ضمن سلسلة الكتب التراثية التي طبعت في مطلع القرن العشرين، والتي تتناول تاريخ أهم المدن اللبنانية، يأتي كتاب تاريخ صيدا الذي طبع في مطبعة العرفان - صيدا سنة 1331 هجرية لمؤلفه الشيخ أحمد عارف الزين، من أهم الكتب التي تعنى بتاريخ هذه المدن وتلقي أضواء مهمة على المراحل التي مرت بها هذه المدينة منذ نشأتها وابتداء عمرانها الى ظهور المسيح عليه السلام وبه تأسيسها وتسميتها وأصل سكانها وموقعها ومساحتها وصمودها وهبوطها وتاريخها المتوسط، وهو من زمن المسيح لزمن ظهور النبي العربي صلى الله عليه وسلم، وفيه فتح صيدا في صدر الإسلام وبعض من نسب لها من العلماء والحوادث الصليبية المشهورة، ومن تولى صيدا زمن بني عثمان وبناء الأمير فخرالدين لها ورحلة الشيخ عبدالغني النابلسي ومن تعاقب عليها من الولاة وحدود إبالة صيدا وعكا وكلام بعض السائحين عنها ومعاملة صيدا الى غير ذلك وصولاً الى تاريخها المعاصر. ففي تاريخها القديم يستعرض الشيخ تأسيسها وتسميتها وأصل سكانها وموقعها ومساحتها، فأصلها في كلام العرب على سبيل الاشتراك، "قال أبو منصور الصيداء حجر أبيض يعمل منه البرام جمع برمة". وقال النضر "الصيداء الأرض التي تربتها أجزاء غليظة الحجارة مستوية الأرض"، وقال الشماخ: "حذاها من الصيداءَ نعلا طراقها/ حوامي الكراع المؤيدات العشاوز"، أي حذاها صرة نعالها الصخور، وهي مدينة على ساحل بحر الشام من أعمال دمشق شرقي صور بينهما ستة فراسخ قالوا سميت بصيدون بن صدقاء بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام. الى غيرها من الأسماء التي يوردها الشيخ الزين للمدينة نقلاً عن العديد من اللغويين العرب الكتاب ص 5 - 6، وفي ما ورد من تعريف لها باللغة اللاتينية وفي العبرانية، كما أن صيدا هي من أقدم مدن العالم واسمها مأخوذ من بكر كنعان بن حام بن نوح وكان ذلك سنة 2218 قبل المسيح أو قبل ذلك، وسميت أيام يشوع صيدون العظيمة وكانت حينئذ أم مدن فنيقية. وصيدا كانت من أشهر الممالك الكنعانية وكانت تعرف بمملكة صيدون التي وضع أساساتها بكر كنعان ودعيت مدينة الصيادين اشارة الى سلطانه الأبوي وشجاعته قال "القديس اغوسطينوس" "لم يكن هذا الإسم ليدل فقط على القوة والحذاقة في اصطياد الحيوان، بل على الشجاعة والمهارة في التسلط على الناس واسترقاقهم فرفع هذا البطل مقام عشيرته بشهامة وحسن سياسة في صدر الأجيال الأولى فجاء شعباً مقداماً سعى وراء المنافع ونال قصبات السبق في التسلط على البحار فصارع بذلك نمرود الكوشي ولقب شعب صيداء وكل الشعب الكنعاني بالصيدوني". أما عن ملوكها وسياستها وسائر أحوالها الاجتماعية، فيشير "الزين" الى أنه يصعب على الباحث في أحوال صيداء أن يعلم شيئاً أكيداً عنها منذ ابتداء عمرانها تفصيلاً وغاية ما يمكن معرفته من الكتاب والآثار إجمالات لا تشفي الأوام ولا تَفي بالمرام والذي يظهر من خلال أبحاث المؤرخين ومجموع أقوالهم أن الصيدونيين صرفوا همّهم للتجارة والكسب والاستعمار، فلم يعبأوا بالسياسة كثيراً ولم يدوّن لهم عنها إلا شيئاً يسيراً، فحكومتها كانت مستقلة في داخليتها كغيرها من المدن على أن جماعة من الأعيان فيها كانوا يعضدون السياسة "الاريستوكراتية" أي المنسوبة الى حزبهم. وأما عن صعودها وهبوطها فيذكر أحمد الزين أن بناء صيداء تم قبل المسيح بزهاء ألفين وخمسماية سنة، وقد أجمع المؤرخون بأن زمن عظمتها ووقت سؤددها دام نحو ألف ومايتي سنة، أما ابتداء انحطاطها فكان في القرن الخامس عشر قبل الميلاد لأن اعتماد الصيدونيين كان على الملاحة والاستعمار وقد استعمروا جزائر الأرخبيل، ويسجل أحمد الزين اندهاشه لعدم ذكر المؤرخين أسماء ملوك صيدا في ذلك الحين، مع أنهم ذكروا ملوك صور واحداً واحداً، ويعزو ذلك في كون الاكتشافات لم توصلهم الى ذلك وهي وحدها المعول عليها في هذا الباب. أما عن تاريخها المتوسط، فيورد بأن سورية ومن جملتها صيداء كانت بيد الرومان، دامت بعد ذلك زمناً طويلاً، وفي هذا العهد سميت صيداء، ومن المقرر الثابت بأن المسيح زارها لأنه جاء في الإصحاح الخامس عشر من انجيل متى ثم خرج من هناك وانصرف الى نواحي صور وصيداء وفي الإصحاح السابع من انجيل مرقص ثم قام من هناك ومضى الى تخوم صور وصيداء، وقد ظن البعض بأنه لم يدخل صيداء بل أتى الى تخومها على أن المحققين يذهبون الى أنه دخلها، ويورد "الزين" كلام الدكتور بوست صاحب "قاموس الكتاب المقدس" وقوله أنه من الذين سمعوا وعظ المسيح أناس من أهل صيداء جاءوا ليسمعوه ويشفوا من أمراضهم، ولا يبعد أن تكون النصرانية بعد تلك الزيارة قد انتشرت انتشاراً عظيماً بعد المسيح فدان بها كل سكان صيداء أو جلَّهم حتى كان لصيداء من مشاهير الكهنة ما دُون ذكرهم التاريخ، ويدل على ذلك مرور بولس الرسول في صيداء لتفقد المسيحيين وذلك حين ذهابه الى روما، كما أنه من مشاهير أساقفة صيداء في القرن الثالث زينو بيوس مؤلف كتاب "سورية المقدسة" وقد قتل مع جملة كهنة في إيعاز "الملكين ديو كلتيان ومكسيميان" من ملوك الرومان واشتهر في القرن الخامس "دميانس" من أساقفتها أيضاً و"أندراوس" في القرن السادس. أما عن تاريخ فتحها على يد العرب المسلمين، فيورد مؤلف الكتاب بأن صيداء فتحت عند فتوح الشام، ولكن من كان عاملها آنئذ وكيفية منحها وحالتها الاجتماعية فهي مجهولة، حتى أن خبر فتحها لم يتعرض له من المؤرخين غير ابن الأثير، فالطبري وأبو الفداء لم يتعرضا لفتح صيداء، بعدها ينتقل مؤلف الكتاب للإشارة عن صيداء كولاية، فيذكر بأنها كانت مُتْسِعة النطاق بحيث تمتد من حدود ولاية طرابلس عند المعاملتين في كسروان الى جنوبي قيصرية في فلسطين وتعطى لملتزمها بمال يماثل مال طرابلس ويشترط عليه أن يصحب الحج الشامي مثله وأن يجند تسعمائة فارس وألف راجل، وله لقاء ذلك أن يستوفي الأموال والضرائب ويعطي بالإلتزام بلاد الدروز والمقاولة وبعض قبائل البدور". يُعرج مؤلف الكتاب على تاريخ صيداء المعاصر، ويؤرخ لهذه الحقبة التاريخية بدءاً من السنة 1860 م وهي الفترة التي شهدت اشتعال الفتنة في جبل لبنان واندلاع لسان لهبها الى جميع أطراف سورية، وكان لصيداء وسائر أنحاء جبل عامل منها نصيب، وقد دمرت بليل، ويعتبر الشيخ الزين أن العامل الأكبر منها، هم بعض كبار رجال الدولة وذلك لإسقاط السلطان عبدالعزيز، وكانت النتيجة استقلال لبنان تحت سيادة الدولة العثمانية، ثم يذكر بقص آثار صيداء وأهمها بقايا الفينقيين، ومنها مدافن الإسكندر الذي زارهُ مدير الآثار "حمدي بك" ونقل تلك الآثار الى الآستانة ووضعت في المتحف السلطاني ويؤيد مؤلف الكتاب هذه الوقائع بأقوال بعض الثقات ويعدد العديد من الآثار التي نقلت الى الآستانة ومنها نواويس عديدة، وبعد أن يستعرض المراحل التي مرت لاكتشاف هذه الآثار، يُشكك في أن تكون الاسكندرية هي مكان مدفن الاسكندر، ويستند في ذلك على رأي عالم الآثار "غربلا" الذي ينفي ذلك محتجاً بأن الجمّ الغفير من المؤرخين المحققين ارتابوا في صحته، وقد راقت أدلة "غربلا" في أعين رفقائه فعدلوا عن رأيهم واعتصموا برأيه، فإذا صح ذلك كانت صيدا هي مدفن الاسكندر لا الاسكندرية. وعلى هذا يقول مؤلف الكتاب بأن بحث "شليمن" عن تابوت الاسكندر في الاسكندرية جهد على غير جدوى وتعب على غير طائل الكتاب ص 88 - 89، كما يُورد أنه قد وجدت في أحد بساتين صيداء أنصاب متعددة ملونة يرتقي عهدها الى أيام اليونان وعليها كتابات تدل على أنها نصبت فوق مدفن ذكراً لجنود غرباء ماتوا في الحرب، وعندما اكتشفت هذه الأنصاب كانت ألوانها زاهية ناصعة - وكذلك وُجدت مدافن عديدة على شكل المغاور منها مغارة موقعها في أملاك سعادة علي باشا جنبلاط فوق أكمة خلف صيداء، وكان منها ناووس من الرخام الأبيض حسن الشكل مع بساطة نقوشه، وكان في الناووس رمم حيث ظنوا أنها امرأة... هذا الى جانب العديد من الآثار التي يحفل فيها الكتاب. ثم ينتقل الشيخ الزين الى تعداد مساجد صيداء، ومنها الجامع الكبير وقد طغى عليه البحر سنة 1820 م فهَدمَهُ وجعله قاعاً صفصافاً فأعيد بناؤه بشكل جميل جداً على نفقة الحكومة والأوقاف، ويدعى الجامع العمري لأن الفتح كان زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والخطيب الذي يقرأ الخطبة ويصلي الجمعة به هو الشيخ مصطفى كنعان ثم جامع البطاح وجامع القطيشية وجامع الكتخدا وجامع السرايا وجامع البحر والجامع البراني وجامع المجذوب المنسوب لآل المجذوب وهي من الأسر المعروفة في صيداء. ثم يتناول مؤلف الكتاب كنائس صيداء ومنها كنيسة الموارنة وقد اشتراها أبو طالع من بشري سنة 1616 بخمسة عشر قرشاً من بيت العرقاوي وكانت مصبنة، وقد أصلحت بعد ذلك" وكنيسة الكاثوليك التي بناها المطران باسيليوس حجار سنة 1293 وهي من أبدع كنائس صيداء، ويذكر بأن الكاثوليك كانوا قبل ذلك يقيمون القداس في كنيسة مشتركة بينهم وبين الروم الأرثوذكس، ثم كنيسة الروم، وهي كنيسة قديمة لم يتصل بالمؤلف تاريخ بنائها وكنيسة الفرنسيين وكانت تقع في خان الإفرنج ويسمى المكان الواقعة به ديراً ثم كنيسة اليسوعيين وكانت واقعة في نفس مدرسة اليسوعيين وهي قديمة جداً ويظهر أنها من بناء الأمير فخرالدين المعني. ويتوقف المؤلف عند مدارس صيداء وخصوصاً المدارس الخيرية التابعة لجمعية المقاصد الخيرية، وأسست هذه الجمعية في 26 ربيع الثاني سنة 1296 هجرية الموافق 6 نيسان ابريل سنة 1295 "مارتيه"، كما يذكر أسماء الأعضاء المؤسسين لهذه الجمعية. كما يعطي جدولاً بقيمة الواردات والمصارفات من بداية شهر حزيران يونيو سنة 1311 وحتى نهاية شباط فبراير سنة 1324 شرقي، كما أنه كان للأجانب مدارس منها مدرسة الأخوة المريميين ومدرسة الفنون الأميركية في صيدا. ويذكر أن عدد تلامذة هذه المدرسة قد بلغ سنة 1912 198 تلميذاً وعدد المعلمين فيها 20 معلماً بين أجانب ووطنيين معلمي علوم ومعلمي صنائع. ثم مدارس الإناث الأجنبية ثم مدرسة نموثة رشدي. كما يورد مؤلف الكتاب وجود المحلات العامة في صيدا، الفنادق، الحمامات، كما يتوقف عند الجمعيات الموجودة في المدينة ويورد لائحة بأسماء قائمقامي صيدا، كما يستعرض تجارة صيداء وزراعتها وصناعتها مرفقة ببيانات تفصيلية عن أهم الواردات العام 1907 وأهم صادراتها وبياناً بالمراكب التي دخلت ميناءها العام 1907، ثم يُعرج على الصحافة والطباعة فيذكر الى أنه الى جانب مجلة "العرفان" التي أصدرها، فإنه قد أصدر جريدة سيارة أسبوعية دعاها "جبل عامل" وذلك في المحرم سنة 1330 هجرية. وصدرت سنة كاملة. كما يتوقف في الحديث عن أسر صيدا ومنها أسرة عسيران والزين وأسرة البزري والصباغ وقطيش وحشيشو وأباظة ولطفي وجلال الدين وهم يُنسبون الى الحسين عليه السلام، وكان منهم نقيب الأشراف، وأسرة الجوهري وأسرة الصلح التي نبغ منها نوابغ وأسرة أبي ظهر والشماع والمجذوب والمغربي والشريف والكشتبان وأسرة سنجر والأنصاري والزعتري وخرزمي والبساط. ويورد أسماء بعض الأسر المسيحية ومنها أسرة غور الموارنة وحبيب وعطية والكيال وغماشة والعازوري وأسرة دبانة وصاصي والفران وذاخر والفغري والنعسان وضومط وأبيلا. أما عن أدباء صيدا فعدد اسم الأديب محمد علي حشيشو الكاتب المعروف وهو كان من كتاب سورية المعروفين. والكتاب هو سِفرٌ تاريخي مهم يندرج ضمن المصادر التاريخية القيمة التي تلقي الأضواء على تاريخ هذه المدينة التي لعبت دوراً مميزاً في تاريخ لبنان، فجاء هذا السفر حافلاً بالمعلومات التاريخية التي تساعد الباحثين لمعرفة أدق التفاصيل المتعلقة بتاريخ مدينة صيداء. عبر العصور التاريخية المتعاقبة. * كاتب لبناني.