة الجديدة. ففي مقالة مطولة، حاولت "دي برس" فهم ظاهرة هايدر. وهنا ايضاً جاء التحليل ليتخطى الحيز النمسوي: فهايدر ظاهرة اوروبية وحتى عالمية. وهو، حسب الصحيفة، يمثل جوانب نراها لدى بلوخر في سويسرا، ولدى بقايا الشيوعيين في المانيا، ولدى فيني في ايطاليا، ولدى عدد من اقطاب اليمين في اميركا: بيروت، بوخنان، فيننورا. ذاك ان غياب الازمة الاقتصادية، لا العكس، هو ما يقوّي اليمين المتطرف: فجمهوره، في هذه الحال، يخشى ان يخسر بعض مكاسبه في المستقبل. كذلك فان ولادة منطقة اليورو التي بدأت تهمّش سويسرا المالية، مثل نهاية الحرب الباردة التي همّشت النمسا الحيادية، والاثنتان تتحملان مسؤولية صعود بلوخر وهايدر. ثم هناك ايضاً الصراع بين الشعب والنُخب التي لم تعد تمثله، في جماهيرية لوبن الفرنسي، او بيروت الاميركي، او كل من يتهجم على "جمهورية برلين" الجديدة... غير ان الظاهرة الاكثر تعبيراً عن وضع صحافة النمسا عبرت عنه صحيفة "كروننزيتونغ" الشعبية التي تستأثر ب 43 في المئة من القراء حتى انها سميت "برافدا النمسوية" لاحتكارها عالم الاعلام. فالصحيفة التي غازلت هايدر في السنوات الاخيرة، قررت خلال فترة تشكيل الحكومة الجديدة التخلي عن بطلها الجديد، ودعم تحالف بين الحزبين التقليديين. بيد ان رياح هايدر جاءت هذه المرة اقوى من توقعاتها التي قيل ذات يوم انه لا يمكن للنمسا القيام بسياسة تعادي خطتها! لذا قررت الصحيفة، وربما للمرة الاولى في تاريخها، الاعتراف بنكستها و… الاشادة بدخول اليمين المتطرف الحكومة الجديدة. فالصحافة النمسوية التي هلّلت لهايدر خلال السنوات الماضية دون ان تضع عليه خطوطاً حمراء، حسب تعبير مدير مجلة "فالتر" الثقافية، لا يمكنها اليوم مقاومته وهو في بداية تحقيق مآربه السياسية... واول الغيث لم يتأخر: فالمتظاهرون ضد حزب هايدر نُعتوا بالارهابيين او بالذين يخشون ان تُقطع عنهم المعونات! اي انهم شحاذون ومنتفعون من النظام السابق. ولقي عدد من الصحافيين توبيخاً من اعيان هذا الحزب لتجرؤهم على طرح اسئلة محرجة. كذلك فان صحافيا في مدينة لينر النمسوية اضطر الى الاستقالة من جريدته، لانه احرج في احدى مقالاته السيد هايدر. فالزعيم اليميني صرّح مراراً بانه سيتخذ قرارات "تمنع وسائل الاعلام من الكذب..."! الكذب وخاصة الجانب الخطابي منه يعرفه هايدر. ففي لقاء على شاشة التلفزيون الالمانية ARD جرى الاسبوع الماضي، نجح في لجم ثلاثة من الصحافيين "الواعظين" من اليسار باستخدامه منطق الخداع الشعبوي. هايدر ظاهرة صوتية؟ سمعاً وبصراً... لا بل سمعاً وطاعة، وسلاما خذ.